بوابة سوريا

خميس الحلاوة الحمصية… تقليد شعبي ينبض بالمحبة في قلب مدينة حمص

حمص

من قلب سوريا، وتحديدًا من مدينة حمص العريقة، ينبثق تقليد شعبي مميز يُعرف باسم “خميس الحلاوة الحمصية”، حيث أنه ليس مجرد طقس ديني أو اجتماعي، بل هو مناسبة غنية بالدلالات الثقافية، ومظهر من مظاهر التآلف والتكافل بين أفراد المجتمع الحمصي، فعلى الرغم من تقادم الزمن لا يزال هذا اليوم حاضرًا بقوة في الذاكرة الجمعية لأهالي حمص، ينتظرونه بفارغ الصبر ويحتفلون به بحماسة ودفء كبيرين.

في هذا المقال، نسلّط الضوء على أصول هذا التقليد وتطوره، ونغوص في تفاصيل الاحتفال به، ورمزيته، لنرسم صورة متكاملة عن هذا اليوم الذي يُعدّ من أبرز ملامح التراث الحمصي العريق.

أصل التسمية والخلفية التاريخية

خميس الحلاوة الحمصية هو الخميس الذي يسبق “أحد الشعانين“، ويأتي ضمن الأسبوع الأخير من الصوم الكبير لدى الطوائف المسيحية الشرقية، كما أنه أحد الخميسات السبع المعروفة في تاريخ المدينة، وارتبط هذا اليوم تاريخيًا بشراء وتوزيع الحلوى كنوع من التهيئة لعيد الفصح المجيد، وكسر لرتابة الصوم وتعبير عن الفرح بقرب انتهاء فترة الانقطاع والتقشّف.

مع مرور الزمن، تحوّل هذا الطقس من كونه تقليدًا دينيًا محصورًا بطائفة معينة إلى مناسبة اجتماعية تشمل جميع أطياف المجتمع الحمصي، فصار يومًا يحتفل به الجميع على اختلاف انتماءاتهم، ليصبح أحد أبرز أيام السنة في الذاكرة الشعبية لمدينة حمص.

ويقول أحد المؤرخين في حديثه عن خميس الحلاوة الحمصية إنه يُعرف أيضًا باسم “خميس الأموات”، إذ كان مخصصًا لزيارة المقابر وتوزيع الحلوى على الزوّار وقرّاءة القرآن هناك، وأضاف أن تقليد زيارة القبور لا يزال قائمًا حتى اليوم، وإن كان خاليًا من عادة تناول الحلوى كما في السابق.

وعلى غرار ذلك، يقول أحد الرجال الكبار في السن عن أن الاحتفال بخميس الحلاوة الحمصية كان قد بدأ بعد الانتصار الذي حققه العرب بقيادة صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين وتحرير البلاد منهم، وفي ظل هذا الانتصار العظيم اعتاد الناس على زيارة قبور شهدائهم وتوزيع الحلوى احتفالًا بالنصر.

خميس الحلاوة الحمصية

اقرأ أكثر عن: عيد القوزلة: طقوس متجذّرة في تراث الساحل السوري

مظاهر الاحتفال بخميس الحلاوة الحمصية

لخميس الحلاوة الحمصية طقوس ومظاهر احتفالية مميزة، تبدأ من التحضيرات المنزلية، ولا تنتهي عند التجمّع في الأسواق، ففي هذا اليوم تتوجه العائلات إلى الأسواق القديمة في حمص لشراء الحلويات التقليدية والمكسرات، ومن أبرز ما يُشترى في هذا اليوم:

  • الخبزية أو القرمشلية: وهي سيدة الحلاوة في حمص، حيث تزدهي بلونيها الأحمر والأبيض الرائعين.
  • السمسمية: وكما يوحي اسمها فهي مصنوعة من السمسم والناطف مجتمعان سويةً.
  • بلاط جهنم: وسمي بذلك نظرًا لتكعيباته وألوانه التي تجمع بين الأحمر والأبيض المصفر.
  • الحلاوة الطحينية: بنكهات مختلفة، وغالبًا ما تكون محشوة بالمكسرات كالفستق أو الجوز.
  • الراحة (المارشميلو الشرقي): بنكهات متعددة، وتُقدّم للأطفال كهدايا رمزية.
  • الملبّس (اللوز المغطى بالسكر): وهو من الحلويات الأساسية المرتبطة بهذه المناسبة.
  • المكسرات: مثل اللوز، البندق، الفستق، الجوز، واللب.

الأطفال بدورهم يشاركون في هذه الأجواء بحماسة كبيرة، حيث يقومون بتزيين أكياس الحلاوة بخيوط ملوّنة وأشكال زاهية، ويحملونها معهم في جولاتهم داخل الأسواق، ويبادلونها مع الأصدقاء والجيران، في تعبير جميل عن الفرح والمشاركة.

خميس الحلاوة الحمصية

اقرأ أكثر عن: السياحة في الكفرون: جنة المصايف الجبلية في سوريا

الأسواق الحمصية في خميس الحلاوة

تشهد الأسواق التقليدية في مدينة حمص، مثل “سوق الناعورة”، و”السوق المسقوف”، و”سوق الدبلان”، حركة نشطة وغير اعتيادية في هذا اليوم، حيث تُزيَّن المحال وتُعرض الحلويات بشكل لافت، وتتردد أصوات الباعة الذين ينادون على بضائعهم، وسط ضحكات الأطفال وزحام الناس.

فتتحوّل المدينة إلى كرنفال شعبي صغير، حيث تختلط رائحة الحلوى بالمكسرات المحمّصة، وتعلو الأصوات في أجواء مليئة بالحيوية، وكأن المدينة بأكملها تحتفل بروح واحدة.

ومن اللافت للنظر أن الجيل الجديد لا يزال يتفاعل مع خميس الحلاوة الحمصية بحماس واضح، حيث أن الأطفال يفرحون بالحلوى، ويستمتعون بتزيين الأكياس وتبادلها، فيما يُدرك الأهالي أهمية الحفاظ على هذا التقليد، ويحرصون على نقله لأبنائهم بكل حب واعتزاز.

كما أن هذا التفاعل المستمر يبعث على الأمل في أن تبقى هذه العادة حيّة لعقود قادمة، وربما تتطوّر لتأخذ أبعادًا جديدة تتناسب مع العصر، دون أن تفقد جوهرها الأصيل.

خميس الحلاوة الحمصية

في الختام، إن خميس الحلاوة الحمصية ليس مجرد تقليد سنوي عابر، بل هو رمز لروح مدينة حمص الأصيلة، ومرآة لوجدان أهلها المحبّ، وتعبير عن قيم المحبة والتسامح والفرح، كما أنه مناسبة تحمل بين طياتها ذكريات الطفولة، وروائح الحلوى، وضحكات الأهل، ودفء الجيران.

السابق
قصر محمد علي … تاريخ متحف قصر المنيل
التالي
تعرف على مدفن الأميرة شيوه كار أجمل قبر بالعالم