بوابة سوريا

حي القيمرية في دمشق: قلب المدينة القديمة بين الأسواق والزوايا والخانات

حي القيمرية

يُعدّ حي القيمرية في دمشق أحد أهم أحياء المدينة القديمة في دمشق وهو حيّ تجاري–سكني تاريخي حافظ على قدرٍ كبير من نسيجه العمراني التقليدي وما يزال يعمل بوصفه معبرًا يوميًا بين ساحة الجامع الأموي والجهة الشرقية من المدينة المسوّرة.

تتجاور فيه الأسواق المسقوفة مع الدور الدمشقية ذات الأفنية الداخلية والزوايا والمدارس والخانات والحمّامات بما يقدّم نموذجًا مكثّفًا عن المدينة الإسلامية المشرقية في أطوارها المملوكية والعثمانية.

الموقع الجغرافي وحدود الحي


يقع حي القيمرية في دمشق داخل نسيج المدينة القديمة المسوَّرة في قلب دمشق القديمة، وتحديدًا بين الجامع الأموي من جهة الغرب بدءًا من منطقة النوفرة التي تضم مقهى النوفرة التاريخي الشهير، أما من الشمال فتحدّه حارة الجورة ومن جهة الشرق باب شرقي، هذا الموقع جعله نقطة عبور رئيسية للزوّار وحركة التجارة اليومية.

إلى الشمال الشرقي يتصل القيمرية بحي باب توما بينما يحده من الجنوب الشارع المستقيم أو سوق مدحت باشا، الذي يقع بين الكنيسة المريمية وسوق الخياطين، وهو الشريان الأهم الذي يقطع المدينة القديمة من الشرق إلى الغرب.

تتوزع أزقة حي القيمرية في دمشق، الضيقة والمتعرجة حول سوق القيمرية وتتشابك مع الشارع المستقيم في أكثر من نقطة، وتظهر في داخله ممرات مسقوفة وأسواق صغيرة توفر الظل والتهوية إضافة إلى ساحات وعُقد أمام المساجد والزوايا.

بيوته التقليدية بفنائها الداخلي وخاناته القديمة تضفي على الحي طابعًا دمشقيًا أصيلًا.

فيما يلعب دوره العمراني كصلة وصل بين الأسواق الصاخبة قرب الجامع الأموي والمناطق السكنية الهادئة داخل السور.

وبهذه الخصائص المكانية يتخذ حي القيمرية في دمشق موقعًا مفصليًا يربط محاور الحركة الرئيسة (الشرقية-الغربية على الشارع المستقيم والشمالية-الجنوبية عبر أزقة القيمرية)، ويؤمّن انتقالًا تدريجيًا من فضاءات الأسواق الكبرى إلى الأنسجة السكنية الهادئة داخل السور.

حي القيمرية

اقرأ أيضًا: حي ساروجة في دمشق… عبق التاريخ وذاكرة المدينة

أصل التسمية

تتعدد الروايات حول أصل تسمية حي القيمرية في دمشق، الأمر الذي يعكس غنى تاريخه وتنوع جذوره، فهناك من يروي أن الاسم يعود إلى شيخ يُدعى قيمر عاش في زمن الفتوحات الإسلامية فأُطلق الحي باسمه تخليدًا لذكراه.

بينما تشير مصادر تاريخية أخرى إلى أن التسمية ارتبطت بالمدرسة القيمرية الكبرى التي أنشأها الأمير الأيوبي ناصر الدين الحسين القيمري الكردي، وكانت من أبرز المدارس العلمية والدينية في المدينة حتى إن اسمها غلب على كامل الحي.

أما فرضية ثالثة فتعود إلى البعد المسيحي للمنطقة، إذ يُقال إن الاسم الأصلي كان “آيا ماريا” نسبةً إلى الكنيسة المريمية القديمة ثم تحوّل مع الزمن إلى “القيمرية”.

وهذه الرواية تسلط الضوء على تاريخ التعايش الديني والثقافي في دمشق حيث تعانقت عبر القرون الكنائس والمساجد في فضاء عمراني واحد.

