يُعد حي ساروجة في دمشق واحدًا من أبرز الأحياء التاريخية في مدينة دمشق إذ يمثل شاهدًا حيًا على تطور العمارة الدمشقية التقليدية في العهدين المملوكي والعثماني.
نشأ الحي خارج أسوار المدينة القديمة فشكّل امتدادًا عمرانيًا وحضريًا حافظ في الوقت نفسه على الطابع الإسلامي في التنظيم العمراني والعمارة السكنية، وما يميز هذا الحي أنه يجمع بين البعد الوظيفي والاجتماعي والرمزي، حيث اندمجت فيه الأسواق والخانات والزوايا الدينية مع البيوت الدمشقية الفاخرة، في نسيج عمراني متكامل يعكس هوية دمشق وخصوصيتها الحضارية.
أكمل معنا هذا المقال لتتعرف أكثر على حي ساروجة الدمشقي….
Contents
الموقع الجغرافي
يقع حي ساروجة في دمشق خارج أسوار المدينة القديمة إلى الشمال الغربي من قلعة دمشق، يحدّه من الشمال البساتين الزراعية وعين الكرش والدحداح، ومن الشرق العقيبة والعمارة البرانية (سوق الهال القديم)، ومن الجنوب البحصة والسنجقدار، أما من الغرب فيتصل بأحياء المهاجرين.
وقد تأثر الحي تاريخيًا بشبكة فروع نهر بردى التي كانت تغذّي بساتينه، كما ساهمت هذه المجاري المائية في تشكيل نسيجه العمراني وفق مساراتها الطبيعية.
وقد شكّل موقع حي ساروجة في دمشق حلقة وصل بين قلب المدينة المسوّرة والمجال الزراعي شمالًا وبين الامتدادات الحضرية الحديثة غربًا، مما منحه عبر العصور دورًا استراتيجيًا في النشاط التجاري والعمراني لدمشق.
وكان الدخول إليه من جهة الجنوب يتم عبر بوابة النهرين (ساحة المرجة) ومحلة البحصة، أو من جوزة الحدباء أو من البوابة الجنوبية الشرقية المسماة “باب الآغا” في محلة عين علي عبر زقاق القرماني.
وقد ساعد الموقع الجغرافي لـ حي ساروجة في دمشق على ازدهاره، إذ مثّل نقطة وصل بين دمشق القديمة وطريق القوافل المتجهة إلى بيروت وحمص فكان مركزًا للنشاط التجاري والسكني الراقي في العهد المملوكي، ثم تنوع نسيجه الاجتماعي في العهد العثماني وما بعده….

اقرأ أيضًا: الجامع الأموي في دمشق… جوهرة التراث الإسلامي
أصل التسمية
تتعدد الروايات التاريخية حول أصل تسمية حي ساروجة في دمشق وهو ما يعكس تداخل العوامل اللغوية والتاريخية في نشأة المصطلح.
فتشير بعض المصادر ومنها ما أورده المؤرخ إلى أن التسمية مشتقة من كلمة “السروجة” وهي مادة إنشائية تقليدية مكوّنة من خليط الكلس والرماد كانت تُستخدم في طلاء الجدران وتقوية الأسقف في العمارة المملوكية والعثمانية.
بينما يذهب رأي آخر إلى أن الاسم يرتبط بشخصية تاريخية مملوكية يُحتمل أن تكون الأمير ساروحة أو ساروجة، أحد أمراء القرن الرابع عشر الذين أسهموا في تأسيس النواة الأولى للحي.
وتُطرح أيضًا فرضية لغوية تربط الكلمة بجذور تركية أو فارسية قديمة تحمل معنى اللون الأصفر أو الذهبي، وهو ما قد يتوافق مع طبيعة التربة أو لون البناء في المنطقة آنذاك.
ورغم تعدد هذه الروايات يبقى المؤكد أن التسمية ارتبطت منذ نشأة الحي بخصائصه العمرانية ومكانته التاريخية على تخوم دمشق القديمة.

