تعتبر قلعة الحصن واحدة من أبرز المعالم التاريخية في سوريا، بل وفي الشرق الأوسط بأكمله، تقع هذه القلعة الصليبية الضخمة على بعد حوالي 60 كيلومترًا من مدينة حمص شمال غرب سوريا، على تلة استراتيجية تطل على وادي النضارة، وتبلغ مساحتها 3 هكتار، تتميز القلعة ببنيتها المعمارية الفريدة وحالتها الحفاظية الممتازة، مما جعلها تحظى باهتمام كبير من قبل المؤرخين والزوار على حد سواء، حيث يزورها السياح من مختلف أنحاء العالم للاستمتاع بجمالها التاريخي والتعرف على تاريخها العريق الذي يمتد لقرون عديدة.
وتمتد قلعة الحصن مع خندقها على مسافة 240 م كما تمتد أسوارها وأبراجها على مساحة 210× 150 م، وتحتل مرتفعًا بارزًا من الأرض وتحيط به المنحدرات الشديدة من كافة جوانبها تقريبًا بخاصة من الجهة الغربية، ويُرى من أبراج القلعة مدينة صافيتا وبرجها وجزء كبير من ساحل البحر، كما تشرف أبراجها على كافة أنحاء سهل عكار.
التاريخ والإنشاء
يعود تاريخ بناء القلعة إلى القرن الحادي عشر الميلادي، حيث قام المرداسيون بقيادة أمير حمص شبل الدولة نصر بن مرداس ببناء حصن صغير على التلة التي تقع عليها القلعة حاليًا، بهدف حماية طرق التجارة القادمة من سواحل بلاد الشام إلى داخلها، في هذه الفترة استوطن الأكراد الحصن لحمايته، مما أدى إلى تسميته بـ”قلعة الأكراد”، وفي القرن الثاني عشر مع قدوم الحملات الصليبية سقطت القلعة في أيدي الصليبيين، حيث كانت تقع على الطريق الذء كان يسمى طريق الحج إلى القدس وقام الصليبيون بتوسعتها وتحصينها بشكل كبير، وبعدها وفي عام 1142، أصبحت القلعة تحت سيطرة فرسان القديس يوحنا (فرسان الأسبتارية)، الذين قاموا ببناء القلعة على شكلها الحالي، وجعلوها واحدة من أقوى القلاع الصليبية في المنطقة، كما قام فرسان القديس يوحنا ببناء تحصينات قوية للقلعة، شملت أسوارًا عالية وأبراجًا متعددة، مما جعلها حصنًا منيعًا يصعب اقتحامه.
بعد الفتوحات الإسلامية حاول المسلمون استعادة القلعة، حيث قام كل من نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي بمحاصرتها، ولكن دون جدوى وذلك لمناعة حصونها وأسوارها الضخمة والمئونة التي كانت تكفي 5 أعوام، واستمرت القلعة تحت سيطرة الصليبيين حتى القرن الثالث عشر، عندما سقطت في أيدي المسلمين حيث شهدت بعد سقوطها العديد من التغيرات والتحولات، ولكنها أُهملت خلال العهد العثماني وسكنها الأهالي وبقيت مسكونة حتى العام 1927، وابتدأت أعمال الترميم وإخراج الناس من القلعة في العام 1934م واستمر الترميم حتى العام 1936 م، ومع ذلك كله حافظت القلعة على أهميتها التاريخية والمعمارية.
اقرأ أيضًا: بصرى الشام … لؤلؤة الجنوب السوري
العمارة في قلعة الحصن
تعتبر قلعة الحصن نموذجًا بارزًا للعمارة العسكرية في العصور الوسطى، حيث تجمع بين عناصر العمارة الشرقية والغربية، وتتميز بتصميمها الهندسي المتقن وحصانتها الشديدة، كما تم بناؤها من الحجر الجيري، مما جعلها قادرة على الصمود أمام الحروب والحصار لقرون عديدة.
ومن أبرز معالم العمارة في قلعة الحصن:
- الحصنان الداخلي والخارجي: تتميز قلعة الحصن بنظام دفاعي متعدد الطبقات، يعتمد بشكل أساسي على وجود حصنين متكاملين، جعل هذا النظام الدفاعي المعقد من قلعة الحصن واحدة من أقوى القلاع الصليبية في المنطقة.
- الحصن الداخلي: يعد الحصن الداخلي قلب القلعة، وهو عبارة عن قلعة مستقلة بذاتها ويقع على قمة التلة، يحيط به خندق يفصلها عن السور الخارجي، ويتميز بأبراجه العالية وأسواره السميكة.
- الحصن الخارجي: وهو عبارة عن سور ضخم يحيط بالحصن الداخي، ويشكل خط الدفاع الأول للقلعة، ويتكون من سلسلة من الأسوار والأبراج.
- الأبراج الدفاعية: تعتبر الأبراج الدفاعية من أهم العناصر المعمارية في قلعة الحصن، وكانت تستخدم لمراقبة المناطق المحيطة وبعضها كان يستخدم لتخزين المؤن والمياه والذخيرة، وتتنوع أشكالها وأحجامها، ويمكن تقسيمها إلى الأنواع التالية:
- الأبراج الدائرية: تتميز هذه الأبراج بقوتها وصلابتها، وتعتبر أكثر مقاومة للقصف والهجمات المباشرة.
