تقف قلعة دمشق الأثرية شامخة على الطرف الغربي للمدينة القديمة كواحدة من أقدم وأهم الحصون الإسلامية في الشرق، حيث يعود تاريخها إلى جذور رومانية وبيزنطية لكنها شهدت عبر العصور الإسلامية تحولات كبيرة جعلتها مركزًا للحكم والدفاع ومخزنًا للأسرار،
ولم تكن القلعة مجرد بناء حجري بل كانت شاهدة على عصور متعاقبة من الأمويين والعباسيين مرورًا بالأيوبيين والمماليك وصولًا إلى العثمانيين ثم العصر الحديث، وبفضل موقعها الاستراتيجي عند بوابة دمشق لعبت دورًا محوريًا في حماية المدينة من الغزوات، كما احتضنت بين جدرانها قصصًا عن ملوك وقادة وصراعات صنعت تاريخ الشام.
Contents
الموقع الجغرافي
تقع قلعة دمشق الأثرية في قلب العاصمة السورية في الجزء الشمالي الغربي من المدينة القديمة بين باب الفراديس وباب الجابية ملاصقة للسور التاريخي المحيط بالمدينة، ويحدها من الشمال نهر بردى الذي شكل حاجزًا طبيعيًا ساعد في حماية القلعة، حيث يدخل فرعا بردى (بانياس وعقربان) داخل القلعة، ومن الشرق سوق العصرونية ومسجد الخندق ودار الحديث الأشرفية.
ومن الجنوب سوق الحميدية والتكية الأحمدية في حين يحدها من الغرب جامعي السنجقدار والناعورة.
هذه الحدود الطبيعية والصناعية مثل التلال والأنهار والأسوار جعلت من قلعة دمشق نقطة دفاعية استراتيجية، حيث كانت تشكل قلب الحماية للمدينة القديمة وتسيطر على جميع المداخل والمخارج ما أكسبها أهمية كبرى عبر العصور الإسلامية والصليبية.

اقرأ أيضًا: قصر العظم في دمشق
تاريخ قلعة دمشق الأثرية
شكلت قلعة دمشق الأثرية عبر العصور نواةً للسلطة والحكم في جنوب بلاد الشام، وقد تطور بناؤها على مراحل متلاحقة.
بدءًا من عهد السلاجقة الذين أسسوا هياكلها الأولى فبعد أن استولى أتسز بن أوق على دمشق عام 1076م شرع في تشييد القلعة، ثم جاء من بعده الأمير تتش بن ألب أرسلان فأكمل بناءها وأحاطها بخندق مائي وأنشأ داخل أسوارها دار الرضوان التي تميزت بتصميمها حول فسحة سماوية واسعة.
ولم تلبث القلعة أن تعززت بمنشآت جديدة في عهد شمس الملوك إسماعيل الذي أضاف دار المسرة والحمام مما جعلها مجمعًا متكاملًا للحكم والإقامة.
ومع دخول نور الدين محمود الزنكي دمشق عام 1154م اتخذ من القلعة مقرًا له وعمل على تطويرها معماريًا ودينيًا، فبنى فيها المساجد مثل الجامع الكبير والمسجد الصغير عند الباب الشرقي، وكذلك المدرسة النورية الصغرى والحمام مما أعطاها طابعًا ثقافيًا إلى جانب دورها العسكري، وقد ظلت هذه المنشآت شاهدة على عظمته حتى بعد زوال دولته
وفي العهد الأيوبي أصبحت القلعة حصنًا منيعًا ومركزًا لإدارة الدولة، حيث اتخذها صلاح الدين الأيوبي مقرًا له وعمل على تعزيز دفاعاتها خاصة البرج الشمالي الذي دُوّن على جداره تاريخ تجديده.
إلا أن التحول الأبرز كان في عهد الملك العادل أبي بكر محمد الذي أعاد بناء القلعة بالكامل بين عامي 1202 و1218م محوّلًا إياها إلى مدينة داخل المدينة بمساجدها وسوقها ودار لضرب النقود وقصور الحكم حتى غدت معزولة عن الخارج إلا في المناسبات الرسمية.