اقرأ أيضًا: مقهى النوفرة، قصيدة مكتوبة على فنجان قهوة
النشأة والتاريخ
يعود تاريخ حي ساروجة في دمشق إلى القرن الثالث عشر الميلادي غير أن انطلاقته الحقيقية جاءت في أواخر ذلك القرن مع الأمير المملوكي سيف الدين تنكز، الذي شيد فيه عددًا من المنشآت العمرانية والدينية، فأعطى الحي طابعًا مميزًا وأرسى أسس ازدهاره.
في العهد المملوكي، برز حي ساروجة في دمشق كمركز حيوي للحياة التجارية والحرفية فقد احتضن الوكالات والخانات والمساجد والزوايا الصوفية واستفاد من موقعه على طريق القوافل المتجهة إلى بيروت وحمص.
وساهم تنافس الأمراء في بناء المدارس والجوامع والحمامات في إضفاء طابع معماري راقٍ على الحي وكانت المدرسة الشامية البرانية أحد أهم المعالم التي أسهمت في توسعه.
لكن الحي لم يسلم من تقلبات التاريخ ففي عام 803 هـ (1400م اجتاح تيمورلنك دمشق وحوّل ساروجة إلى قاعدة عسكرية لقصف القلعة، ثم أضرم فيه النار قبل انسحابه ما أدى إلى دمار واسع.
ومع دخول العثمانيين عام 1516 بدأ الحي يستعيد عافيته تدريجيًا وتحول إلى منطقة سكنية راقية استقرت فيها أسر دمشقية بارزة، كما أصبح مقرًا لعدد من رجال الدولة العثمانية الذين أطلقوا عليه اسم إسطنبول الصغرى.
في تلك الفترة اشتهر الحي ببيوته الدمشقية الفاخرة المزخرفة بزخارف “العجمي”، إلى جانب استمرار نشاطه التجاري، وفي القرن التاسع عشر شهد حي ساروجة في دمشق تغيرات عمرانية واجتماعية بفعل تزايد السكان وتنوع التركيبة الاجتماعية، فاجتمعت في رحابه البيوت الفخمة إلى جانب الأحياء الشعبية.
أما في القرن العشرين، فتراجع دوره الاقتصادي لصالح مراكز تجارية أحدث لكنه ظل محتفظًا بمكانته التراثية والمعمارية، ومع الزمن وخاصة في السنوات الأخيرة، تعرض الحي لأضرار جسيمة أدت إلى فقدان أجزاء من نسيجه العمراني وضياع جزء من ذاكرة دمشق الحضرية.

اقرأ أيضًا: جبل قاسيون.. الحارس الأبدي لدمشق
الطابع المعماري لحي ساروجة
يتسم الطابع المعماري لـ حي ساروجة في دمشق بكونه نموذجًا متكاملًا للعمارة الدمشقية التقليدية التي تطورت في إطار العهدين المملوكي والعثماني، حيث يقوم النسيج العمراني للحي على محور رئيسي يعرف بـ السوق أو “السويقة” وتتفرع عنه شبكة من الأزقة الضيقة والمتعرجة ذات الطابع التقليدي والتي تتخللها عقدات فراغية صغيرة تعكس تخطيطًا عضويًا يستجيب للخصوصيات المناخية والاجتماعية، ويحتفظ الحي بملامح معمارية متوارثة من أنماط البناء الإسلامي الحضري.
حيث تتوزع البيوت حول أفنية داخلية تتوسطها نافورة ماء (فسقية) وتحيط بها أشجار النارنج والياسمين، فيما تتزين الجدران الداخلية بزخارف حجرية من نوع “الأبلق” التي تجمع بين اللونين الأبيض والأسود
إلى جانب العناصر الخشبية المحفورة بدقة مثل المشربيات والأبواب الكبيرة المصنوعة من الخشب المصفح بالمعدن.
كما يضم الحي عددًا من الزوايا الدينية والخانات التجارية القديمة التي اندمجت مع نسيجه العمراني، وانقسم تاريخيًا إلى عدة حارات وزقاقات من أبرزها: زقاق المشرقة، وزقاق الحكر، وحارة القولي، وحارة القوس، وزقاق الدرويشية، وكل منها ارتبط تسميته بعائلات أو مهن أو معالم معمارية مميزة.
وتظهر في بعض مباني حي ساروجة في دمشق سمات العمارة المملوكية من خلال الأقواس المدببة والمقرنصات، إلى جانب عناصر عثمانية لاحقة تجلت في المآذن والشبابيك المقوسة.
ويكشف التدرج الوظيفي في الكتل العمرانية من الأسواق الواقعة على المحاور الرئيسة إلى البيوت السكنية في العمق عن ترابط وثيق بين البنية المعمارية والدور الاجتماعي–الاقتصادي للحي عبر العصور.

