في قلب دمشق المدينة التي تفوح منها رائحة التاريخ ووسط أزقّتها العتيقة التي تنبض بالحياة وُلد فنّ لا يشبه سواه، فنّ الموزاييك الدمشقي…..
هناك حيث تتعانق الحجارة الملونة كأنها أنغام منسوجة بالصبر، تتكوّن لوحات تحكي حكاية مدينة عرفها العالم بعمارتها وفنونها الراقية.
منذ العصور الرومانية والبيزنطية وحتى فترات الازدهار الإسلامي ظلّ الموزاييك الدمشقي شاهدًا على تحوّلات الحضارة، يجمع بين الدقة الهندسية والخيال الفني في آنٍ واحد.
إنه أكثر من مجرد زخرفة على جدار أو قبة إنه ذاكرة حجرية تختصر روح الشام وجمالها المتفرّد.
Contents
التعريف بفن الموزاييك الدمشقي
يُعدّ فن الموزاييك الدمشقي أحد أبرز الفنون الزخرفية التقليدية التي اشتهرت بها مدينة دمشق، ويمثّل نموذجًا فريدًا لتطوّر الحِرف الفنية في المشرق العربي، وقد تميز بقدرته على دمج عناصر من الثقافات المختلفة، مما جعله تعبيرًا بصريًا عن الانفتاح الحضاري الذي ميّز دمشق عبر التاريخ.
ويعتمد هذا الفن على تجميع قطع صغيرة من المواد الطبيعية مثل الحجر والرخام والصدف والخشب والمعادن لتشكيل تصاميم هندسية ونباتية دقيقة ذات طابع جمالي متناسق.
كما استخدم الحرفيون السوريون الحجر الطبيعي بألوانه المتعددة مثل الأحمر، والأسود، والأبيض، والأخضر لتكوين أنماط هندسية وزهريّة معقدة تعكس دقة عالية في التنفيذ.
وتطوّر فن الموزاييك الدمشقي في دمشق الذي يجمع بين الدقة التقنية والرمزية الثقافية، فهو لا يمثل مجرد حرفة تزيينية بل يُجسّد رؤية جمالية وحضارية تعكس التفاعل التاريخي بين الإنسان والبيئة والثقافة في العاصمة السورية، حتى غدا هوية فنية قائمة بذاتها تُستخدم في تزيين الجدران والأرضيات والمآذن والمصنوعات الخشبية.

اقرأ أيضًا: حرفة صناعة السيف الدمشقي: إرث فني وتقني من القرون الوسطى
أصل فن الموزاييك الدمشقي وتاريخه
ينبع فن الموزاييك الدمشقي من تراث فني عريق يمتد جذوره إلى العصر البيزنطي، حيث استُخدمت الفسيفساء لتزيين الكنائس والقصور كوسيلة تعبيرية عن الجمال والسلطة، ومع انتقال المنطقة إلى الحكم الإسلامي وخاصة في العصر الأموي تم اعتماد هذا الفن وتطويره ليتناسب مع السياق الثقافي والديني الجديد.
أُعيد توظيف تقنيات الموزاييك ليستجيب لمبادئ الفن الإسلامي التي تبتعد عن التصوير البشري مفضّلًة التركيز على الزخارف النباتية والهندسية والمناظر الطبيعية.
وقد بلغ هذا الفن ذروته في جامع الأمويين الكبير بدمشق الذي يُعد من أبرز المعالم المعمارية في التاريخ الإسلامي، حيث تغطي لوحة فن الموزاييك الدمشقي الجدران الداخلية والواجهات، وتُظهر مشاهد لأنهار وحدائق وقصور ترمز إلى الجنة مستخدمًة قطعًا صغيرة من الزجاج والرخام الملون بدقة عالية.
هذه الأعمال لا تعكس فقط براعة الحرفيين بل تُجسّد أيضًا الرؤية الروحية والجمالية للدولة الأموية التي سعت إلى إبراز عظمتها عبر الفن والعمارة….
كما أنه قد حافظ فن الموزاييك الدمشقي على شعبيته عبر القرون وأصبح رمزًا للهوية الثقافية لدمشق، ولا تزال التقنيات التقليدية تُستخدم حتى اليوم في بعض الورش الحرفية، حيث يُنقل المهارة من جيل إلى آخر.
وفي القرن التاسع عشر شهد فن الموزاييك الدمشقي تطورًا ملحوظًا على يد الحرفي الدمشقي جرجي بيطار، الذي يُعتبر مؤسس هذا الفن في شكله الحديث، حيث وفي عام 1860 ابتكر بيطار تقنية جديدة باستخدام قضبان الخشب الملون طبيعيًا ذات مقطع مثلث أو مربع، ثم قصّها إلى رقائق ولصقها على المصنوعات الخشبية بالغراء الطبيعي.
ثم أسس ورشة خاصة به في حي باب توما بدمشق، حيث قام بتدريب العديد من الحرفيين الذين أصبحوا روّادًا في هذا المجال.
وبحلول عام 1940 بلغ عدد الحرفيين العاملين في صناعة الموزاييك الدمشقي أكثر من ألف شخص مما ساهم في انتشار هذه الحرفة داخل سوريا وخارجها.
يُعدّ فن الموزاييك الدمشقي جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي لمدينة دمشق، حيث تُستخدم في تزيين الأثاث والتحف الخشبية بأشكال هندسية معقدة ومتقنة مما يعكس تاريخها العريق وفنها الأصيل.

