بوابة سوريا

ساحة المرجة في دمشق: من ذاكرة التاريخ إلى قلب الحاضر

ساحة المرجة

تُعد ساحة المرجة من أبرز الساحات العامة في مدينة دمشق الحديثة، وهي نقطة التقاء بين التاريخ والسياسة والحياة اليومية، فمنذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر على يد العثمانيين تحولت المرجة إلى مركز حضري نابض يجمع بين المباني الرسمية والمرافق التجارية والفضاءات العامة.

وهي أيضًا ساحة محمّلة بالرموز الوطنية والسياسية إذ شهدت أحداثًا مفصلية في التاريخ السوري الحديث أبرزها إعدامات الشهداء عام 1916، وما تزال المرجة اليوم قلبًا نابضًا يعكس إيقاع دمشق رغم التغيرات العمرانية والسياسية التي مرّت بها.

الجذور التاريخية وتأسيس ساحة المرجة

شكّلت ساحة المرجة في دمشق إحدى أبرز تجليات سياسة التحديث العثماني في أواخر القرن التاسع عشر، حيث أمر بإنشائها الوالي العثماني رؤوف باشا حوالي عام 1890 في إطار خطة أوسع تهدف إلى توسعة المدينة وتطويرها خارج نطاق أسوارها القديمة، وقد اشتقّت الساحة اسمها من طبيعة الموقع الجغرافي الذي أقيمت عليه، إذ كان عبارة عن أراضٍ عشبية رطبة تُعرف محلياً باسم “المَرْج”.

وفي عام 1907 تمّ تدعيم رمزية الساحة كمركز للحداثة بإقامة “عمود التلغراف” التذكاري في وسطها، احتفاءً بافتتاح خطي التلغراف وسكة حديد الحجاز، حيث زُيّن العمود بمجسم يُمثّل قبة المسجد النبوي في المدينة المنورة.

ولم تكن الساحة مجرد فراغ عمراني فقد أحاطت بها مقار إدارية حديثة، مثل مبنى البريد والبرق إلى جانب مؤسسات اقتصادية كالفنادق الفاخرة (مثل فندق فيكتوريا)، مما حوّلها منذ تأسيسها إلى نواة حضرية جديدة اتّسمت بأنها القلب الإداري والاقتصادي لدمشق المعاصرة.

ساحة المرجة

اقرأ أيضًا: قلعة دمشق الأثرية: حكاية ألفي عام من الحصون والتحصينات

المرجة كرمز سياسي ووطني

إلى جانب دورها كرمز للتحديث العمراني اكتسبت ساحة المرجة بُعدًا تراجيديًا عميقًا لارتباطها بالذاكرة الوطنية السورية، لتتحول من فضاء للحداثة إلى ساحة للبطولة والاستشهاد.

فقد شهدت ساحة المرجة أحد أقسى الأحداث في التاريخ السوري الحديث، وهو إعدام الوطنيين والمثقفين على يد جمال باشا (“السفاح”) في 6 أيار 1916، والذي جاء في إطار حملة القمع ضد النخبة العربية المطالبة بالحكم الذاتي أو الاستقلال أثناء الحرب العالمية الأولى.

وقد تحول هذا الحدث إلى حجر أساس في الهوية الوطنية، حيث يُحيى سنويًا تحت اسم “عيد الشهداء” مما رسخ ارتباط الساحة بشكل لا ينفصم برمزية النضال والتضحية، ولم تتوقف هذه الرمزية عند الحقبة العثمانية بل امتدت لتشمل فترة الانتداب الفرنسي، حيث كانت الساحة مسرحًا للمظاهرات والتجمعات الوطنية المطالبة بالاستقلال.

وبعد قيام الدولة السورية عادت المرجة إلى الواجهة بشكل صادم في عام 1965، عندما نفذت فيها حكم الإعدام علنًا بالجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في حدث أعاد تأكيد دور الساحة كفضاء للسيادة الوطنية والعقاب العلني في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي.

وعلى امتداد العقود اللاحقة حافظت المرجة على مكانتها كمركز للتجمعات الشعبية ولحظات التحول الفارقة في الحياة السياسية السورية، مما يجعلها أحد أكثر الأماكن حَمْلًا للدلالات التاريخية والوطنية في دمشق.

