تقف قلعة نجم شامخة على ضفاف نهر الفرات كواحدة من أبرز القلاع التاريخية في سوريا، شاهدًة على تعاقب الحضارات والأحداث التي شكلت تاريخ المنطقة.
فمنذ العصور الرومانية اكتسب هذا الموقع أهمية استراتيجية فريدة كونه نقطة عبور حيوية وحصن متقدم يسيطر على الطرق التجارية والعسكرية بين بلاد الشام والجزيرة الفراتية.
وقد وصلت قلعة نجم إلى ذروة مجدها المعماري والعسكري في العصر الأيوبي، وتحديدًا في عهد الملك الظاهر غازي الذي حولها إلى تحفة هندسية منيعة تجسد قمة فن التحصين الإسلامي.
يستعرض هذا المقال تاريخ قلعة نجم وتطورها المعماري ويسلط الضوء على تصميمها الفريد الذي جعل منها حارسًا أمينًا لنهر الفرات عبر القرون، اكمله معنا….
الموقع الجغرافي لــ قلعة نجم
تقع قلعة نجم على تل صخري بارز على الضفة اليمنى (الغربية) لنهر الفرات، على بعد حوالي 115 كيلومترًا شمال شرق مدينة حلب وشرق مدينة منبج.
هذا الموقع المرتفع الذي يصل إلى حوالي 377 مترًا فوق سطح البحر و68 مترًا فوق منسوب النهر وفر لها حصانة طبيعية وإطلالة استراتيجية على الممر النهري.
أما من الجهة الغربية، فتجاورها سهول منبسطة خصبة استغلت قديمًا في الزراعة، في حين ترتبط من الشمال بمرتفعات صغيرة يتصل عبرها الطريق المؤدي إلى مدينة منبج.
وتحيط بالقلعة أسوار حجرية سميكة تتبع تضاريس التلة بحيث يمتد طولها من الشمال إلى الجنوب قرابة 120 مترًا وعرضها من الشرق إلى الغرب نحو 60–70 مترًا لتتشكل بذلك حدودها العمرانية الواضحة التي عززها الخندق الطبيعي الناجم عن انحدار الصخور نحو النهر.
وبذلك يتحدد موقع قلعة نجم بين الفرات شرقًا وجنوبًا والسهول الزراعية غربًا والمرتفعات الشمالية المتصلة بالطرق البرية، مما جعلها موقعًا عسكريًا حصينًا وذا أهمية استراتيجية في حماية الطرق والمعابر.

اقرأ أيضًا: ساحة باب الفرج وساعتها الشهيرة: تاريخ وهوية.
سبب تسميه قلعة نجم
تكتنف أصول تسمية قلعة نجم بهذا الاسم عدة فرضيات تاريخية ولغوية حيث لم يظهر هذا الاسم بشكل شائع إلا في القرن الثاني عشر الميلادي.
فتشير إحدى الروايات التاريخية إلى أن التسمية قد تكون نسبًة إلى القائد نجم الدين أيوب، إذ ارتبط اسمه بتحصين القلعة وتجديدها في العهد الأيوبي، وهناك إشارات عند بعض المؤرخين تربط الاسم بهذه الشخصية.
فرضية أخرى تربط الاسم بطبيعة الموقع الجغرافي المرتفع للقلعة والذي جعله مركزًا مثاليًا للرصد الفلكي، وهو ما قد يدعمه الاهتمام المبكر بالحصن من قبل الخليفة العباسي المأمون المعروف بشغفه بعلوم الفلك.
كما ساهم الوصف الشعري الذي أطلقه القاضي البيساني واصفًا إياها بأنها “نجم في سحاب” في ترسيخ هذا المسمى الذي يعكس علوّها وشموخها.
وقبل أن تُعرف باسم قلعة نجم حملت القلعة أسماء أخرى تعكس وظيفتها الاستراتيجية أبرزها “جسر منبج” في العصور الإسلامية المبكرة، نظرًا لدورها الحيوي كحصن يسيطر على المعبر النهري الهام على الفرات.

