بوابة سوريا

مدينة سرجيلا الميتة: شاهد على حضارة سورية عريقة

مدينة سرجيلا الميتة

تُعد مدينة سرجيلا الميتة الواقعة في قلب جبل الزاوية بسوريا واحدة من أبرز الشواهد الحية على الحضارات القديمة التي ازدهرت في المنطقة.

تُعرف هذه المدينة كغيرها من المواقع الأثرية المنتشرة في شمال غرب سوريا باسم “المدن الميتة” أو “المدن المنسية”، والتي تضم حوالي 700 مستوطنة مهجورة تقع في المنطقة الشمالية الغربية من سوريا بين حلب وإدلب ضمن منطقة الكتلة الكلسية.

تقدم مدينة سرجيلا الميتة نموذجًا فريدًا للحياة الريفية في سوريا خلال الفترتين الرومانية والبيزنطية، حيث تكشف آثارها عن نمط متكامل من النشاط البشري والاقتصادي والاجتماعي والديني الذي ساد في تلك الحقبة.

يهدف هذا المقال إلى استعراض شامل لمدينة سرجيلا متناولًا موقعها الجغرافي تاريخها العريق خصائصها المعمارية، بالإضافة إلى المراحل التاريخية التي مرت بها هذه المدينة العريقة، أكمل معنا لتتعرف على هذه المدينة الرائعة أكثر….

الموقع الجغرافي لمدينة سرجيلا الميتة

تقع مدينة سرجيلا الميتة إحدى أبرز المدن الميتة في شمال غرب سوريا في قلب جبل الزاوية بمحافظة إدلب على مسافة نحو 65 كيلومترًا جنوب غرب مدينة حلب، و35 كيلومترًا جنوب مدينة إدلب بين قريتي البارة وإحسم.

وقد منحها موقعها الجبلي المشرف على الأراضي الزراعية المحيطة أهمية اقتصادية وزراعية، لاسيما في زراعة الزيتون والكرمة، فضلًا عن حصانة طبيعية ساعدت في ازدهارها خلال الفترة البيزنطية.

مدينة سرجيلا الميتة

اقرأ أيضًا: قلعة يحمور في طرطوس: محطة لا تُفوّت لعشاق الآثار والطبيعة

تاريخ المدينة

شَكلت مدينة سرجيلا الميتة كغيرها من القرى الأثرية نسيجًا حيويًا ضمن المشهد الريفي لشمال سوريا خلال الفترة الانتقالية من العصر الروماني المتأخر إلى العصر البيزنطي.

حيث يعود الازدهار العمراني الرئيسي للموقع، كما تُظهر بقاياه المعمارية بوضوح إلى القرنين الرابع والخامس الميلاديين، وهي الفترة التي شهدت فيها المنطقة طفرة اقتصادية غير مسبوقة.

كما ارتبط هذا الازدهار ارتباطًا عضويًا بـ الاقتصاد الأحادي المُعولم آنذاك القائم على زراعة الزيتون والعنب وتصنيعها (زيتًا ونبيذًا)، لتلبية الطلب المتعطش لأسواق الإمبراطورية البيزنطية وخاصة العاصمة القسطنطينية.

وقد أدت العوائد المرتفعة لهذه الزراعة التصديرية إلى تراكم رأس المال لدى ملاك الأراضي المحليين، وهو ما تجسد في البناء الفخم للمنازل ذات الطابقين والحمامات العامة والكنائس البازيليكية والمنشآت الصناعية، كمعاصر الزيتون والتي لا تزال شواهدها قائمة حتى اليوم.

غير أن مصير مدينة سرجيلا الميتة لم يستمر على هذا النحو من الازدهار، حيث شكّل القرن السابع الميلادي منعطفًا حاسمًا في تاريخها ولم يعد هجرانها يُعزى إلى حدث كارثي مفاجئ بل إلى تحولات جيوسياسية واقتصادية عميقة وطويلة الأمد.

يُرجح الباحثون أن السبب الجذري للهجران يتمثل في تحول طرق التجارة وانكماش السوق البيزنطية بعد الفتح الإسلامي للشام، مما أفقد منتجات القرية قيمتها التجارية وأدى إلى تآكل أساس ثروتها.

وقد أدى هذا التحول مقترنًا بعدم الاستقرار السياسي المتقطع وربما تغيرات ديموغرافية إلى هجرة سكانها بشكل تدريجي وسلمي بين القرنين السابع والثامن الميلاديين تاركين وراءهم مدينة أشباح حافظت عليها طبيعة مواد بنائها الصلبة، لتصبح واحدة من أبرز نماذج “المدن الميتة” التي تقدم لنا لوحةً كاملة عن الحياة الريفية في العصور القديمة المتأخرة.

