“ورددت الجبال الصدى”عنوان لا يشبه سواه، وكأن الجبال لا تكتفي بالسكوت، بل تحمل الذاكرة، وتردد صدى المفقودين، والمحبين، والمكسورين، والعابرين الذين فقدوا ما لا يُعوض.
هذه الرواية، العمل الثالث للروائي الأفغاني الأمريكي خالد حسيني، تختلف كثيرًا عن روايتيه السابقتين، ومع ذلك تبقى روحهما حاضرة فيها، تلك الروح الموجوعة، الباحثة عن إنسانية ضائعة وسط الحروب والمنفى والحنين.
من الصفحة الأولى، تدرك أن هذه ليست حكاية عادية. ليست قصة حب أو فداء أو انتقام، بل هي مرآة كبيرة تتشظى فيها صور كثيرة، كل منها يحمل حكاية صغيرة، وكل حكاية تشبه دمعة تسقط بهدوء.
Contents
الفقد
تبدأ الرواية من أفغانستان في خمسينيات القرن الماضي، في قرية صغيرة، حيث يعيش عبدالله، الطفل الصغير الذي يتعلق بشقيقته باري كما تتعلق الروح بالجسد، لا يترك يدها، لا ينام دون أن يضمها، لا يعرف معنى العالم من دونها.
أما باري، فهي الطفلة التي لا ترى في الحياة شيئًا سوى دفء يد شقيقها وصوته المليء بالحنان ،لكنّ الحياة، كالعادة، لا تُبقي الأشياء الجميلة في مكانها.
يضطر والدهما إلى بيع باري لعائلة ثرية في كابول، من هنا يبدأ الانفصال الكبير، ليس بين شقيقين فقط، بل بين الروح وجزئها الآخر، الفصل بينهما لم يكن مجرد حادث عائلي، بل كان الحدث المؤسس لكل وجع لاحق في الرواية ،شيء ما في العالم انكسر وبقي صداه يتردد.
السرد
الرواية لا تُروى من منظور واحد، بل من خلال عدة شخصيات، في فصول مستقلة، كل منها يسلط الضوء على حدث أو علاقة متصلة بالشخصيات الأساسية.
ننتقل من عبدالله وباري، إلى العم، إلى الطبيب، إلى الجيران، إلى مربية الأطفال، وحتى إلى شخصيات لا نعرف صلتها إلا بعد صفحات.
كأن خالد حسيني يقول: “الحياة لا تسير في خط مستقيم، بل تتشعب كالأغصان، وكل غصن يحكي حكاية”.
هذا الأسلوب قد يكون مرهقًا لبعض القرّاء، لكنه يمنح الرواية عمقًا كبيرًا، ويجعل من كل شخصية مرآة تعكس صورةً جزئية من الحكاية الأم، لا أحد يملك الحكاية كاملة، تمامًا كما في الحياة.

الذاكرة
ما يجمع بين الشخصيات كلها هو الذاكرة ، الذكريات التي نحملها رغمًا عنا، التي تطاردنا، التي تكتبنا من جديد ،عبدالله يكبر، يتزوج، ويغدو أبًا، لكنه لا ينسى شقيقته التي انتُزعت منه، ويحتفظ لها في قلبه بصندوق من الذكريات، لا يفتحه لأحد.
أما باري، التي انتقلت إلى بيئة مختلفة تمامًا، تظل في داخلها إحساسٌ غامض بأنها ناقصة، أن هناك شيئًا ما ضاع منها، كأن الروح تظل تتذكر حتى حين ينسى العقل.
اقرأ أيضا :” ألف شمس ساطعة: المرأة في ظل الحرب والحرمان “
اللقاء
بعد عقود طويلة، يحدث اللقاء الذي انتظره القارئ بلهفة ،باري تعود لتبحث عن أخيها تجده، لكنّه صار شيخًا يعاني من الزهايمر ، لم يتعرف عليها، لم يحتضنها ،لم يقل كلمة فقط جلس في صمت، كأن الزمن سرق كل شيء.
وهنا، كانت القسوة الأشد، لم يُحرَم الأخوان من الطفولة فقط، بل من اللقاء الحقيقي أيضًا ،كان اللقاء أشبه بجبل أصمّ لا يُعيد الصوت، بل يبتلعه.
اقرأ أيضا : “عداء الطائرة الورقية: رواية عن الخطيئة والفداء “
أفغانستان
رغم أن الرواية تتنقل بين بلدان عديدة – أفغانستان، باريس، الولايات المتحدة، اليونان – إلا أن أفغانستان تبقى الحاضرة الكبرى.
ليست فقط مكانًا، بل وجدانًا ، الأفغان في الرواية ليسوا فقط ضحايا حرب، بل بشرٌ عاديون، يعيشون، يحبون، يخطئون، يحلمون ،خالد حسيني يرسم بلاده بحنان وألم، يخرجها من الأخبار العاجلة إلى الأدب، من السياسة إلى الحنين.

