يُعد الجامع الأموي الكبير في حلب واحدًا من أقدم وأهم المعالم الإسلامية في سوريا والعالم الإسلامي إذ يجمع بين العمق التاريخي والجمال المعماري والقدسية الروحية.
شُيّد في قلب المدينة القديمة ليكون مركزًا دينيًا وثقافيًا، وما زال حتى اليوم شاهدًا على تعاقب الحضارات وتطوّر فنون العمارة الإسلامية عبر القرون.
أكمل معنا هذا المقال لتتعرف أكثر على الجامع الأموي الكبير في حلب.
Contents
الموقع الجغرافي
يقع الجامع الأموي الكبير في حلب في قلب المدينة القديمة ضمن حي الجلوم الكبير، والذي يعتبر أحد أعرق أحياء حلب التاريخية.
يتمركز الجامع في الجهة الجنوبية الغربية من قلعة حلب الشهيرة وسط شبكة من الأسواق العريقة التي شكّلت شرايين الحياة الحلبية لقرون.
كما يحيط به من كل الجهات عدد من الأسواق القديمة، مثل سوق السقطية من الشمال، وسوق النسوان من الغرب، وخان الشونة من الجنوب، وسوق العبي من الشرق، بالإضافة إلى قربه من سوق الزرب وسوق العطارين.
تبلغ مساحة الجامع الأموي الكبير في حلب حوالي 5,000 متر مربع ويُعد من أكبر وأهم المساجد في مدينة حلب.
كان الجامع وما يزال مركزًا روحيًا واجتماعيًا محوريًا، إذ جمع بين دوره الديني والعلمي من جهة، وموقعه التجاري الحيوي من جهة أخرى، لقربه من قلب النشاط الاقتصادي في حلب.
واليوم وبعد الأضرار الجسيمة التي لحقت به وبمحيطه خلال سنوات النزاع يخضع الجامع ومحيطه لعمليات ترميم واسعة النطاق ضمن مشاريع تراثية دولية تهدف إلى إعادة إحياء قلب حلب التاريخي بما يحمله من قيمة عمرانية وروحية وثقافية.

اقرأ أيضًا: الجامع الأموي في دمشق… جوهرة التراث الإسلامي
التاريخ القديم للجامع الأموي الكبير
يُعد الجامع الأموي الكبير في حلب من أقدم المعالم الإسلامية وأبرزها في المدينة، ويعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي حيث تشير المصادر إلى أن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك أمر ببنائه في عام 715م، واكتمل بناؤها بعد عامين، ومع ذلك تشير مصادر أخرى إلى أن الوليد بن عبد الملك هو من وضع حجر الأساس في عام 715ميلادي.
وقد بني الجامع فوق موقع كان يضم سابقًا معبدًا رومانيًا ثم كنيسة بيزنطية، مما يبرز الأهمية الدينية والتاريخية المتواصلة للمكان.
شُيّد الجامع على الطراز الأموي التقليدي، بساحة واسعة تحيط بها أروقة ومحراب وقبة، وجاءت أبرز إضافاته المعمارية خلال العهد السلجوقي، حين شُيّدت مئذنته الشهيرة عام 1094م على يد القاضي أبو الحسن بن الخشاب.
تطور دور الجامع الأموي الكبير في حلب في العهدين الزنكي والأيوبي ليصبح مركزًا دينيًا وعلميًا، وشهد ترميمات متكررة في العهدين المملوكي والعثماني بسبب الزلازل والحرائق.
وخلال الحرب السورية تعرض الجامع لأضرار جسيمة، ودُمرت مئذنته بالكامل عام 2013، ما مثّل فقدانًا كبيرًا للتراث الإسلامي، ومنذ عام 2021 يخضع الجامع الأموي الكبير في حلب لعمليات ترميم دقيقة بإشراف منظمة اليونسكو، في إطار جهود دولية لإعادة إحياء هذا الصرح التاريخي الذي يجسد تعاقب الحضارات في قلب المدينة القديمة.