مدينة سرجيلا الميتة

اقرأ أيضًا: نواعير حماة… أسطورة الماء والتاريخ

الخصائص المعمارية والآثار

تُقدم مدينة سرجيلا الميتة نموذجًا استثنائيًا للمدينة الأثرية المتكاملة، حيث يعكس تنوع مبانيها ووظائفها صورةً حية لمجتمع ريفي مزدهر يتمتع ببنية تحتية متطورة وتنظيم اجتماعي واقتصادي متماسك.

فإلى جانب المساكن السكنية تضم المدينة كنيسةً تعبّر عن الحياة الدينية وحماماتٍ عامة تدل على الاهتمام بالنظافة والراحة وقاعات للاجتماعات تُجسّد النشاط المدني، بالإضافة إلى منشآت اقتصادية حيوية مثل معاصر الزيتون التي كانت عماد الاقتصاد المحلي وخزانات المياه، التي تظهر براعة في إدارة الموارد ومقابر تخلد ذكرى الأموات.

وتحتل البيوت السكنية مكانًة مركزية في دراسة الموقع لكونها تمثل النمط السائد للعمارة المحلية، وقد بُنيت هذه المساكن على مخطط موحد يتألف من ثلاثة عناصر أساسية، مما يشير إلى وجود تقاليد بناء راسخة كما تقع أقدم هذه الوحدات السكنية في الجزء السفلي من الموقع عند سفح الجبل، مما قد يُلمح إلى النمو العمراني المتدرج للمدينة.

ومن أبرز معالم مدينة سرجيلا الميتة أيضًا الحمامات العامة التي شُيدت في نهاية القرن الخامس الميلادي، لا يقتصر أهمية هذا المبنى على كونه منشأة للاستحمام فحسب بل يتميز بمخططه المعماري الفريد الذي يختلف عن المنازل، ويقدم مثالًا متقدمًا على فن العمارة البيزنطية في الريف.

حيث يتكون مبنى الحمام من قسمين رئيسيين يضمان الغرف المختلفة للاستحمام (البارد والدافئ والساخن)، وتربط بينهما ممرات وظيفية وتكتمل المنظومة بخزان ماء ضخم محفور في الصخر ومغطى بألواح حجرية كبيرة، مما يضمن توفير إمداد مستدام من المياه.

كما يبرز بين الآثار مبنى قاعة الاجتماعات المربعة الشكل، والتي تعود إلى الحقبة ذاتها (نهاية القرن الخامس الميلادي)، حيث يشير وجود هذه القاعة المؤلفة من طابقين والواجهة الأمامية المزودة بأروقة تستند على أعمدة حجرية إلى وجود حياة مدنية نشطة حيث كانت تُعقَد الاجتماعات والتجمعات العامة.

أما الكنيسة والتي يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي وتتبع التصميم البازيليكي المكون من ثلاثة أجنحة فتُعد دليلًا على انتشار المسيحية مبكرًا وعمق الجانب الروحي في حياة المجتمع، وتنتشر حولها بقايا دور سكنية عديدة تختلف في مساحتها وتصميمها، مما قد يعكس تباينًا في المستويات الاجتماعية والاقتصادية لأصحابها.

ولقد خضعت معظم هذه البيوت ذات الطابقين للتعديل والتوسع على مر فترات زمنية متعاقبة، وكانت تُستخدم بشكل نموذجي، حيث يُخصص الطابق الأرضي للتخزين والأنشطة اليومية بينما يُخصص الطابق العلوي الذي كان غالبًا ما يُضاء عبر نوافذ مقوسة كمساحة للمعيشة والخصوصية العائلية.

مدينة سرجيلا الميتة

اقرأ أيضًا: البيوت الدمشقية القديمة: من دروب الأزمنة إلى فنادق ومقاهٍ تنبض بالحياة

ختامًا، تظل مدينة سرجيلا الميتة شاهدًا حيًا على حضارة سورية عريقة وكنزًا أثريًا لا يقدر بثمن، فمن خلال بقايا أبنيتها وشواهدها تروي لنا قصة مجتمع ازدهر وتكيف مع بيئته وترك بصماته على التاريخ.

إن دراسة مدينة سرجيلا الميتة والمدن الميتة الأخرى لا تقتصر على الجانب الأثري فحسب، بل تمتد لتشمل فهمًا أعمق للحياة اليومية الاقتصاد التغيرات الديموغرافية والتحولات الدينية في المنطقة عبر العصور.

ورغم التحديات التي تواجه هذه المواقع الأثرية تظل أهمية الحفاظ عليها وترميمها أمرًا بالغ الأهمية لضمان استمرارية رواية هذه القصص للأجيال القادمة ولإثراء فهمنا للتاريخ البشري في هذه المنطقة الغنية بالتراث.

السابق
قلعة نجم: حارسة الفرات التي تحدت الغزاة والزمن