بوابة سوريا

ساحة باب الفرج وساعتها الشهيرة: تاريخ وهوية.

ساحة باب الفرج

تقف ساحة باب الفرج في قلب مدينة حلب كنقطة التقاء فريدة بين الماضي والحاضر، حيث تروي حجارتها ومعالمها قصة قرون من التحولات الحضارية والعمرانية.

لم تكن هذه الساحة مجرد فراغ حضري بل هي نتاج تطور تاريخي بدأ مع أحد أبواب حلب الأيوبية المنيعة، مرورًا بتحولها إلى مركز إداري واجتماعي في العهد العثماني المتأخر، والذي توّج ببناء أيقونتها الخالدة برج الساعة.

اليوم تجتمع في رحابها أصداء التاريخ المتمثلة في بقايا السور القديم والمساجد الأثرية مع رموز الحداثة التي جسدتها دار الكتب الوطنية ومشروع التنظيم الحديث.

إن استكشاف ساحة باب الفرج هو بمثابة قراءة لسجل حلب المعماري والاجتماعي، وفهم لكيفية تفاعل المدينة مع متغيرات الزمن محافظًة على هويتها العريقة ومنفتحًة في الوقت ذاته على آفاق المستقبل.

الموقع الجغرافي لـ ساحة باب الفرج

تُعَد ساحة باب الفرج نقطة محورية ومركزية في مدينة حلب وتقع في الجزء الشمالي الغربي خارج أسوار المدينة القديمة.

تستمد الساحة أهميتها التاريخية من كونها موقع “باب الفرج”، وهو أحد أبواب حلب الذي شيّده الملك الظاهر غازي وهُدم في مطلع القرن العشرين عام 1904، ولم يتبقَ منه سوى برجه الجنوبي.

يتوسط ساحة باب الفرج اليوم برج الساعة الشهير الذي أُنشئ عام 1899م، ويُعتبر من أبرز معالمها المعمارية كما تحيط بالساحة مجموعة من الصروح الهامة التي تزيد من قيمتها التاريخية والثقافية أبرزها دار الكتب الوطنية التي تقع مقابل برج الساعة، بالإضافة إلى سلسلة من المساجد الأثرية التي تمتد شرقًا مثل مسجد بحسيتا والجامع العمري وجامع الدباغة العتيقة، مما يجعل من الساحة ملتقى للطرق الحيوية ومعلمًا يربط تاريخ المدينة بحاضرها.

ساحة باب الفرج

اقرأ أيضًا: المتحف الوطني في حماة: جسر بين التاريخ والتراث الشعبي

التسمية

تستمد تسمية ساحة باب الفرج دلالتها من مفهوم الأمل والانفراج الذي ارتبط بإنشائه في عهد الملك الظاهر غازي.

تاريخيًا كان قرار فتح بوابة جديدة في السور الشمالي الغربي لمدينة حلب بمثابة انفراجة لسكانها، حيث سهّل حركة التنقل وخفف الضغط عن البوابات الأخرى، مما انعكس إيجابًا على الحياة اليومية والنشاط التجاري، لذا أُطلق عليه هذا الاسم تفاؤلًا بالخير واليسر الذي سيجلبه للمدينة.

ساحة باب الفرج

اقرأ أيضًا: قصر الحير الغربي: جوهرة معمارية وسط الصحراء السورية

تاريخ ساحة باب الفرج

يمثل تاريخ ساحة باب الفرج تطورًا معماريًا ووظيفيًا يعكس تحولات مدينة حلب عبر العصور بدءًا من بوابة ثانوية قديمة كانت تُعرف بـ “باب العبارة” أو “باب الثعابين”، والتي أشار إليها المؤرخ كامل الغزي في كتابه “نهر الذهب في تاريخ حلب”.

إلا أن التحول الجذري حدث في عهد الملك الظاهر غازي الأيوبي بين عامي 1202 و1213م، حيث أنشأ بوابة جديدة محصنة تتألف من برجين دفاعيين وأطلق عليها اسم “باب الفرج” تفاؤلًا بالانفراج الاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثه فتحها، وهو ما وثّقه مؤرخون مثل ابن الشحنة في “الدر المنتخب”.

ومع بزوغ العصر الحديث وتحديدًا في عام 1904م تم هدم الجزء الأكبر من هذه البوابة الأيوبية لتسهيل التوسع العمراني وإنشاء الساحة المركزية في خطوة تعكس تغير أولويات المدينة من الدفاع إلى التنظيم المدني.

لم يتبقَ من هذا الصرح التاريخي سوى برجه الدفاعي الجنوبي الذي يقف اليوم كشاهد مادي أخير على البناء الأصلي ويروي قصة معلم تحول من حصن منيع إلى أثر يقع في قلب الحداثة، وشهدت ساحة باب الفرج الحدث الأبرز الذي أعاد تشكيل هويتها إلى الأبد، ففي خضم التحولات التي كانت تعيشها الدولة العثمانية، تقرر بناء معلم جديد في قلب الساحة ليكون رمزاً للعصر الجديد، وهو برج الساعة.

الذي يعد حدثًا محوريًا يقع عند تقاطع سياسات التحديث العثمانية (التنظيمات) مع الديناميكيات المحلية لولاية حلب، ويعود تاريخ بناء هذا الصرح إلى عامي 1898 و1899م.

فالمشروع لم ينبثق من فراغ بل كان استجابة مباشرة للفرمان السلطاني الصادر عام 1895م عن السلطان عبد الحميد الثاني، والذي قضى بتشييد أبراج ساعات في المراكز الحضرية الكبرى للإمبراطورية احتفًاء بيوبيله الفضي.