حي القيمرية

اقرأ أيضًا: الجامع الأموي في دمشق… جوهرة التراث الإسلامي

التاريخ والتحوّلات

يُعدّ حي القيمرية في دمشق من أبرز أحياء المدينة وأكثرها غنىً من الناحية التاريخية والعمرانية، فقد نشأ بصورته المعروفة خلال العهد الأيوبي في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، عندما استقر فيه الشيخ الصوفي شمس الدين القيمري مما أضفى عليه طابعًا روحيًا وعلميًا انعكس لاحقًا في كثرة المدارس والزوايا والخانات التي احتضنها.

كما ارتبطت القيمرية أيضًا بتاريخ أقدم إذ يشكّل الشارع المستقيم الممتد في نسيجه جزءًا من شارع الأعمدة الروماني الذي حافظ على حضوره عبر العصور، ومع الفتح الإسلامي نما الحي في محيط الجامع الأموي واتصل بمحاور المدينة الكبرى باتجاه باب توما وباب شرقي.

وفي العهدين المملوكي والعثماني توسع حي القيمرية في دمشق وتحوّل إلى مركز تجاري نشط، حيث اشتهر بحرفه التقليدية كالنسيج والتطريز والعطور والنحاسيات ما أكسبه ألقابًا مثل الهند الصغرى وسوق المطرزين كما كان مقصدًا للنساء للتسوق فعُرف أحيانًا بـ سوق الحريميين.

وفي القرن التاسع عشر جرى تنظيم بعض ممراته وأسواقه بما يتماشى مع إصلاحات التنظيم العمراني العثماني.

أما في القرن العشرين، فقد اكتسب حي القيمرية في دمشق مكانة خاصة بعد إدراج دمشق القديمة على قائمة التراث العالمي (1979)، مما أسهم في إطلاق مبادرات لترميم مبانيه التقليدية وتحويل بعضها إلى فنادق صغيرة ومحال للحرف اليدوية.

واليوم ما زال حي القيمرية يحافظ على دوره كمحور يربط بين قلب المدينة الديني عند الجامع الأموي والشرق المسيحي في باب توما، جامعًا بين أصالته التاريخية ووظيفته السياحية والثقافية المعاصر.

حي القيمرية

اقرأ أيضًا: جبل قاسيون.. الحارس الأبدي لدمشق

البنية العمرانية لحي القيمرية

يعد حي القيمرية في دمشق القديمة واحدًا من أبرز الأحياء التاريخية التي تجمع بين العمق الديني والعلمي والتجاري والعمراني ومن أبرز هذه المعالم:

المدرسة القيمرية الكبرى التي منحت الحي اسمه تعد من أهم المعالم التاريخية في الحي، حيث بُنيت في القرن الثالث عشر الميلادي على يد الأمير الأيوبي ناصر الدين الحسين القيمري الكردي لتكون مركزًا للتعليم الديني والفقهي، كما تتميز المدرسة بطرازها المعماري الدمشقي الأيوبي حيث تضم صحنًا داخليًا تحيط به الغرف والممرات ومحرابًا مزخرفًا يعكس روعة فنون الحجر والزخرفة في ذلك العصر.

وعُرفت المدرسة لاحقًا باسم المدرسة العتيقة أو مدرسة القطاط، وكانت مقصدًا للعلماء والطلاب على مر العصور، وما زالت اليوم المدرسة قائمة كجزء من النسيج التاريخي للحي وتشكل محطة مهمة للزوار الراغبين في اكتشاف الوجه العلمي والثقافي لدمشق القديمة.

بالإضافة إلى الزوايا الصوفية التي أضفت على المكان طابعًا روحيًا مميزًا هذه الزوايا كانت مراكز للعبادة والذكر واستراحة للزائرين والفقراء وما زالت حتى اليوم تحتفظ بعبقها التاريخي.
ومن أبرزها زاوية الشيخ شمس الدين القيمري التي كانت مقصدًا للمريدين والمتعبدين.

كما توجد زوايا أخرى أصغر تنتشر بين أزقة الحي الضيقة كانت على مر العصور ملتقى للمتصوفة وطلاب العلم.