لكن هذه المنعة لم تمنع تعرضها للتدمير خلال الغزوات المغولية، حيث لحقت أضرار كبيرة بأسوارها وأبراجها خاصة في الجبهتين الغربية والشمالية.
فجاء المماليك ليعيدوا ترميمها وتقويتها حيث قام الظاهر بيبرس والأشرف خليل بتجديد الأبراج وشيدوا القاعات والحمامات مما أعاد لها جزءاً من هيبتها السابقة.
وبانتقال الحكم إلى العثمانيين تحولت قلعة دمشق الأثرية من مركز حكم إلى ثكنة عسكرية وسجن، وفقدت دورها الاستراتيجي بسبب انفتاح الإمبراطورية وابتعاد حدودها عن المنطقة.
ومع ذلك، حافظت على كثير من منشآتها الداخلية كما وصفها بعض الرحالة الذين زاروها في تلك الفترة إلا أن الزلازل المتلاحقة، ولا سيما زلزال 1759م أحدثت دمارًا كبيرًا في هياكلها تلاه إهمال متزايد وتحول الخندق إلى أرضٍ مُردمة وطغت الأسواق والأحياء على أسوارها، ففقدت تدريجيًا طابعها الحصين لكنها ظلت تحمل بين أحجارها سجلًا حيًا لتاريخ المنطقة وغدت أيقونةً معمارية تروي قصص القرون الغابرة.

اقرأ أيضًا: أبواب دمشق السبعة، حراس الزمن وسفراء التاريخ
الوصف المعماري لـ قلعة دمشق الأثرية
تتميز قلعة دمشق الأثرية بتخطيطها شبه المستطيل غير المنتظم، حيث يبلغ محيطها الإجمالي حوالي 33176 مترًا مربعًا، محاطًا بخندق مائي يصل عرضه إلى 20 مترًا.
بُنيت أسوارها وأبراجها من الحجر الكلسي مع استخدام محدود لحجارة البازلت، وتميزت بأسلوب نحت الحجارة ذي الإطار الصقيل والبروز البارز الذي يتراوح بين 15-20 سم، وهو ما يعكس التقنيات الإنشائية في العصر الأيوبي.
وتضم قلعة دمشق الأثرية 13 برجًا دفاعيًا ضخمًا تتوزع على واجهاتها الأربع تصل ارتفاعاتها إلى 25 مترًا وتترابط أسوار سميكة (البدنات) يبلغ سمكها نحو 4.3 أمتار، وتتميز هذه الأبراج بتصميمها المتقن الذي يشمل ثلاث طبقات من القبوات المتقاطعة ومزاغل للرماة ورواشن علوية للسقاطات الدفاعية.
تظهر النقوش الكتابية على العديد من الأبراج – مثل نقش الملك العادل الأيوبي (606هـ) والسلطان الغوري (914هـ) – الطبقات التاريخية المتعاقبة للبناء والترميم.
وتعكس الواجهات الشمالية والشرقية حيث المداخل الرئيسية تعقيدًا هندسيًا دفاعيًا ملحوظًا، مع وجود ممرات متعرجة وأنظمة أبواب متعددة الطبقات، كما تظهر العناصر الزخرفية كالمقرنصات والصندفات المنحوتة في الواجهة الجنوبية مما يشير إلى الجمع بين الوظيفة الدفاعية والقيمة الجمالية.
هذه الخصائص المعمارية تجعل من قلعة دمشق الأثرية نموذجًا متقدمًا للعمارة العسكرية الإسلامية، حيث توثق تطور أنظمة الدفاع بين القرنين السابع والعاشر الهجريين (13-16 الميلادي)، وتظهر التفاعل بين المتطلبات الحربية والتصميم المعماري المتقن.

