بوابة سوريا

حمام القواص في حلب: حيث الحجر يروي حكايا النقاء واللقاء

حمّام القواص في حلب

في القلب النابض للمدينة القديمة في حلب، حيث تتشابك الأزقة الضيقة وتتعانق الحجارة العتيقة، يقف حمام القواص في حلب شاهدًا صامتًا على عظمة التاريخ وعبقرية العمارة الإسلامية.

ليس هذا الحمّام مجرد مبنى حجري أو مكان للاستحمام فحسب بل هو مؤسسة اجتماعية متكاملة وصرح معماري يروي حكاية قرون من الحياة اليومية لأهل حلب وشاهد على مرونة التراث في وجه التحديات.

الموقع الجغرافي والنسيج العمراني لـ حمام القواص في حلب

حمّام القواص في حلب

يقع حمام القواص في حلب وتحديدًا في حي الطبلة التاريخي على بعد أمتار قليلة من باب النصر الشهير، أحد الأبواب الرئيسية لسور حلب القديم، هذا الموقع لم يكن اختيارًا عشوائيًا بل يخضع لمنطق عمراني دقيق حكم تخطيط المدن الإسلامية التقليدية.

فالحمّامات العامة كانت تُقام في نقاط محورية عند تقاطع محاور الحركة الرئيسية قرب الأسواق والبوابات، لتؤدي دورًا ثلاثي الأبعاد خدميًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

يقول الباحث في التراث الحلبي، د. محمد خير: موقع حمام القواص في حلب يمثل نموذجًا متكاملًا للعمارة الإسلامية التي تجمع بين الوظيفة والرمزية.

إن قربه من باب النصر المدخل الشمالي الرئيسي للمدينة جعله محطة إجبارية للمسافرين والتجار والقوافل القادمة من الأناضول وشمال سوريا، حيث كانوا يجدون فيه ملاذًا للراحة والتطهر بعد رحلات شاقة.

كما أن تموضعه بمحاذاة الأسواق التقليدية كسوق القواص وسوق الطبلة جعله جزءًا من شبكة اقتصادية اجتماعية متكاملة.

فالتاجر كان ينهي عمله في السوق ويتوجه إلى الحمّام والحرفي كان ينتقل من ورشته إلى مكان الاسترخاء في دورة حياتية يومية منتظمة.

اقرأ أيضًا: البوظة العربية في سوريا: حلاوة تُضرب بالقلب قبل المِدَقّ

النشأة والتاريخ لـ حمام القواص في حلب

حمّام القواص في حلب

تأسس حمام القواص في حلب في عام 794 هـ / 1392 م، حيث يعود الفضل في تأسيسه إلى سيف الدين القواص الناصري أحد أمراء المماليك البارزين في عهد السلطان الظاهر برقوق.

لم يكن بناء حمام القواص في حلب مجرد مشروع خدمي بل كان استعراضًا للقوة والنفوذ والثراء، وهو ما كان شائعًا بين أمراء المماليك الذين تنافسوا في تشييد المباني الفخمة كالمساجد والمدارس والبيمارستانات (المستشفيات) والحمّامات، ليخلدوا أسماءهم ويتركوا بصمة في المدينة.

وتعود تسمية حمام القواص في حلب إلى بانيه الأمير سيف الدين القواص، وكلمة “القواص” هي لقب وظيفي كان يُطلق على صانع الأقواس والسهام، وهي مهنة كانت تحظى بتقدير كبير في العصر المملوكي نظرًا لأهميتها العسكرية.

ومن المرجح أن الأمير سيف الدين كان مسؤولًا عن فرقة من رماة السهام أو مشرفًا على صناعة الأقواس في جيش السلطان، وهو ما منحه هذا اللقب الذي ارتبط به وبحمّامه الشهير.

منذ تأسيسه لم يكن حمام القواص في حلب مبنىً معزولًا بل كان جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لسكان حلب، موقعه الاستراتيجي بالقرب من الأسواق (الخانات) والبوابات الرئيسية للمدينة جعله محطة أساسية للتجار والمسافرين وسكان الأحياء المجاورة.

