بوابة سوريا

جامع العادلية في حلب: معمار يروي ذاكرة خمسة قرون

جامع العادلية

يتربّع جامع العادلية في حلب تلك التي طالما وُصفت بأنها متحف مفتوح تحت السماء كأحد أبرز الشواهد على الفن المعماري العثماني المبكر.

ليس مجرد مسجد للصلاة بل تحفة معمارية تحمل بين جدرانها قصة ولاية عثمانية وتاريخ مدينة نابض وإرث حضاري لا يزال يلهم الأجيال.

أكمل معنا هذا المقال لتتعرف أكثر على جامع العادلية في حلب.

الموقع الجغرافي لـ جامع العادلية في حلب

يقع جامع العادلية في الجهة الجنوبية الغربية من قلعة حلب على مسافة لا تتجاوز بضع مئات الأمتار منها، وهو موقع استراتيجي لم يكن اختيارُه عشوائيًا بل جاء ليجعل الجامع جزءًا من النسيج العمراني الحيوي للمدينة، حيث تتركز الأسواق الكبرى والخانات والمنازل التقليدية ذات الأفنية الداخلية.

ويقع جامع العادلية في حلب ضمن حي السفاحية الذي كان يُعد من الأحياء الراقية آنذاك لقربه من مركز الحكم والإدارة، وعلى الرغم من ضيق أزقته وتشابكها الا أن هذه الأزقة شكّلت شرايين الحياة اليومية في المدينة، إذ كانت مسرحًا لحركة التجار وقوافلهم وممرًا للسكان بين بيوتهم وأسواقهم ودور عبادتهم.

أما اليوم فإن الموقع يمنح الزائر تجربة بصرية ومعنوية فريدة، إذ يمكنه أن يقف عند أسوار القلعة ويطلّ على الجامع فيستحضر تواصل الزمن بين هذين المعلمين التاريخيين، حيث يختزن كل منهما في أحجاره رواية مميزة من روايات حلب.

جامع العادلية

اقرأ أيضًا: معالم طرطوس الأثرية: قصر تحوف نموذج للفن المعماري القديم

تاريخ جامع العادلية في حلب

تعود جذور جامع العادلية في حلب إلى منتصف القرن السادس عشر الميلادي ففي الفترة بين 1555 و1557م أمر الوالي العثماني دوقه كين زاده محمد باشا ببنائه أثناء ولايته على حلب في عهد السلطان سليمان القانوني.

وتشير بعض الروايات إلى أن العمل استمر حتى عام 1565م، وهو ما يعكس حجم العناية والتفاصيل التي وُضعت في تشييده.

كما ارتبطت تسمية جامع العادلية في حلب بـدار العدل المؤسسة القضائية والإدارية العثمانية التي كانت قريبة من مكان المسجد، وهذا يعكس بوضوح الدور المزدوج للجامع وهو مكان للعبادة ومكان يرتبط برمزية الحكم والعدل في آن واحد.

وعلى مدى القرون ظل الجامع شاهدًا على أحداث مفصلية عاشتها حلب من ازدهارها كمركز تجاري وثقافي في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى التحديات التي واجهتها المدينة خلال فترات الحروب والاضطرابات.

جامع العادلية

اقرأ أيضًا: برج الصبي في بانياس: حارس جبال الساحل السوري

التصميم المعماري للجامع

يُعد جامع العادلية في حلب من أبرز النماذج المعمارية التي جسّدت انتقال النمط العثماني الكلاسيكي إلى مدينة حلب، مع احتفاظه في الوقت ذاته بخصوصية محلية واضحة أكسبته طابعًا متفردًا، فقد جمع بين سمات العمارة الإمبراطورية الوافدة من إسطنبول وبين تقاليد البناء الحلبي المعتمد على الحجر الضخم والكتل الصلبة.

حيث تقوم قاعة الصلاة على مخطّط مربع يقارب طول ضلعه 23 مترًا تغطيه قبة رئيسية واسعة تستند إلى رقبة مثمّنة محمولة بواسطة مثلثات كروية، وهو حل إنشائي معماري ارتبط بالعمارة العثمانية الكلاسيكية، إلا أنّ هذا العنصر العثماني اندمج مع الطابع المحلي في معالجة الكتل الحجرية مما منح المبنى قوة وبساطة في آن واحد.

كما يتوسط الصحن حوض وضوء يمثّل محورًا جماليًا ووظيفيًا في آن واحد، حيث تحيط به أروقة محمولة على أعمدة رخامية وتؤدي هذه الأروقة وظيفة مزدوجة إذ توفر انتقالًا تدريجيًا من الفضاء الخارجي الصاخب إلى سكينة الداخل، وتضفي على التكوين العام انسجامًا بصريًا وروحيًا.

ومن أهم معالم الجامع أيضًا بهو أمامي الذي يتألف من صفين من الأعمدة، وهو عنصر معماري جديد على تقاليد مساجد حلب هذا المدخل لم يكن مجرد معالجة إنشائية بل تعبير عن إرادة الوالي في إضفاء طابع رسمي ومهيب على المبنى ليكون علامًة على القوة والهيبة السياسية والدينية معًا.

بالإضافة إلى المئذنة التي شيدت بأسلوب أسطواني ينتهي بشرفة واحدة في تجسيد مباشر للنمط العثماني، وبرغم بساطتها النسبية فإنها أسهمت في تعزيز حضور القبة الكبرى وأوجدت توازنًا دقيقًا بين الامتداد الرأسي والكتلة الأفقية.

ومن أهم ما يميز الجامع هي الزخارف الهندسية الدقيقة التي زُيّنت جدران الجامع الداخلية والخارجية، فضلًا عن كتابات تأسيسية توثّق تاريخ الإنشاء واسم الوالي المؤسس وتؤدي هذه العناصر دورًا يتجاوز الجانب الجمالي، إذ تعكس البعد الرمزي للعمارة الإسلامية التي ترى في الفن جزءًا أصيلًا من العبادة وتجليًا للروحانية.

ورغم الأضرار التي أصابته خلال السنوات الأخيرة فإن الجامع لا يزال قائمًا كرمز للصمود وكتذكير دائم بأهمية حماية التراث.

جامع العادلية

ختامًا يعد جامع العادلية من أوائل الجوامع التي أدخلت النمط العثماني الكلاسيكي إلى حلب، لكنه في الوقت نفسه احتفظ بمسحة محلية جعلته متفردًا كما إن إعادة ترميمه والحفاظ عليه ليست مجرد واجب ثقافي بل مسؤولية تجاه التاريخ الإنساني كله لأن ما يحمله من قيم جمالية وروحية يتجاوز حدود المكان والزمان.

ويبقى جامع العادلية علامة فارقة في المشهد العمراني لحلب بموقعه الاستراتيجي قرب القلعة وتاريخه الممتد إلى خمسة قرون، وعماراته التي جمعت بين الأصالة المحلية والتأثيرات العثمانية يظل الجامع صرحًا يختزل روح المدينة.

السابق
معالم طرطوس الأثرية: قصر تحوف نموذج للفن المعماري القديم
التالي
حرفة صناعة السيف الدمشقي: إرث فني وتقني من القرون الوسطى