في قلب دمشق القديمة وعلى بعد خطوات قليلة من الجدار الجنوبي للجامع الأموي الكبير يقف خان السفرجلاني كشاهد صامت على تاريخ المدينة التجاري العريق وروعتها المعمارية.
يُعد هذا الخان الذي يبلغ عمره حوالي ثلاثة قرون أحد أبرز المعالم الأثرية المتبقية من العهد العثماني، فترة ازدهرت فيها دمشق كمركز حيوي على طرق التجارة العالمية.
لم تكن الخانات مجرد أماكن لإيواء التجار والمسافرين بل كانت شرايين نابضة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية وملتقيات ثقافية تعج بالصفقات التجارية وتبادل الأخبار والبضائع القادمة من أصقاع الأرض.
الموقع الجغرافي لخان السفرجلاني
يقع خان السفرجلاني في قلب المدينة القديمة بدمشق ضمن نطاقها التاريخي المسوّر وتحديدًا في حيّ القيمرية المحاذي للجامع الأموي من جهته الجنوبية.
حيث يتموضع الخان على المحور التجاري الحيوي الممتد بين البوابة الجنوبية للجامع الأموي وسوق البزورية وقصر العظم ويطل مباشرة على سوق الصاغة الذي يُعد من أهم أسواق الحليّ والمجوهرات في المدينة.
ويتجاور الخان مع مجموعة من المنشآت التراثية المهمة مثل خان الصدرانية من الجهة الجنوبية وزقاق الحمراوي المؤدي إلى قصر العظم، مما يعكس اندماجه البنيوي في شبكة الأسواق والخانات التاريخية لدمشق.
وقد بُني الخان في الحقبة العثمانية منتصف القرن الثامن عشر ويتميز بطرازه العمراني التقليدي القائم على حجارة الأبلق وبوظيفته التجارية التي كانت تجمع بين إيواء التجار وتخزين البضائع، قبل أن يتكيّف لاحقًا مع الاستخدامات المعاصرة المرتبطة بالتجارة والسياحة الثقافية داخل النسيج التاريخي للمدينة القديمة.
خانُ السفرجلاني يعدُّ من الخانات الباقية في نسيج دمشق التاريخي، ويُمثّل مثالاً متميزًا على مؤسسات الإيواء والتجارة الحضرية في الفترة العثمانية الوسطى.
من الناحية الوظيفية كان خان السفرجلاني جزءًا من منظومة الخانات التي لعبت دورًا مزدوجًا: إقامة ليلية للتجار ومخزنًا لبضائعهم، إضافةً إلى كونه نقطة تجمّع تجاري مرتبطة بسوق الصاغة وسوق السلاح المجاورين. هذا الدور الاجتماعي–الاقتصادي جعله عنصرًا فعالًا في دينامية السوق المحيط بالجامع الأموي، حيث انبثقت حوله أنشطة بيع وصياغة الحليّ وتجارة السلع المختلفة، وهو امتداد لتقليد خانات دمشق التي بلغ عددها تاريخيًّا نحو 139 خانًا في أوجها.

اقرأ أيضًا: سوق الحميدية.. قلب دمشق النابض
تاريخ ونشأة خان السفرجلاني
يُعد خان السفرجلاني نموذجًا هامًا لدراسة تطور العمارة التجارية والاجتماعية في دمشق خلال العصر العثماني، وتحديدًا في منتصف القرن الثامن عشر.
لفهم تاريخ هذا الخان يجب وضعه في سياقه العمراني والسياسي الأوسع كجزء من شبكة معقدة من المنشآت التجارية التي شكلت عصب الحياة الاقتصادية للمدينة
حيث شهدت دمشق في القرن الثامن عشر فترة من الاستقرار النسبي والازدهار الاقتصادي تحت الحكم العثماني خاصة في عهد ولاة آل العظم هذه الفترة التي سبقت إنشاء خان السفرجلاني مباشرة تميزت بنهضة عمرانية واسعة، كان أبرز تجلياتها بناء خان أسعد باشا العظم (اكتمل عام 1753م) الذي وضع معيارًا جديدًا لفخامة وضخامة الخانات.
إن بناء خان السفرجلاني بعد سنوات قليلة فقط حوالي عام 1757م يشير إلى استمرارية هذا الزخم العمراني والحاجة المتزايدة لمزيد من المرافق التجارية لاستيعاب حركة القوافل والتجارة المتنامية.
لم يكن بناء الخان عملًا معزولًا بل كان جزءًا من سياسة عثمانية تهدف إلى تأمين طرق التجارة والحج وتوفير البنية التحتية اللازمة لازدهار المراكز الحضرية الكبرى مثل دمشق.
كانت هذه الخانات بمثابة فنادق تجارية توفر الأمان والراحة والمرافق اللازمة لممارسة التجارة، ومع مرور الزمن وتحديدًا مع بداية القرن العشرين وتغير أنماط التجارة وظهور الفنادق الحديثة وبدأت الوظيفة المبيتية للخان تتراجع ثم تحولت غرف الطابق العلوي تدريجيًا إلى ورش صغيرة أو مكاتب بينما حافظ الطابق السفلي على طابعه التجاري وإن تغيرت طبيعة المهن فيه.
اليوم أصبح الخان حاضنًا لمزيج من الحرف التقليدية المهددة بالاندثار، مثل صناعة القباقيب الخشبية إلى جانب محلات بيع التحف الشرقية (الأنتيكات)، مما يجعله أشبه بمتحف حي يروي قصة تحولات المدينة الاقتصادية والاجتماعية.