التكوين المعماري والهندسي لقلعة دمشق الأثرية
تُعد قلعة دمشق الأثرية نموذجًا رائعًا للعمارة العسكرية والإسلامية، حيث تروي حجارتها تاريخًا حافلًا يمتد عبر عصور مختلفة، بدءًا من الأسوار الضخمة التي تحيط بها حيث نجد من الداخل ممرات دفاعية محكمة البناء عُرفت هذه الممرات في العصر المملوكي باسم الأقباء المستديرة وقد بناها السلطان قلاوون عام 1290م، وكانت بمثابة شرايين الحركة داخل قلعة دمشق الأثرية، حيث تسمح للجنود بالانتقال بسرعة بين الأبراج والبدنات (الأقسام الأمامية من السور) وحماية الرماة أثناء القتال، ومع تهدم أجزاء كبيرة منها لا يزال بالإمكان تمييز بقاياها خاصة في الجانب الجنوبي وخلف الأبراج الشمالية.
كما تتميز هذه الممرات المسقوفة بعقود حجرية متقاطعة ويصل عرضها إلى 5 أمتار وارتفاعها إلى 7 أمتار في بعض الأماكن مع وجود ممرات علوية وأدراج تربط بين المستويين.
أما البوابة الشرقية الخارجية لـ قلعة دمشق الأثرية فهي تحفة معمارية بحد ذاتها، وتؤدي هذه البوابة إلى فناء مستطيل حيث تتصدر الجدار الشمالي بوابة داخلية فاخرة مصنوعة من الحجر الكلسي المصقول يبلغ عرضها حوالي 4.25 مترًا وتعلوها قوسة مزينة بصدفة شعاعية محززة ومقرنصات ملونة، ويحتوي صدر الباب على نقش تاريخي يشير إلى أن السلطان الظاهر برقوق هو من فتح القلعة عام 1391م مما أكسبها اسم باب النصر.
كما ويعلو الباب أيضًا عقد حجري منقوش بمرسوم سلطاني يتعلق بأسلحة القلعة مما يضيف قيمة تاريخية وأثرية كبيرة للمدخل.
عند تجاوز البوابة ندخل إلى الدركاه الشرقية وهي عبارة عن قاعة استقبال مسقوفة بقبوتين متقاطعتين، وتتصل هذه القاعة بمسجد صغير ذو تصميم مربع يضم محرابًا بسيطًا ونوافذ معقودة، حيث يبدو أن هذا المسجد كان يستخدم لأداء الصلوات اليومية لحامية القلعة.
وإلى الشمال من المسجد تقع قاعة مستطيلة مسقوفة بثلاث قبوات تؤدي إلى فسحة خارجية وتجاورها قاعة العرش الفسيحة التي تبلغ مساحتها نحو 400 متر مربع.
كما تمتاز هذه القاعة بتسعة أقسام سقفية كان أوسطها عبارة عن قبة ضخمة (زائلة) محاطة بقبوات متقاطعة ترتكز القبة على أربعة أعمدة ضخمة ذات تيجان مزخرفة وتزين جدران القاعة عقود مدببة ونوافذ متنوعة، لكن حديثًا استُبدلت القبة الأصلية بقبة معدنية لكن التصميم العام لا يزال يعكس عظمة العمارة المملوكية.
تمتد شرق قاعة العرش قاعة الرواق الكبير التي يبلغ طولها 69 مترًا وعرضها 10 أمتار كانت هذه القاعة بمثابة ممر رئيسي ومركز للنشاط اليومي داخل القلعة وتتصل بالفسحة الشمالية الشرقية عبر عدة منافذ.
أما الفسحة الشمالية الشرقية فهي فناء مكشوف كبير على شكل شبه منحرف تشير الآثار الباقية إلى وجود مسجدين سابقين في هذه الفسحة أحدهما في شرقها والآخر في غربها، حيث لا يزال محراب حجري ومئذنة صغيرة قائمة المئذنة مزخرفة بنوافذ معقودة وسقف مسدس الشكل، مما يدل على الاهتمام بالتفاصيل الجمالية حتى في المساحات الخارجية.