وفي العصر المملوكي والعثماني كان الحمّام مركزًا حيويًا للنظافة الشخصية في وقت لم تكن فيه الحمّامات الخاصة شائعة.

وكغيره من المنشآت الهامة كان حمام القواص في حلب على الأرجح “وقفًا” أي أن ريعه كان يُخصص للإنفاق على أعمال الخير، مثل إطعام الفقراء أو صيانة المساجد والمدارس، مما ضمن استمراريته وحمايته على مر القرون.

اقرأ أيضًا: جامع العادلية في حلب: معمار يروي ذاكرة خمسة قرون

العمارة والتخطيط

حمّام القواص في حلب

يمثل حمام القواص في حلب نموذجًا متقنًا للعمارة الحمّامية الإسلامية، بتصميم معماري متدرج ورثت الحمّامات الإسلامية، ومنها حمّام القواص، فكرة التصميم المتدرج من الحمّامات الرومانية لكنها طورتها لتلبي متطلبات الطهارة في الإسلام وتنسجم مع النسيج الاجتماعي للمدينة.

تقوم فكرة التصميم على نقل الزائر عبر ثلاث بيئات حرارية متباينة تهيئ الجسد والنفس تدريجيًا:

1-البرّاني

هو فضاء رحب ذو حرارة عادية تتوسطه غالبًا نافورة ماء رخامية وتحيط به مصاطب حجرية مفروشة بالوسائد والأرائك.

لم يكن هذا القسم مجرد غرفة لخلع الملابس وحفظها بل كان بمثابة “صالون اجتماعي” أو نادٍ مصغّر، فيه كان يلتقي الأصدقاء والتجار يتبادلون الأخبار ويعقدون الصفقات ويستمعون إلى حكايات “الحكواتي” أو عزف الموسيقى، كل ذلك قبل أو بعد طقس الاستحمام.

2-الوسطاني (القاعة الدافئة):

بعد ترك صخب “البرّاني” يدخل الزائر إلى “الوسطاني” وهو قسم ذو حرارة معتدلة ورطوبة خفيفة، هذا الفضاء الانتقالي المسقوف بقباب زجاجية صغيرة (قمرية) تسمح بمرور ضوء خافت يلعب دورًا نفسيًا وجسديًا هامًا.

هنا يبدأ الجسم بالتأقلم مع الحرارة فتنفتح المسام ببطء ويتهيأ الزائر للمرحلة الأكثر حرارة، بينما يقوم بالغسل الأولي في الأحواض الحجرية.

3.الجواني (القاعة الحارة):

هذا هو جوهر التجربة ومقصدها الأسمى، “الجواني” هو عالم من البخار الكثيف والحرارة العالية، حيث تتم عملية التطهير العميق، وتكمن عبقرية هذا القسم في نظامه الهندسي المتطور للتدفئة، المعروف باسم الهيبوكوست وهو نظام ورثه وطوره المعماريون المسلمون عن الرومان.

حيث يقوم هذا النظام على فرن (يُعرف بـ “بيت النار” أو “القميم”) يُسخّن الهواء والماء، ثم تُمرر الأدخنة والهواء الحار عبر قنوات خاصة تحت الأرضية الرخامية فترتفع حرارتها وتشع الدفء والبخار في أرجاء القاعة.

في هذا القسم يقوم “المُكيّس” بتلييف الجسد وإزالة الجلد الميت، ثم يأتي التدليك الذي يبعث على الاسترخاء العميق.

ويعتمد الهيكل الإنشائي للحمّام على الحجر الكلسي الحلبي المشهور بمتانته وقدرته العالية على العزل الحراري.

بالإضافة إلى القباب المتنوعة الأحجام الكبيرة فوق الجواني والمتوسطة فوق الوسطاني والصغيرة فوق البراني تشكل نظامًا متكاملًا للتهوية والإنارة.

والفتحات الزجاجية الملونة في القباب (المعروفة محليًا بالقمرات) ليست مجرد عناصر جمالية، بل هي نظام إنارة متقن يسمح بدخول أشعة الشمس بشكل مبعثر أجواء روحانية تتناسب مع طقس التطهر.