اقرأ أيضًا: قصر العظم في دمشق
التصميم الداخلي والأقسام في خان السفرجلاني
يتميز التصميم الداخلي لخان السفرجلاني بالبساطة الوظيفية والجماليات المعمارية التي كانت سائدة في العصر العثماني بدمشق، وهو يعكس الغرض الأساسي الذي بني من أجله: التجارة والمبيت.
- المدخل والبوابة
يبدأ الخان ببوابة حجرية ضخمة ومزخرفة هذه البوابة مبنية على الطراز “الأبلق” الشهير الذي يعتمد على التناوب بين الحجارة البيضاء والسوداء مما يمنح الواجهة إيقاعًا بصريًا مميزًا.
يعلو البوابة قوس حجري كبير نُقشت حوله رسوم هندسية تزيد من فخامته، أما الباب نفسه فهو مصنوع من الخشب الثقيل ويتألف من مصراعين كبيرين.
بعد عبور البوابة لا يدخل الزائر إلى فناء الخان مباشرة بل يمر عبر دهليز أو ممر ضيق ومسقوف، هذا الدهليز مزخرف بعقدين معماريين وهو مصمم لخلق انتقال تدريجي من صخب السوق الخارجي إلى هدوء الفناء الداخلي.
2. الفناء السماوي (الباحة)
يؤدي الدهليز إلى باحة سماوية (فناء مفتوح على السماء)، وهي مركز الخان ونقطة توزيع الحركة الرئيسية.
حيث تأخذ الباحة شكلًا أقرب إلى المستطيل وتبلغ مساحتها حوالي 600 متر مربع، وفي وسط الباحة توجد بحرة ماء قديمة وهي عنصر تقليدي في العمارة الدمشقية يهدف إلى تلطيف الجو وإضفاء لمسة جمالية.
أما سقف الخان ليس مغطى بالكامل بل يحتوي على ثلاث قباب مفتوحة من الأعلى هذه الفتحات السماوية بالإضافة إلى الباحة نفسها تعمل على إدخال الضوء الطبيعي والهواء، إلى جميع أجزاء الخان وهو حل معماري ذكي كان شائعاً قبل اختراع الكهرباء.
3. الطابق الأرضي (السفلي):
كان هذا الطابق مخصصًا بالكامل للأنشطة التجارية يحيط بالباحة والممر المؤدي إليها رواق مسقوف.
خلف هذا الرواق تتوزع مجموعة من المخازن والمحلات التجارية (الحواصل)، يضم الخان حوالي 12 محلًا أو مخزنًا في هذا الطابق.
هذه الوحدات عبارة عن غرف مقببة (ذات أسقف معقودة) وجدران حجرية سميكة تفصل بينها، مما يوفر عزلًا جيدًا ويحافظ على برودة البضائع المخزنة وكانت أبواب هذه المحلات تفتح مباشرة على الرواق المحيط بالباحة.
الطابق العلوي كان هذا الطابق مخصصًا لإقامة ونوم التجار والمسافرين أي أنه كان بمثابة “فندق” الخان حيث يتم الوصول إلى الطابق العلوي عبر درج حجري. تتوزع غرف المبيت حول ممر يطل على الباحة السماوية من الأعلى.
هذا التصميم يسمح للنزلاء بمراقبة بضائعهم في الأسفل ويوفر تهوية وإضاءة طبيعية للغرف مع مرور الزمن تحولت هذه الغرف إلى ورش صغيرة ومكاتب.

وفي نهاية المطاف، لا يمكن اختزال خان السفرجلاني في كونه مجرد بناء أثري نجا من تقلبات الزمن، بل هو فصل حي من فصول السجل الاجتماعي والاقتصادي لمدينة دمشق.
يقف هذا الخان بتصميمه المتوازن ووظيفته التاريخية كشاهد مادي على حقبة كانت فيها دمشق ملتقى للقوافل ونقطة تقاطع للثقافات.
إن جدرانه الحجرية التي بنيت بتقنية الأبلق العريقة لا تحكي قصة العمارة العثمانية في أوج ازدهارها فحسب، بل تهمس بحكايات التجار الذين مروا من هنا والصفقات التي عُقدت في باحته والحرفيين الذين وجدوا في غرفه ملاذًا لإبداعهم.
لذلك، يمثل خان السفرجلاني أكثر من مجرد معلم سياحي إنه ذاكرة مكانية حية وجسر يربط بين ماضي دمشق التجاري وحاضرها الحرفي.
وإن الحفاظ عليه وعلى أمثاله من الخانات ليس مجرد صيانة للحجر بل هو حماية لروح المدينة وهويتها المتراكمة عبر العصور يبقى السفرجلاني بصمته المهيب على مرمى حجر من الجامع الأموي رمزًا لقدرة دمشق على استيعاب الزمن والتكيف معه دون أن تفقد جوهرها الأصيل.










