حي الصالحية من أعرق الأحياء في دمشق، حيث يقع عند السفح الجنوبي لجبل قاسيون وتأسس في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي حين وفد إليه علماء وفقهاء من بيت المقدس بعد الحروب الصليبية.
وسرعان ما تحوّل إلى مركز ديني وعلمي بارز عُرف بكثرة مدارسه وزواياه ومقامات أوليائه وأشهرها مقام الشيخ محيي الدين بن عربي، ويتميّز الحي بأزقته الضيقة وبيوته الدمشقية ذات الطابع التراثي، فجمع بين الأصالة العمرانية والروحانية الدينية، ليصبح واحدًا من أبرز أحياء دمشق التاريخية وأكثرها تأثيرًا في هويتها الثقافية.
Contents
الموقع الجغرافي لـ حي الصالحية
يقع حي الصالحية في دمشق على السفوح الجنوبيّة لجبل قاسيون في موقع استراتيجي يربط بين المدينة القديمة ومناطق الامتداد العمراني الحديثـ ويمتد نطاقه الجغرافي من ساحة يوسف العظمة المعروفة قديمًا ببوابة الصالحيّة في الجهة الجنوبيّة صعودًا نحو سفوح قاسيون حيث جامع الأربعين شمالًا، بينما يحدّه من الشرق محيط جامع أبي النور وما جاوره من الأبنية الحديثة ومن الغرب حيّ العفيف الذي يتكامل معها عمرانيًا واجتماعيًا.
وقد منحه موقعه المتميّز على سفح قاسيون إطلالة بانورامية على المدينة بأكملها الأمر الذي جعلها مقصدًا للعلماء والمتصوفة منذ القرن الثاني عشر لتتحول تدريجيًا إلى مركز علمي وديني بارز.
ومع مرور الزمن توسعت الصالحية لتستوعب أحياء فرعية مثل الشيخ محيي الدين والعفيف والمهاجرين، وشهد تحولات عمرانية كبيرة منذ العصور الأيوبية والمملوكية وحتى الحقبة العثمانية وصولًا إلى بدايات القرن العشرين، حين أصبحت مقرًا للعديد من المؤسسات الحكومية والمراكز الحديثة.
إن موقع حي الصالحية عند التقاء دمشق القديمة بسفوح قاسيون منحه هوية مزدوجة فهي من جهة حيّ تراثي يزخر بالمدارس والزوايا والأضرحة، ومن جهة أخرى فضاء حضري معاصر يحتضن الشوارع العريضة والمباني الرسمية.
وينقسم حي الصالحية إلى منطقتين رئيسيتين وهما حي الصالحية القديم ويشمل مناطق مثل أبو جرش وحي ركن الدين وحي الشيخ محيي الدين، وحي الصالحية الحديث الذي يشمل مناطق مثل المهاجرين والعفيف والشهداء والشهبندر.
كما يُعد حي الصالحية من الشوارع الرئيسية في دمشق، ويمتد من ساحة يوسف العظمة إلى ساحة عرنوس ويشتهر بالمحلات التجارية الراقية ودور السينما.

اقرأ أيضًا: حي ساروجة في دمشق… عبق التاريخ وذاكرة المدينة
تسمية حي الصالحية
يرتبط اسم حي الصالحية ارتباطًا وثيقًا بظروف نشأة الحي وتطوّره التاريخي، فقد استقر في هذه المنطقة عدد من العلماء والفقهاء الوافدين من بيت المقدس يتقدّمهم الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي.
وبعد أن دفعتهم الحروب الصليبية إلى الهجرة نحو دمشق أُطلق على هذا التجمّع البشري في بداياته اسم حيّ الصالحين في إشارة إلى مكانة ساكنيه العلمية والروحية، ثم تحوّلت التسمية بمرور الزمن إلى الصالحيّة لتصبح عَلَمًا جغرافيًا ثابتًا يدل على الحي ومحيطه العمراني.
وقد عُرفت المنطقة عبر العصور بعدة تسميات أخرى عكست أدوارها ووظائفها، ففي المصادر التاريخية الوسيطة أُطلق عليها أحيانًا اسم حيّ المدارس نتيجة لوفرة المدارس الدينية التي أُنشئت فيها منذ العصر الأيوبي مثل المدرسة الركنية والعمرية والعادلية، وهو ما يؤكّد دورها كمركز علمي متميّز في دمشق.
كما وردت تسميات وصفية أخرى مثل ضاحية الصالحين أو ضاحية قاسيون في إشارة إلى موقعها الجغرافي المتميّز خارج أسوار المدينة القديمة وعلى تماس مباشر مع سفوح الجبل.
ومع تطوّره في العصر الحديث وخاصة منذ افتتاح جادة الصالحية مطلع القرن العشرين ارتبط اسمه أكثر بالبُعد التجاري والإداري، حتى غدت جادة الصالحية من أهم المحاور الرئيسة في النسيج الحضري لدمشق.
وعليه فإنّ تسمية حي الصالحية تحمل في جوهرها بعدًا تاريخيًا وثقافيًا فهي ليست مجرد دلالة مكانية، بل انعكاس لمسار اجتماعي وعلمي أسهم في تكوين هوية الحي وترسيخ مكانته ضمن البنية العمرانية والثقافية للعاصمة السورية..