رمزية العنوان
الجبال في الرواية ليست مجرد جغرافيا، بل رموز للثبات والوجع، إنها تُخفي، لكنها لا تنسى، ترد الأصوات، لكنها لا تُعيد الأجساد ،الصدى هو الذاكرة التي لا تموت، حتى حين ينطفئ كل شيء.
اللغة
أسلوب خالد حسيني هنا أكثر نضجًا من أعماله السابقة ،اللغة شاعرية، هادئة، مؤلمة دون مبالغة ،هناك جمل قصيرة تطرق القلب كالمطر، كل شخصية لها نبرة خاصة، وكل مشهد يترك أثرًا لا يُنسى ، ليس هناك استعراض لغوي، بل صدق يوجع.
الوحدة
تكشف الرواية أن أكبر ألم لا يكون من الحرب، بل من الوحدة، أن يُنتزع المرء من عائلته، من لغته، من ماضيه ،أن يكبر دون أن يعرف من أين جاء ،أن يشعر دومًا بأن هناك شيئًا ناقصًا. كل شخصية في الرواية تعاني من نوع من التشظي: بين وطنين، بين لغتين، بين ماضٍ لا يُفهم، وحاضر لا يُحتمل.
اقرأ أيضا :أفاعي النار رواية العشق والخراب والهوية الممزقة
المقارنة مع “عدّاء الطائرة الورقية”
عند مقارنة “ورددت الجبال الصدى” مع “عدّاء الطائرة الورقية”، نجد أنفسنا أمام عالمين متقابلين، رغم أن الألم يخترقهما معًا.
“عدّاء الطائرة الورقية” هي رواية ذات محور واحد، تركز على شخصية أمير، وصراعه الداخلي بين الذنب والتوبة، القارئ يسير في خط واضح، يراقب نمو الشخصية، تحولاتها، صدماتها، وخلاصها ،هناك فعل، ذنب، ثم تكفير ،القصة مكثفة، مباشرة، وتُحدث صدمة عاطفية واضحة.
أما “ورددت الجبال الصدى”، فهي ليست رواية عن البطل الفرد، بل عن شبكة من البشر، حكايات متداخلة، لا خلاص فيها بالمعنى الدرامي ،ليس هناك تكفير، بل مرور الزمن، وتلاشي الحلم، وتكرار الأسى عبر الأجيال.
الفرق الجوهري بين الروايتين أن الأولى تعالج موضوع “الذنب والغفران”، أما الثانية فتغوص في “الفقد والانفصال”.في “عدّاء الطائرة الورقية” هناك نهاية تبعث الأمل، أما في “ورددت الجبال الصدى”، فالنهاية هي الصمت، النسيان، الجرح المفتوح الذي لن يُغلق أبدًا.
على مستوى اللغة، “عدّاء الطائرة الورقية” أكثر بساطة ومباشرة، أما “ورددت الجبال الصدى” فأكثر شاعرية وتأملًا.
الأولى تخاطب العاطفة بشكل حاد، والثانية تغوص في العمق بهدوء قاتل.


اقتباسات
1. “من الأشياء التي يتعلمها المرء مبكرًا في الحياة أن بعض الجروح لا تُشفى أبدًا.”
2. “لقد عشنا، أحببنا، وفقدنا… وما بقي هو الصدى.”
3. “كل من نحبهم يصبحون جزءًا منّا، حتى حين يغيبون.”
4. “هناك نوع من الحب لا يستطيع الزمن محوه، لكنه لا يستطيع إنقاذه أيضًا.”
5. “بعض الأشياء، حتى حين لا نتذكرها، تظل تعيش فينا.”
6. “الألم الحقيقي هو أن تبحث عن شيء لا تعرف اسمه، لكنك تفتقده بشدة.”
7. “أحيانًا يكون أعظم أنواع الحب هو أن تترك من تحب.”
8. “نحن لا نكبر إلا حين نفقد من نحب.”
9. “البيوت لا تتشابه، حتى إن كانت الجدران ذاتها… من يسكنها يصنع الفرق.”
10. “الذكريات لا تموت، لكنها تتخفّى.”

إن أعظم ما تُجيده هذه الرواية هو كسر توقّعات القارئ عن الحياة، لا تَعِد بشفاءٍ ولا تُهدي نهايةً سعيدة، بل تُظهر الواقع كما هو: غير مكتمل، مليء بالغياب، والقرارات القاسية التي لا رجعة منها.
خالد حسيني يُجيد أن يُريَنا أن الحب وحده لا يكفي، وأن الانفصال قد يكون أبدياً حتى في وجود اللقاء، لا صوت يعلو على صوت الذاكرة، ولا عزاء يضاهي صمت الجبال.
نغلق الرواية على وجعٍ جميل، ونبقى نستمع داخلياً لصدى الأرواح التي لم تلتقِ، لتلك القلوب التي ظلّت تبحث وتنتظر من يسمعها.
“ورددت الجبال الصدى” رواية لا تُقرأ بعقلٍ ناقد فقط، بل بقلبٍ منصت، هي ليست رواية نهايات، بل بدايات مفتوحة.
ليست عن البطولة، بل عن البشر العاديين الذين يُجبرون على الفقد، ويستمرون في الحياة وهم ينصتون للصدى،إنها رواية من النوع الذي لا يُغلق بارتياح، بل يُغلق بتنهيدة طويلة، كأنك ودّعت فيها شيئًا يشبهك ولم تكن تعلم.

التقييم النهائي
اسم الرواية: ورددت الجبال الصدى
اسم الكاتب: خالد حسيني
عدد الصفحات: 404
التقييم: ⭐⭐⭐⭐✰ (4.5 من 5)
الفئة المناسبة: للبالغين ومحبي الأدب الإنساني العميق
الموضوعات: الفقد، العائلة، الذاكرة، الهجرة، الانتماء، الجذور
اقرأ أيضا : أفاعي النار رواية العشق والخراب والهوية الممزقة