اقرأ أيضًا:
تاريخ قلعة نجم
تُعَدّ قلعة نجم واحدة من أبرز القلاع التاريخية في شمالي سوريا، وقد مرّت عبر العصور بمراحل متعددة أكسبتها مكانة استراتيجية استثنائية.
ففي العهد الروماني أُقيمت القلعة كجزء من منظومة التحصينات الممتدة على ضفاف نهر الفرات لمواجهة الأخطار القادمة من الشرق، ولا سيما من الدولة الساسانية كما أدت وظيفة رأس جسر ومعبر نهري يربط بين بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين.
ومع الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي حافظت القلعة على موقعها الحيوي، إذ أصبحت محطة رئيسية على طريق القوافل والجيوش ومركزًا لحماية المعابر النهرية والطرق التجارية المارة بالفرات، الأمر الذي جعلها محورًا عسكريًا واقتصاديًا في آن واحد.
وفي العصر الأيوبي شهدت القلعة مرحلة ازدهار وتحول إلى حصن حصين، حيث قام نجم الدين أيوب وأبناؤه بتحصينها وتجديد منشآتها الدفاعية، فارتبط اسمها باسمه لتُعرف منذ ذلك الحين بـ”قلعة نجم”.
ومع قيام الدولة المملوكية استمرت القلعة في أداء دور عسكري محوري إذ اعتمد عليها المماليك لمراقبة مجرى الفرات والتصدي لهجمات المغول والتتار، وقد ذُكرت في السجلات المملوكية بوصفها إحدى القلاع الكبرى على تخوم الشام الشرقية.
أما في العصر العثماني فقد بدأت القلعة تفقد تدريجيًا وظيفتها العسكرية مع توسع الدولة العثمانية واستقرار حدودها، لتتحول إلى مركز إداري محلي ظل مأهولًا لفترة محدودة قبل أن تتراجع أهميتها لصالح مراكز وقلاع أخرى.
وفي العصور الحديثة وبخاصة منذ القرن العشرين غدت القلعة معلمًا أثريًا بارزًا حيث أولتها المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية اهتمامًا ملحوظًا من خلال عمليات ترميم وحماية، شملت أجزاء من أسوارها وأبراجها لتبقى شاهدًا عمرانيًا وتاريخيًا على التحولات السياسية والعسكرية التي شهدتها منطقة الفرات عبر أكثر من ألفي عام.

تصميم القلعة
يُمثل التصميم المعماري لقلعة نجم نموذجًا متكاملًا للعمارة العسكرية الأيوبية، حيث تتخذ القلعة شكلًا إهليلجيًا يتبع التكوين الطبيعي للتلة الصخرية القائمة عليها.
يتجلى التحصين المنيع في السور الخارجي المدعّم بنحو عشرين برجًا دفاعيًا والمنحدر الصخري المصقول الذي يحيط بقاعدتها، والذي يجعل محاولات التسلق شبه مستحيلة.
ويُعد مجمع المدخل الرئيسي الذي يقع في الجهة الجنوبية تحفة هندسية دفاعية بحد ذاته، إذ يعكس تصميم مدخل قلعة حلب من خلال برجه الضخم وممره المنكسر الذي كان يهدف إلى إعاقة أي تقدم للعدو.
أما داخل الأسوار فتضم القلعة مدينة مصغرة متكاملة تشمل قصرًا ملكيًا في أعلى نقطة منها، ومسجدًا يعود لعهد نور الدين زنكي وحمامًا بخاريًا ذا نظام تسخين متطور.
بالإضافة إلى شبكة من صهاريج المياه والإسطبلات والمخازن التي تضمن صمود الحامية لفترات طويلة، وعلى الرغم من طابعها العسكري الصارم لم تخلُ القلعة من عناصر جمالية، حيث تزين واجهاتها نقوش كتابية تؤرخ لأعمال الملك الظاهر غازي وزخارف حيوانية رمزية كالأسدين المتقابلين، مما يجعلها شاهدًا فريدًا على التقاء البراعة العسكرية بالذوق الفني الأيوبي.

وفي الختام، لا يمكن النظر إلى قلعة نجم كمجرد بناء أثري بل هي سجل تاريخي ومعماري حي يروي قصة منطقة الفرات بأكملها، فمن موقعها الاستراتيجي الذي تحكم في طرق التجارة والجيوش إلى تصميمها الهندسي المنيع الذي بلغ ذروته في العصر الأيوبي.