اقرأ أيضًا: مكتب عنبر… شاهد حي على تحولات جذرية في تاريخ دمشق
تاريخ حي الصالحية
تعود جذور حي الصالحية في دمشق إلى القرن الثاني عشر الميلادي حين دفعت الحروب الصليبية جماعات من العلماء والفقهاء المقدسيين وفي مقدمتهم آل قدامة إلى النزوح نحو دمشق والاستقرار عند السفوح الجنوبية لجبل قاسيون.
وقد شكّل اختيارهم لهذا الموقع نقطة تحوّل في تاريخ المدينة إذ تحوّل المكان تدريجيًا إلى مركز علمي وديني بارز، فانتشرت فيه المدارس الشرعية والزوايا والأوقاف مما عزّز الحضور الحنبلي في الحياة الفكرية لدمشق.
ومع وفاة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي ودفنه في الصالحية عام 1240م اكتسب الحي بعدًا روحيًا إضافيًا وجاء التوسع العثماني في أوائل القرن السادس عشر ليكرّس هذه المكانة من خلال إنشاء التكية السليمانية حول ضريحه.
وخلال العصور المملوكية والعثمانية تزايد عمران الحي واتسعت مساحاته على ضفاف فروع نهر بردى، فارتبط اسمه بالبساتين والمياه العذبة وحافظ في الوقت ذاته على طابعه العلمي.
ومع مطلع القرن العشرين أصبح حي الصالحية جسرًا حضريًا بين دمشق القديمة وأحيائها الحديثة، حيث فُتحت جادة الصالحية ونشأت في أعلاها أحياء جديدة مثل المهاجرين التي استقبلت موجات من الوافدين من البلقان والقوقاز.
هذا التطور جعل حي الصالحية حيًا ذا هوية مركبة فهي من جهة فضاء تاريخي يحتضن مقامات الأولياء والمدارس القديمة، ومن جهة أخرى مركز إداري وتجاري حديث يضم مباني رسمية وأسواقًا نشطة، وهو ما منحها دورًا محوريًا في صياغة المشهد العمراني والثقافي لدمشق الحديثة.

اقرأ أيضًا: مكتب عنبر… شاهد حي على تحولات جذرية في تاريخ دمشق
المعالم والأحياء في حي الصالحية
يتميز حي الصالحية في دمشق بغنى تاريخي وعمراني يجمع بين المعالم الدينية والتعليمية والطبيعية والتجارية، ما جعله نموذجًا متكاملًا للحيّ الدمشقي التقليدي الذي حافظ على أصالته مع تكيّفه مع الحداثة.
وفي قلب الحي يقع جامع ومقام الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (1240م) الذي شكّل مركزًا صوفيًا وروحيًا بارزًا.
إلى جانب جامع التكيّة السليمانية الذي أُنشئ في الحقبة العثمانية كمجمع متكامل يضم مسجدًا ومدرسة ومرافق خدمية ما عزز من الدور الاجتماعي والثقافي للحي، كما يضم حي الصالحية جامع أبي النور وجامع الحنابلة وجامع وضريح الشيخ عبد الغني النابلسي وجميعها تعكس تداخلًا بين العبادة والتعليم والزيارة الصوفية مؤسِّسةً بذلك شبكة دينية متماسكة.
ويبرز حي الصالحية كذلك بمدارسه التاريخية مثل المدرسة العمرية والركنية والأتابكية، حيث كانت هذه المؤسسات التعليمية مركزًا للعلم الشرعي واستقطبت طلابًا من مختلف أنحاء الشام.
بالاضافة الى حمام المقدم ومقبرة الأكراد ويكتمل المشهد الحضري للحي بوجود سوق الجمعة الذي يُعدّ من أبرز الأسواق التقليدية في الصالحيّة.
ومع مطلع القرن العشرين شهد حي الصالحية توسعات عمرانية بارزة مثل افتتاح جادة الصالحيّة التي حولت الحي إلى محور تجاري وإداري حديث، إضافة إلى إنشاء مؤسسات رسمية مثل **مجلس الشعب** قرب بوابة الصالحيّة، ليظل الحيّ فضاءً يجمع بين التراث الديني والعلمي والطبيعي والوظائف الحضرية الحديثة.

يعتبر حي الصالحية في دمشق منطقة ذات أهمية تاريخية وثقافية كبيرة، حيث يجسد جزءًا حيويًا من تاريخ دمشق العريق وتطورها الحضاري، بفضل موقعه الفريد على سفح جبل قاسيون، ومعالمه التاريخية التي تحكي قصصًا عن الهجرات والصراعات والازدهار، يثظل الصالحية شاهدًا على غنى التراث السوري ومركزًا حيويًا في قلب العاصمة.