كما يُعد نظام التدفئة في حمّام القواص تحفة هندسية بحد ذاتها، فهو يعتمد على أفران حجرية ضخمة (تعمل بالحطب أو الفحم) تقع في غرفة منفصلة خلف الجواني.

تمر الحرارة عبر قنوات تحت الأرضية (نظام الهيبوكوست) وتسخن المياه في خزانات حجرية علوية لتمنح تجربة متكاملة من الدفء والنظافة.

اقرأ أيضًا: قصر ابن وردان: شاهد بيزنطي يجمع بين الإدارة والدين والدفاع في بادية حماة

الدور الاجتماعي: نسيج من العلاقات الإنسانية

حمّام القواص في حلب

لعبت الحمّامات مثل حمام القواص في حلب دورًا حيويًا في الحياة العامة خاصة في عصر ما قبل انتشار الحمّامات الخاصة، حيث كان ملتقى للأصدقاء وحتى مكانًا لعقد الصفقات التجارية، بالإضافة إلى كونها مركزًا للمناسبات الاجتماعية الكبرى، ففيها كانت تُقام احتفالات “حمّام العريس” و”حمّام العروس”، حيث يجتمع الأهل والأصدقاء للاحتفال والغناء.

كما كانت مكانًا تلجأ إليه النساء لاختيار زوجات لأبنائهن حيث تظهر الفتيات على طبيعتهن بعيدًا عن أي تجميل.

وللحمّام دوراته اليومية والأسبوعية والسنوية، ففي الصباح الباكر كان كبار السن يتوافدون للاستحمام والاسترخاء، وفي الظهيرة كان العمال والحرفيون يأتون بعد انتهاء دوامهم أما أيام الجمع فكانت مخصصة للاستعداد لليلة السبت، حيث يتحول الحمّام إلى كتلة بشرية متحركة.

واليوم بعد أن تأثر بأضرار الحرب تم ترميم حمّام القواص ليعود وينبض بالحياة من جديد، ليس فقط كمكان للاستحمام التقليدي بل كمركز ثقافي يستضيف السهرات الطربية الحلبية محافظًا على دوره كجزء لا يتجزأ من تراث المدينة وهويتها.

وفي مطلع الألفية خضع حمّام القواص لعملية ترميم واسعة أعادت إليه رونقه الأصلي لم تقتصر عملية الترميم على الجانب المعماري فقط بل هدفت إلى إحياء دوره الثقافي والاجتماعي، حيث أعيد افتتاحه ليعود وينبض بالحياة من جديد ليس فقط كمكان للاستحمام على الطريقة التقليدية بل كمركز ثقافي يستضيف الأمسيات الموسيقية الحلبية الأصيلة، مقدمًا لزواره تجربة فريدة تمزج بين الاسترخاء الجسدي والاستمتاع بالتراث الفني العريق للمدينة.

وهكذا يقف حمّام القواص اليوم ليس كبناءٍ أثريٍ صامت بل كشاهدٍ حيّ يروي فصولًا من تاريخ حلب العريق منذ أن وضع أساسه الأمير المملوكي “القوّاص” قبل أكثر من ستة قرون، حيث تحوّل هذا المكان من مجرد مرفق للنظافة إلى قلب نابض بالحياة الاجتماعية وملتقى ثقافي نسجت بين جدرانه حكايات الناس وأفراحهم.

ورغم كل ما مر به فإن عودته للعمل كحمّام تقليدي ومركز ثقافي تحتضنه الموسيقى الحلبية الأصيلة تجسد إرادة الحياة وقوة التراث في مدينة حلب.

إن قصة حمّام القواص هي في جوهرها قصة الصمود، حيث يمتزج عبق التاريخ برائحة البخار ليؤكد أن التراث ليس مجرد ماضٍ يُروى بل هو هوية تُعاش وتُحيا من جديد.

السابق
البوظة العربية في سوريا: حلاوة تُضرب بالقلب قبل المِدَقّ
التالي
حرفة النحاسيات في سوريا: قصة معدن يروي تاريخ الفن والهوية