اقرأ أيضًا: الجامع العمري في درعا… أحد أقدم جوامع بلاد الشام
أقسام الجامع الأموي الكبير في حلب
ينقسم الجامع الأموي الكبير في حلب إلى عدة أقسام معمارية ووظيفية متكاملة، تُجسّد تطور العمارة الإسلامية واحتياجات الجماعة المصلّية على مرّ العصور، وتتوزع هذه الأقسام بين ما هو وظيفي، وروحي، وزخرفي، ومعماري، ويُشكّل كل منها جزءًا لا يتجزأ من شخصية الجامع.
إليك تفصيلًا دقيقًا لهذه الأقسام:
بيت الصلاة (الحرَم)
يُعتبر الحرم أوسع أقسام الجامع الأموي الكبير في حلب وأكثرها قدسية وهدوءًا، وهو القسم الأساسي للعبادة حيث يقع في الجهة الجنوبية من الجامع، ويتكوّن من ثلاث بلاطات موازية لجدار القبلة كما يحتوي على المحراب وهو منحوت بدقة وزخارف هندسية ونباتية.
تعلو بيت الصلاة قبة تستند إلى رقبة مثمّنة مزخرفة من الداخل، كما يضم أيضًا منبرًا خشبيًا تاريخيًا نُفّذ بحرفية عالية دون استخدام المسامير، وهو من أقدم المنابر في سوريا.
الصحن (الفناء المكشوف)
يقع الصحن في وسط الجامع الأموي الكبير في حلب ويُعد مساحة جماعية مفتوحة مرصوف بأحجار بازلتية وكلسية بتناسق جمالي وأنماط هندسية رائعة.
يتوسّطه حوض ماء مثمّن الشكل يستخدم للوضوء، تعلوه مظلة حجرية، ويحيط بالصحن أروقة معقودة من ثلاث جهات (الشمالية، والشرقية، والغربية)، وهي مغطاة بأسقف مدعّمة بأعمدة حجرية.
الأروقة
هي الممرات المسقوفة التي تحيط بالصحن من ثلاث جهات تُستخدم للصلاة وقت الزحام أو كممرات للمصلّين، العقود مبنية على أعمدة ذات تيجان بسيطة، وبعضها مزخرف
الأبواب
يضم الجامع الأموي الكبير في حلب عددًا من الأبواب التي تربطه بالنسيج العمراني المحيط به، ويبلغ عددها أربعة أبواب رئيسية، تتوزع على الجهات الأربع، بما يخدم التواصل مع الأسواق والأحياء المجاورة.
من أبرزها الباب الشمالي، المعروف بـ”باب السوق”، ويُعد المدخل الرئيسي للجامع من جهة سوق السقطية، ويتميّز بزخارف حجرية دقيقة.
أما الباب الجنوبي فيربط الجامع بساحة خان الشونة، بينما يفتح الباب الشرقي باتجاه سوق العبي ويصل الباب الغربي إلى أزقة حي الجلوم.
هذه الأبواب صُممت بطريقة تتيح تدفّق المصلّين من جميع الاتجاهات، ما يعكس وظيفة الجامع المركزية في الحياة اليومية للمدينة القديمة.
المئذنة
كانت المئذنة تقع في الجهة الشمالية الغربية من الجامع الأموي الكبير في حلب حيث بُنيت في العهد السلجوقي عام 1094م، وهي مربعة القاعدة بارتفاع حوالي 45 مترًا، ومزينة بزخارف هندسية وكتابات كوفية حجرية رائعة.
دُمّرت المئذنة خلال الحرب عام 2013، وتُعاد حاليًا بناؤها وفق المعايير التاريخية.
ولعل أبرز ما يميّز الجامع الأموي الكبير في حلب وجود مقام النبي زكريا داخل بيت الصلاة، وهو عنصر معماري وروحي نادر في الجوامع الإسلامية، حيث يقع هذا المقام إلى يسار المحراب في بناء مستقل صغير داخل الحرم، ويُقال إن ضريحه يحتوي على بقايا من جسد النبي زكريا عليه السلام، نُقلت إلى حلب في العهد الأيوبي مما يجعله مزارًا مقدسًا يحظى بالاحترام والتقدير من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، ويحاط الضريح بشباك معدني مزخرف ومُغطى بكسوة خضراء مطرزة، ويقصده الزوار للتبرك والدعاء.
وبالإضافة إلى أهميته الدينية، يُعد الجامع مركزًا ثقافيًا وعلميًا على مر العصور، حيث كان الجامع الأموي الكبير يضم مكتبات ومدارس لتعليم العلوم الدينية والدنيوية، وكان ملتقى للعلماء والطلاب.
كما لعب دورًا حيويًا في الحياة الاجتماعية للمدينة، حيث كان مكانًا للتجمعات والاحتفالات الدينية والاجتماعية.

اقرأ أيضًا: مقام السيدة زينب في ريف دمشق
الزخارف والنقوش المعمارية
تُجسّد الزخارف الهندسية والفنية والنقوش في الجامع الأموي الكبير في حلب ذروة الإبداع المعماري الإسلامي في بلاد الشام، حيث امتزجت البساطة مع الدقة والرمزية الروحية، فقد زخرفت واجهات الجامع وخاصة مئذنته التاريخية، بزخارف حجرية هندسية دقيقة تضم نجومًا متعددة الأضلاع ومضلعات متشابكة وأشرطة متداخلة، نُحتت مباشرة في الحجر الكلسي المحلي لتمنح الواجهات عمقًا بصريًا وتماسكًا بنيويًا.
أما الزخارف النباتية، أو ما يعرف بـ”الأرابيسك” فتنتشر حول المحراب وعلى أعمدة الحرم، وتتمثل في أوراق العنب والنخيل وزهور مجردة تنساب بتناغم داخل الإطارات المعمارية، في إشارة رمزية إلى الجنة والامتداد الأبدي.
وتُعد النقوش الكتابية من أبرز عناصر الزخرفة، حيث تزيّن المئذنة (قبل تدميرها) والبوابات والمحراب آيات قرآنية وأدعية نفّذت بالخط الكوفي البارز والمورق، بأسلوب يُظهر فخامة الخط العربي وقدسيته.
كما يُحيط بضريح النبي زكريا داخل الحرم شباك معدني مزخرف وأقمشة خضراء مطرزة بآيات قرآنية، تضفي على المكان هالة روحية مميزة، وتكمّل الزخارف الجصّية داخل القبة والأبواب الخشبية المحفورة والنوافذ المشبكة جماليات الجامع، لتمنحه وحدة فنية متكاملة تعبّر عن روح العمارة الإسلامية في حلب، وتجعله تحفة بصرية وروحية فريدة في تاريخ الفن الإسلامي.

ختامًا، يظل الجامع الأموي الكبير في حلب شاهدًا حيًا على عظمة الحضارة الإسلامية وتاريخ مدينة حلب العريق، وعلى الرغم من التحديات والأضرار التي لحقت به، إلا أنه لا يزال يمثل رمزًا للصمود والتراث الثقافي الغني.