كما يضم الحي معالم أثرية مهمة مثل باب جيرون الذي يُعد واحدًا من أقدم وأهم المعالم الأثرية في دمشق القديمة، ويقع في الجهة الغربية من حي القيمرية على مقربة من الجامع الأموي.

الذي يعود أصله إلى العهد الروماني حيث كان أحد أبواب معبد جوبيتر الدمشقي الضخم الذي شكّل مركز المدينة المقدسة في تلك الحقبة، وما زالت أجزاء من هذا الباب قائمة حتى اليوم مثل الأعمدة الحجرية الضخمة والنقوش التي تعكس عظمة العمارة الرومانية.


وخلال العصور الإسلامية أصبح باب جيرون مدخلًا رئيسًا للجامع الأموي، كما أطلق عليه الدمشقيون أسماء أخرى مثل باب الساعات والباب الشرقي للجامع نظرًا لموقعه ووظيفته.

وعلى الصعيد الاقتصادي–الاجتماعي يحتضن الحي سوق القيمرية وهو سوق مسقوف بسقوف خشبية تقليدية تتخللها فتحات إضاءة صغيرة وقَمَريّات تسمح بدخول الضوء المصفّى وتهوية الفراغ؛ تتوزع على جانبيه دكاكين الحِرف التقليدية (النحاسيات، الزجاج اليدوي، الموزاييك/الصدف، العطورات، الحلويات، الأقمشة) ومحال للمنتجات السياحية–التراثية.

وإلى جانب الأسواق اشتهر الحي بوجود الخانات والحمامات التاريخية فقد شكّلت الخانات محطات أساسية للتجار والقوافل، ومن أبرزها خان الوردة المعروف بجمال فنائه وزخارفه وخان الحرير الذي ارتبط بتجارة الأقمشة والحرائر الدمشقية الشهيرة.

أما الحمامات الموجودة في حي القيمرية في دمشق فقد كانت ملتقى اجتماعيًا وثقافيًا إلى جانب وظيفتها الأساسية ويعد حمام القيمرية من أشهرها بقاعاته المقببة المزينة بالزجاج الملون وأجوائه الشرقية الفريدة، إلى جانب حمام نور الدين الشهيد وهو واحد من أقدم حمامات المدينة.

إضافةً إلى المنازل الدمشقية التقليدية ذات الأفنية الداخلية المزينة بالنوافير والزخارف الحجرية، والتي تعكس الطراز العمراني الدمشقي العريق وقد تحوّل بعضها في العصر الحديث إلى بيوت ضيافة ومراكز ثقافية.


كما يشتهر الحي باحتضانه المقاهي التاريخية التي لعبت دورًا اجتماعيًا وثقافيًا بارزًا وأشهرها مقهى النوفرة الواقع بالقرب من الجامع الأموي والذي ظل لقرون ملتقىً للعلماء والأدباء والزوار.

وبهذه العناصر المتنوعة يجسّد حي القيمرية في دمشق صورة متكاملة عن التراث الدمشقي الحي بما يجمعه من طبقات حضارية ومعالم معمارية وحياة اجتماعية نابضة.

حي القيمرية


ختامًا، حي القيمرية في دمشق حيّ مفصلي لفهم دمشق القديمة: جغرافيًا هو الحلقة التي تشدّ واجهة الجامع الأموي ببوابات الشرق، وعمرانيًا هو مختبر حيّ لمدينة الأسواق المسقوفة والدور الداخلية، وتاريخيًا هو سجلّ للأوقاف والزوايا والحِرف.

إنّ مقاربة الحي بوصفه نسيجًا حيًا لا متحفًا ساكنًا هي المدخل الأجدى لصيانته: صيانة وظيفته اليومية، وحماية حِرفه، وترميم مكوّناته المعمارية ضمن رؤية تُبقيه مجالًا عامًا نابضًا، لا مجرد خلفية فوتوغرافية.

السابق
العُلا جوهرة التاريخ وسحر الطبيعة
التالي
بينما ينام العالم أبو الهيجاء وفلسطين