على المستوى المحلي تم تفعيل هذا المشروع الإمبراطوري من خلال الإدارة الفعالة لوالي حلب رائف باشا الذي لعب دور الوسيط بين المركز والأطراف.

لم تكن مهمته مجرد تنفيذ إداري بل تضمنت حشد الموارد المحلية عبر تعبئة وجهاء المدينة (الأعيان) لتمويل المشروع وتكليف جهاز فني وهندسي يعكس ممثلًا بالمهندس النمساوي “شارتيه” والمهندس المحلي “بكر صدقي”.

وبالتالي فإن ساعة باب الفرج لا تُمثل فقط رمزًا للسلطة العثمانية، بل هي أيضًا نتاج تفاعل معقد بين الإرادة السلطانية والمشاركة المالية والخبراتية للنخبة المحلية.

إن هذا التفاعل هو ما يفسر الطابع الهجين للبرج الذي يجمع بين النموذج الأوروبي لأبراج الساعات والعناصر الجمالية للعمارة الإسلامية المحلية، ليصبح أثرًا يجسد ديالكتيك الأصالة والحداثة في مدينة حلب أواخر القرن التاسع عشر.

ساحة باب الفرج

اقرأ أيضًا: حمام النحاسين حلب تحفة عمرانية في قلب المدينة العتيقة

التصميم المعماري لساعة باب الفرج

يمثل تصميم ساعة باب الفرج تحفة معمارية متكاملة ويمكن تقسيم هيكلها الذي يبلغ ارتفاعه 25 مترًا إلى أربعة أقسام رئيسية متميزة لكل منها وظيفته وخصائصه الجمالية التي تساهم في الشكل العام للبرج:

القسم الأول: القاعدة (الطابق الأرضي) هذا هو أساس البرج وقاعدته التي يرتكز عليها يتميز هذا القسم بالمتانة والصلابة حيث شُيّد من كتل حجرية كبيرة لإعطاء إحساس بالرسوخ والثبات.

يضم هذا الطابق المدخل الرئيسي للبرج وهو عبارة عن فتحة باب ذات قوس نصف دائري ويخلو هذا الجزء من الزخارف المعقدة للتأكيد على وظيفته الإنشائية كأساس حامل لبقية الطوابق.

القسم الثاني: البدن (الطابقان الثاني والثالث) يشكل هذان الطابقان الجزء الأوسط من البرج أو ما يمكن تسميته بـ “البدن”، يبدأ البرج هنا بالارتفاع برشاقة ويتميز هذا القسم بالبساطة النسبية في تصميمه.

يحتوي كل جانب من جوانب الطابقين على نافذة عمودية ضيقة ذات قوس في أعلاها وظيفتها الأساسية، هي إنارة السلم الحلزوني الداخلي وتهويته، هذه البساطة في التصميم تهدف إلى توجيه عين الناظر إلى الأعلى نحو القسم الأكثر زخرفة في البرج.

القسم الثالث: التاج (الطابق الرابع) هذا هو القسم الأكثر أهمية وجمالًا في البرج بأكمله، وهو بمثابة “تاج” الساعة الذي تتجلى فيه براعة الدمج بين الفن الشرقي والغربي.

يتكون هذا القسم من عدة عناصر متكاملة منها الشرفات الحجرية التي تبرز من كل جهة من الجهات والمقرنصات، وهي زخارف معمارية مجسّمة تشبه الهوابط أو خلايا النحل وتعتبر بصمة واضحة للمهندس الحلبي بكر صدقي.

بالإضافة إلى واجهات الساعة فوق كل شرفة حيث توجد الواجهة الدائرية للساعة بإطارها الحجري المزخرف، مما يضمن رؤية الوقت من كافة الاتجاهات المحيطة بساحة باب الفرج.

القسم الرابع: السقف (الغطاء النهائي) وهو الجزء الذي يتوّج قمة البرج، يتألف من سقف هرمي الشكل مغطى بصفائح معدنية (كانت من الرصاص قديمًا) لحمايته من العوامل الجوية.

ينتهي هذا السقف بسارية معدنية تعمل كمانع للصواعق مما يكمل الهيئة العامة للبرج ويمنحه نهايته الكلاسيكية.

ساحة باب الفرج

وفي الختام، لا يمكن اختزال ساحة باب الفرج في مجرد معلم جغرافي أو نقطة مركزية في مدينة حلب بل هي خلاصة تاريخية غنية ومتعددة الطبقات.

فمن بوابة حملت اسم “الفرج” تفاؤلًا بمستقبل المدينة إلى ساحة احتضنت ساعة شهيرة أصبحت رمزًا للحداثة، وصولًا إلى كونها مسرحًا لأكبر مشاريع التنظيم العمراني في تاريخها الحديث.

لقد كانت ولا تزال ساحة باب الفرج مرآة تعكس تحولات حلب السياسية والاجتماعية والمعمارية، إنها المكان الذي يتجاور فيه البرج الأيوبي الصامت مع برج الساعة الناطق بالوقت، وتلتقي فيه أصالة دار الكتب الوطنية مع حداثة المباني المحيطة، لتروي قصة مدينة عريقة تجيد فن الحوار بين ماضيها العريق وتطلعها الدائم نحو المستقبل.

السابق
موت سرير رقم 12 – غسان كنفاني
التالي
كتاب نظرية الفستق – فهد عامر الأحمدي