- الأبراج المربعة: توفر هذه الأبراج مساحة داخلية أكبر مقارنة بالأبراج الدائرية، مما يسمح باستيعاب عدد أكبر من الجنود والمؤن.
- الأبراج المستطيلة: تجمع هذه الأبراج بين ميزات الأبراج الدائرية والمربعة، حيث توفر قوة وصلابة وقدرة على استيعاب مساحة داخلية أكبر. ( ومن الأمثلة على هذه الأبراج:)
- برج القائد: يقع هذا البرج في الطابق العلوي من القلعة، وكان يستخدم كمقر للقائد العسكري.
- برج الملك الظاهر بيبرس: أضاف المماليك هذا البرج إلى الواجهة الجنوبية للقلعة، ويعتبر من أبرز معالم القلعة.
- برج القاعة الكبرى: يرتبط هذا البرج بالقاعة الكبرى في الحصن الداخلي، وكان يستخدم لمراقبة المدخل الرئيسي للقلعة.
- الخنادق: الخنادق في قلعة الحصن ليست مجرد حفر عادية، بل هي خطوط دفاعية متعددة الطبقات صُممت بعناية فائقة، كما كانت تلعب دورًاحيويًا في حماية القلعة من الهجمات، وتم تصميمها بعناية فائقة حيث كانت تتكون من عدة عناصر مثل الحفرة الرئيسية التي تحيط بجزء كبير من القلعة، بالإضافة إلى الجدران العمودية التي تحيط بالحفرة من الداخل والخارج.
- الأبواب الحديدية: لم تكن الأبواب في القلعة مجرد مداخل عادية، بل كانت خطوط دفاعية متينة صممت لحماية القلعة من أي هجوم محتمل، وتتميز هذه الأبواب بثقلها ومتانتها ومقاومتها للحرارة والنيران، وكذلك تم تزويدها بأقفال معقدة مما يجعل فتحها صعبًا للغاية، كما كان بعضها مزودًا بأشواك حديدية لمنع تسلقها.
- السراديب: وهي شبكة معقدة من الأنفاق والغرف السرية التي كانت تلعب دورًا حيويًا في حياة القلعة ودفاعها، كما تمتد لمسافات طويلة تحت القلعة وخارجها، وتستخدم لأغراض متعددة مثل الهروب في حالة الحصار وتخزين الماء والطعام والأسلحة والمؤن، بالإضافة إلى كونها تربط بين مختلف أجزاء القلعة، مما يسمح بنقل الرسائل والأوامر بسرية وسرعة.
- القاعات والقصور: تضم قلعة الحصن مجموعة من القاعات والقصور التي تعكس أسلوب حياة فاره وحضارة راقية كانت سائدة في تلك الفترة، ومن أبرز القاعات في القلعة:
- القاعة القوطية الكبرى: حيث تشبه قاعات البلاط الكبرى في القصور الغربية، ولكنها في سياق قلعة الحصن، أكثر تشابهًا بقاعات الأديرة الملكية، وكانت تستخدم لإقامة المجالس والاحتفالات الرسمية، ويبلغ طولها 27 مترًا وعرضها 7.5 متر، وكانت مقسمة إلى جزأين بواسطة جدار يتخلله باب وثلاثة كوات، وتتألف القاعة من ثلاث قبوات قوطية ترتكز على أعمدة مزينة بزخارف، وتطل القاعة على باحة من خلال بابين وخمس واجهات مزدوجة تفصل بينها أعمدة صغيرة ورفيعة مصممة بأسلور مستعار من الفن القوطي المعروف في ضواحي باريس.
- قاعات الاستقبال: كانت هذه القاعات مخصصة لاستقبال الضيوف والوفود الرسمية، وتتميز بتصميمها الفخم وزخارفها الجذابة.
- غرف المعيشة: كانت هذه الغرف مخصصة لسكن الفرسان والنبلاء، وتتميز بأسقفها العالية ونوافذها الكبيرة التي توفر إضاءة طبيعية جيدة.
- قاعات الطعام: كانت هذه القاعات تستخدم لإعداد الطعام وتناوله، وتتميز بوجود مطابخ مجهزة وأفران.
- غرف الخدم: كانت هناك غرف مخصصة للخدم والخادمات، حيث كانوا يقومون بأعمال الخدمة والطبخ والتنظيف.
- الأسقف والأبواب: تتنوع الأسقف في قلعة الحصن فمنها السقوف المقبية التي توفر قوة وصلابة للبناء وتحمي من الانهيارات، بالإضافة إلى أنها تساهم في توزيع وزن البناء بشكل متساوٍ، وكذلك السقوف الخشبية التي استخدمت في القاعات والقصور، وذلك لتوفير عزل حراري وصوتي أفضل، أما بالنسبة للأبواب فمنها الحديدية التي استخدمت بشكل واسع في القلعة وذلك لقوتها ومقاومتها للتآكل والحريق، والأبواب الخشبية المقواة.
ختامًا يمكننا القول إن زيارة قلعة الحصن فرصة لا تعوض، وذلك لما فيها من رائحة التاريخ والماضي، حيث تعتبر قلعة الحصن رمزًا للقوة والتاريخ في سوريا، وتعكس قصة حضارة غنية وتاريخ طويل من الصمود، بفضل تصميمها المعماري الفريد وموقعها الاستراتيجي، ستظل قلعة الحصن شاهدًا على تراث الإنسانية وتاريخ المنطقة.