أهم المعالم في حي ساروجة
يُعدّ حي ساروجة في دمشق من أبرز أحياء دمشق التاريخية التي نشأت خارج أسوار المدينة القديمة في العصر المملوكي وقد شكّل مركزاً عمرانياً وسكانياً متكاملاً.
فقد احتضن منذ نشأته المدرسة الشامية البرانية التي مثّلت نواة تأسيسه وتوسّعه، إلى جانب عدد من المدارس والزوايا والجوامع التي لعبت دورًا بارزًا في الحياة العلمية والدينية، مثل جامع القرماني الذي أنشأه محمد القرماني في العهد العثماني.
كما يضم الحي عددًا من الحارات التي حملت أسماء دالّة على طبيعة سكانها أو منشآتها مثل حارة العبيد التي ارتبطت بوجود الخدم والعبيد في بيوت الأسر الميسورة، وحارة الورد التي أُنشئت في عهد الأمير تنكز المملوكي وحارة قولي (المحرّفة عن خولي نسبة إلى الشيخ محمد الخولي)، إضافة إلى حارة ستي زيتونة التي ارتبطت بمقام ستة شهداء دُفنوا بجوار شجرة زيتون.
وكان للحي أسواقه الخاصة التي لبّت احتياجات سكانه اليومية، وأبرزها سوق الخجا وسوق الهال القديم إلى جانب خان البطيخ.
وفي القرن التاسع عشر الميلادي، تكاملت وظائف الحي السكنية والتجارية مع وجود عدد من الحمامات مثل حمام الورد، وحمام الجوزة، وحمام الخانجي، وحمام القرماني، إضافة إلى أربعة أفران، وجامع جامع بخطبة (جامع الورد)، وخمسة عشر مسجدًا أو مصلى، فضلًا عن الأسبلة والتُرب، كما كان بجوار حمام الجوزة مقهى شكّل ملتقى اجتماعيًا لسكان المنطقة.
ويُذكر أن حي ساروجة في دمشق ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالمدينة داخل الأسوار من الناحية الإدارية والاقتصادية والدينية، كما تداخلت علاقاته مع الأحياء المجاورة مثل العقيبة والبحصة والسنجقدار والشرف الأعلى، خصوصاً مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبفضل موقعه القريب من قلعة دمشق، واحتضانه لفنادق ومحال تجارية معاصرة ظل الحي محتفظاً بدوره التاريخي مع مواكبة التحولات العمرانية الحديثة.
بذلك يُمكن القول إن حي ساروجة في دمشق شكّل نموذجًا حيًا للحي الدمشقي المتكامل الذي جمع بين العبادة والتعليم والنشاط التجاري والسكن التقليدي.

ختامًا، يمثل الطابع المعماري لـ حي ساروجة في دمشق أكثر من مجرد ملامح عمرانية تقليدية فهو مرآة لتاريخ اجتماعي وثقافي امتد لقرون وشاهد على تفاعل الإنسان الدمشقي مع بيئته الطبيعية والاقتصادية.
فقد جمع الحي بين العمارة المملوكية بزخارفها المميزة والإضافات العثمانية بعناصرها الزخرفية والإنشائية، ليشكل نسيجًا عمرانيًا متكاملًا ظل حاضرًا في الذاكرة البصرية والحضرية لدمشق.
وعلى الرغم مما تعرض له من تدهور وأضرار في العقود الأخيرة، ما يزال حي ساروجة في دمشق يمثل قيمة تراثية ومعمارية لا غنى عنها لفهم هوية المدينة وتاريخها العمراني.