من الجهة الشمالية لـ قلعة دمشق الأثرية نجد قاعة أخرى خلف برج المدخل الشمالي كانت أول ما يراه الداخل إلى القلعة من هذا المدخل، وتحتوي على ستة فراغات معمارية بعضها تهدم ولم يبقَ سوى آثاره.
أما المدخل الغربي فكان مخصصًا لخروج السلطان أو حاكم القلعة بشكل خاص وآمن، ويتكون من دركاه مسقوفة بقبوة مدببة تؤدي إلى باب سري وجسر متحرك فوق الخندق، كما يضم هذا المدخل أيضًا سلمًا حجريًا يصعد إلى أعلى الأسوار مما يسمح بمراقبة المناطق المحيطة.
لا يقل القصر الملكي داخل قلعة دمشق الأثرية روعة عن منشآتها الدفاعية، حيث يمتد هذا القصر على طول 80 مترًا ويتألف من طابقين بإيوانات وقاعات متعددة، وتتميز واجهته الشمالية بأقواسها المدببة ونوافذها المتنوعة، بينما بنيت الجدران الجنوبية والغربية بحجر كلسي بارز نحيت مما يعكس متانة البناء وجماليته.
ويحتوي الطابق الأرضي على سلسلة من القاعات المسقوفة بقبوات مزخرفة بعضها مخصص للاستقبال والبعض الآخر للسكن، كما وتشير الأدلة الأثرية إلى أن القصر كان يحتوي على حمام وبركة مياه وفسحة مرصوفة بالفسيفساء، مما يدل على البذخ الذي كان يعيشه حكام القلعة.
أضاف العثمانيون لاحقًا مبنى كبيرًا البرج الشمالي الغربي يتكون من طابقين وعشر غرف بُنيت جدرانه من الحجر غير المشذب، وسُقفت بخشب الأشجار التقليدي، ويشغل هذا المبنى حاليًا معهد الآثار والمتاحف لكنه بحاجة ماسة إلى الترميم والتأهيل.
تتوسط كل هذه المنشآت ساحة القلعة الواسعة التي تبلغ مساحتها قرابة 16,725 مترًا مربعًا، وكشفت الحفريات الأثرية عن بقايا بيوت عثمانية تعود للقرنين 18 و19، كما عُثر على كنز من الأسلحة والخوذ المملوكية في الزاوية الجنوبية الشرقية.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى فقدت قلعة دمشق الأثرية دورها العسكري وتحولت إلى سجن تحت الاحتلال الفرنسي ثم استخدمتها الشرطة لاحقًا لكن منذ عام 1985، حيث تولت المديرية العامة للآثار والمتاحف إدارة الموقع وقامت بأعمال ترميم كبيرة شملت الأسوار والبوابات وقاعة العرش.
ومع ذلك لا تزال قلعة دمشق الأثرية بحاجة إلى مزيد من الجهود لاستعادة رونقها بالكامل وتحويلها إلى مزار ثقافي وتاريخي يليق بمكانتها.

ختامًا تمثل قلعة دمشق الأثرية نموذجًا بارزًا للهندسة العسكرية الإسلامية وتجسّد ذاكرةً تاريخية وسياسية عميقة في قلب العاصمة السورية، فهي ليست مجرد حصن حجري بل شاهد على صراعات وحضارات تعاقبت وأيقونة أثرية تعكس مكانة دمشق كواحدة من أقدم وأهم المدن في العالم.
واليوم، وقد صارت معلمًا سياحيًا وتاريخيًا تعكس قلعة دمشق الأثرية قدرة دمشق على البقاء والتجدد رغم كل ما مرّ عليها من محن، ولعل أعظم ما تحمله هذه القلعة هو رمزيتها كجسر بين الماضي والحاضر وكذاكرة نابضة لمدينة لم تتوقف يومًا عن صناعة التاريخ.