ساحة المرجة

اقرأ أيضًا: حرفة صناعة السيف الدمشقي: إرث فني وتقني من القرون الوسطى

البنية العمرانية والمعالم المحيطة

تكتمل الصورة الحضرية لساحة المرجة بالمعالم المعمارية والوظيفية المحيطة بها والتي شكلت معًا نسيجًا متكاملًا من الخدمات والحركة الاقتصادية، يأتي في مقدمتها مبنى محطة الحجاز (1913) الذي لا يبعد سوى أمتار قليلة والذي شكّل مع الساحة و”عمود التلغراف” نواة مشروع التحديث العثماني

حيث يجسّد طرازه المعماري المزيج بين التأثيرات الأوروبية والهوية المحلية، كما حُدد طابع المنطقة بمجموعة من المباني الإدارية والتجارية الرائدة كان أبرزها مبنى البريد والبرق كأحد أوائل مقار الخدمات الحكومية الحديثة، إلى جانب المقار الأمنية التي ارتبط اسمها تاريخيًا بالمرجة مثل مبنى وزارة الداخلية مما عزز الطابع الرسمي للساحة.

أما على الصعيد التجاري والخدمي فقد استقطبت ساحة المر جة الفنادق الفخمة مثل فيكتوريا وسميراميس النخبة وزوار المدينة، لتصبح مقاصد اجتماعية وسياسية بحد ذاتها.

وأخيرًا لا يمكن فصل هوية المرجة التجارية عن الأسواق التقليدية المجاورة، وعلى رأسها سوق الحميدية داخل الأسوار، حيث خلق القرب الجغرافي بينهما منطقة تجارية شاملة تزاوج بين الأصالة والحداثة supported بمحلات متنوعة evolucionaron، من محال بقالة تقليدية إلى مراكز تجارية كبرى، مما جعل محيط المرجة القلب النابض للاقتصاد الدمشقي.

ساحة المرجة

الرمزية الثقافية والهوية

لا يمكن اختزال دلالة ساحة المرجة في بعد واحد فهي تمثل نسيجًا معقدًا من الذاكرة التاريخية المتراكمة، حيث يشكل تعدد الرموز المتعايشة فيها من نصب التلغراف كشاهد على مشاريع التحديث العثماني، إلى الذكرى الأليمة لشهداء 6 أيار 1916 التي حوّلتها إلى فضاء للذاكرة الوطنية، وصولًا إلى الأحداث اللاحقة كإعدام الجاسوس إيلي كوهين الذي عزز رمزيتها كساحة للسيادة طبقات متعاقبة من الدلالات تجعل منها ارشيفًا حيًا لتاريخ سوريا الحديث.

يتفاعل هذا الأرشيف مع واقعها الحالي كمركز تجاري ومواصلاتي صاخب، حيث يخلق التباين بين ثقل التاريخ وضجيج الحياة اليومية إحساسًا فريدًا بالاستمرارية والصمود، مؤكدًا أن المرجة هي أكثر من مجرد تقاطع طرق بل هي قلب نابض للهوية الدمشقية يتنفس بالماضي والحاضر في آن واحد.

ساحة المرجة

ختامًا، ساحة المرجة ليست مجرد تقاطع طرق بل هي ذاكرة حيّة تختزن في طياتها أحداثًا سياسية وثقافية واجتماعية. فهي أكثر من مجرد فضاء عام، إنها مرآة تعكس تاريخ المدينة السياسي والاجتماعي والثقافي، من التحديث العثماني إلى النضال ضد الاستعمار، ومن ذاكرة الشهداء إلى حيوية الباعة المتجولين اليوم. هي المكان الذي يختصر روح دمشق: مدينة قادرة على الجمع بين القديم والجديد، وعلى الصمود في وجه العواصف، لتظل دائمًا قلب سوريا النابض.

السابق
حرفة صناعة السيف الدمشقي: إرث فني وتقني من القرون الوسطى
التالي
همس الجنون: رحلة في عوالم نجيب محفوظ الداخلية