اقرأ أيضًا: البيوت الدمشقية القديمة: من دروب الأزمنة إلى فنادق ومقاهٍ تنبض بالحياة
سر الجمال في فن الموزاييك الدمشقي
يُعدّ فن الموزاييك الدمشقي من أرقى الفنون الزخرفية في العالم العربي، ويكمن سر جماله في تناغم عدة عناصر فنية وتقنية متقنة ولعل أبرزها:
أولًا: تعتمد التصاميم على الدقة الهندسية والتناسق البصري، حيث تتكوّن من أشكال هندسية متداخلة مثل النجوم المثمنة والمربعات ما يخلق إحساسًا بالانسجام والتناغم البصري.
ثانيًا: يضفي تنوع المواد الطبيعية وجودتها بعدًا غنيًا للعمل الفني إذ يستخدم الحرفيون الأخشاب المحلية مثل الجوز والمشمش والليمون، إضافة إلى الصدف والعظامزمما يمنح الموزاييك عمقًا لونيًا وتفاصيل دقيقة.
ثالثًا: تحمل التصاميم رمزية ثقافية وتاريخية إذ تعكس الزخارف النباتية والهندسية التراث الإسلامي والعربي،وتضفي على العمل بعدًا روحانيًا يتجاوز الجمالية الشكلية.
وأخيرًا: تمنح اللمسة اليدوية الدقيقة لكل قطعة خصوصيتها، حيث يعكس العمل مهارة الحرفي وصبره في تنفيذ التفاصيل الدقيقة، وتتضافر هذه العناصر لتجعل من الموزاييك الدمشقي رمزًا فنيًا وتراثيًا يختزل تاريخ دمشق وروحها الثقافية والفنية.

اقرأ أيضًا: كنيسة المشبك: تحفة معمارية صامدة في قلب سوريا
تقنيات تنفيذ الموزاييك الدمشقي
يُعدّ فن الموزاييك الدمشقي من أبرز الفنون التراثية التي تعكس العمق الحضاري لسوريا، إذ يجمع بين الفسيفساء الحجرية الجداريّة والموزاييك الخشبي التطعيمي، وكلاهما يعبّران عن مهارة الحرفي الدمشقي وذائقته الجمالية الفريدة.
وتعود أصول الموزاييك الحجري إلى العصور الرومانية والبيزنطية، حيث استُخدم الحجر الطبيعي والزجاج الملوّن في تزيين جدران المعابد والقصور، ثم بلغ ذروته في العهد الأموي ولا سيما في الجامع الأموي بدمشق الذي تُعدّ زخارفه الفسيفسائية من أروع النماذج الفنية في العالم الإسلامي.
ويُنفّذ هذا النوع من الموزاييك عبر رصّ قطع صغيرة من الحجر أو الزجاج على طبقة من الجص أو الإسمنت، وفق أنماط هندسية وزخرفية معقّدة تُختار ألوانها بعناية لتُحدث توازنًا بصريًا متناسقًا لا تمثّل هذه الزخارف جمالًا بصريًا، فحسب بل تحمل رمزية روحية وفلسفية تعبّر عن فكرة الوحدة في التنوع وهي من المفاهيم الأساسية في الفن الإسلامي
أما فن الموزاييك الخشبي الدمشقي فقد تطوّر في القرن التاسع عشر على يد الحرفي جرجي بيطار الذي أسّس أسلوبًا فنيًا يعتمد على تطعيم الخشب بقطع دقيقة من الأخشاب الملوّنة والصدف والعاج لتشكيل تصاميم هندسية متشابكة.
تُستخدم هذه التقنية في صناعة الأثاث الدمشقي والصناديق، والأبواب، والأطر، وما تزال تُمارس حتى اليوم في ورشات دمشق القديمة تتطلّب عملية تنفيذ الموزاييك بنوعيه دقّة يدوية عالية ومهارة في ضبط التناسق بين الشكل واللون.
فقد يستغرق إنجاز قطعة واحدة عدّة أشهر ويعمل فيها الحرفي وفق تقاليد متوارثة تُنقل شفهيًا من جيل إلى جيل….
ورغم ما تواجهه الحرف اليدوية الدمشقية من تحديات اقتصادية وثقافية تبذل منظمات مثل اليونسكو (UNESCO) جهودًا لحماية هذا الفن وتوثيقه ضمن قوائم التراث الثقافي غير المادي تأكيدًا لقيمته الحضارية والإنسانية.

ختامًا يُجسّد فن الموزاييك الدمشقي أكثر من مجرد مهارة زخرفية، فهو مرآةٌ لهوية دمشق الحضارية وجسرٌ يربط بين الماضي والحاضر.
عبر قرون من الإبداع والتوارث نجح الحرفيون الدمشقيون في تحويل المواد البسيطة من الحجر، والزجاج والخشب إلى لغة فنية ناطقة بالجمال والدقة والرمزية.
ورغم ما واجهته دمشق من تحديات سياسية واقتصادية بقي الموزاييك شاهدًا على قدرة الإنسان السوري على الإبداع في وجه الزمن….