يقع لتل براك (ناغار القديمة) في سهل الخابور الأعلى بشمال شرق سوريا، يُعد الموقع الجغرافي لهذا الموقع الأثري المميز العامل الحاسم الذي أملى مسار تطورها الحضري المبكر، حيث تتربع المدينة على الضفة الغربية لنهر جغجغ أحد روافد الخابور…
وضمن نطاق مناخي يتميز بـ الزراعة البعلية الموثوقة التي تتجاوز فيها معدلات هطول الأمطار السنوية عتبة الـ 250 ملم، مما وفر قاعدة اقتصادية مستدامة وفائضة سمحت بتكوين سلطة مركزية مبكرة.
علاوة على هذه الميزة الزراعية اكتسب الموقع أهميته الاستراتيجية القصوى بصفته مدينة بوابة محورية، حيث سيطر على تقاطع الطرق البرية التي ربطت بلاد الرافدين جنوبًا بـ الأناضول شمالًا وربطت وادي دجلة شرقًا بالساحل المتوسطي غربًا، مما أتاح لها التحكم في حركة التجارة الحيوية للموارد النادرة كالمعادن والأخشاب.
هذا التموضع الفريد الذي جمع بين الاستقرار البيئي والنفوذ التجاري الجيوسياسي، هو ما مكن تل براك من الوصول إلى مستوى التعقيد الحضري في وقت مبكر من الألف الرابع قبل الميلاد، متقدمًا بذلك على العديد من المراكز الإقليمية الأخرى.
تاريخ تل براك الأثري
يمثل تل براك (ناغار القديمة) سجلًا طبقيًا فريدًا للتطور الحضري في شمال بلاد الرافدين، حيث تُظهر الطبقات الأثرية في تل براك أن نشأة المدينة تعود إلى فترات مبكرة جدًا، حيث يعود أقدم استيطان مكتشف إلى حوالي 6000 قبل الميلاد.
فلم تكن براك مجرد مستوطنة بل كانت مركزًا حضريًا ضخمًا وصل إلى مستوى التعقيد المدني في وقت مبكر من الألف الرابع قبل الميلاد متقدمًا بذلك على العديد من المراكز الجنوبية.
كما شهدت أواخر الألف الرابع ق.م وجود مستعمرة من جنوب بلاد الرافدين في المنطقة، مما يدل على التفاعل الثقافي والتجاري المكثف بين الشمال والجنوب.
وحوالي 1950 ق.م تزامن تغير في نمط الاستيطان مع وصول القبائل الأمورية وظهور فخار الخابور المميز.
وخلال فترة حكم إمبراطورية ميتاني (القرن الخامس عشر إلى الثالث عشر ق.م) ظل تل براك موقعًا ذا أهمية سياسية ودينية، وقد كشفت التنقيبات عن قصر ميتاني ومعبد مجاور في الجزء الشمالي من التل.
ينتهي التسلسل الزمني الرئيسي للموقع في أواخر الألف الثاني ق.م مع العصر الآشوري الأوسط، حيث تشير الأدلة إلى أن الآشوريين دمروا المدينة حوالي 1300 ق.م، وبعد ذلك لم تستعد براك أهميتها السابقة كمركز حضري رئيسي.

اقرأ أيضًا: مدينة أفاميا الأثرية… مدينة الأعمدة الخالدة وسحر التاريخ
اقرأ أيضًا: قلعة دمشق الأثرية: حكاية ألفي عام من الحصون والتحصينات
أهم الآثار المكتشفة في تل براك
تُعد المباني الضخمة المكتشفة في تل براك دليلًا قاطعًا على وجود سلطة مركزية وتنظيم اجتماعي معقد منذ الألف الرابع قبل الميلاد، ولعل أبرز أقسامه هي:
- معبد العيون
يُعد معبد العيون أشهر وأهم الاكتشافات المعمارية في تل براك، ويعود تاريخه إلى النصف الأول من الألف الرابع قبل الميلاد (العصر الحجري النحاسي المتأخر)، حيث يمثل المعبد دليلًا على نشأة العمارة الدينية الضخمة في شمال بلاد الرافدين، وكشفت التنقيبات عن خمس مراحل بناء متتالية مما يدل على استمرارية الأهمية الدينية للموقع.
كما تميز المعبد بتصميمه الفريد حيث كان مزينًا بالفسيفساء المخروطية الملونة والمصنوعة من الطين والحجر وهي تقنية معمارية متقدمة في ذلك الوقت.
2. قصر نارام سين
يعود هذا الهيكل الضخم إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد وقد نُقب عنه لأول مرة بواسطة السير ماكس مالوان.
وعلى الرغم من تسميته قصرًا إلا أن التحليلات الحديثة تشير إلى أنه كان في الواقع مستودعًا محصنًا أو ثكنة عسكرية.
كما يمثل هذا المبنى دليلًا ماديًا على السيطرة المباشرة للإمبراطورية الأكادية (بقيادة الملك نارام سين) على مدينة ناغار مما يؤكد الأهمية الاستراتيجية لتل براك كمركز إداري وعسكري في شمال سوريا.
3. القصر الميتاني
في الجزء الشمالي من التل كشفت التنقيبات عن بقايا قصر ميتاني ومعبد مجاور يعودان إلى الألف الثاني قبل الميلاد (العصر البرونزي المتأخر)، هذا الاكتشاف يؤكد استمرار أهمية تل براك كمركز سياسي وإداري خلال فترة حكم إمبراطورية ميتاني.
وإلى جانب العمارة قدم تل براك مجموعة غنية من المصنوعات الفنية والإدارية التي تلقي الضوء على الحياة اليومية والمعتقدات القديمة ومنها:
أصنام العيون التي تُعد أشهر المكتشفات الفنية في تل براك على الإطلاق، وهي تماثيل صغيرة مصنوعة من المرمر أو الحجر تتميز بوجود عيون كبيرة ومبالغ فيها محفورة على سطحها، حيث عُثر على الآلاف منها معظمها داخل وحول معبد العيون مما يشير إلى أنها كانت تُقدم كنذور أو قرابين دينية.
وتعكس هذه الأصنام نمطًا فنيًا ودينيًا فريدًا من نوعه في شمال بلاد الرافدين، وتُعد دليلًا على عمق المعتقدات الروحية لسكان المدينة في الألف الرابع قبل الميلاد.
رأس تل براك: يُعد رأس تل براك تمثالًا حجريًا مهمًا يعود إلى فترة ما قبل التاريخ، ويُعرض حاليًا في المتحف البريطاني يمثل هذا الرأس دليلًا على المهارة الحرفية العالية في نحت الحجر في فترات مبكرة جدًا من تاريخ الموقع.
كما عُثر على ألواح مسمارية ومختومات طينية في المناطق الإدارية خاصة تلك المرتبطة بالفترة الأكادية، هذه الوثائق تقدم معلومات حاسمة حول التنظيم الإداري، والمعاملات الاقتصادية وأسماء الحكام والمسؤولين في مملكة ناغار.

اقرأ أيضًا: موقع عمريت الأثري في طرطوس: درّة الحضارة الفينيقية
اقرأ أيضًا: مدينة شهبا الأثرية… مدينة الأباطرة التي حاكت روما في قلب السويداء
اقرأ أيضًا: أبواب دمشق السبعة، حراس الزمن وسفراء التاريخ
ختامًا، تؤكد الاكتشافات الأثرية في تل براك، من معابدها الضخمة إلى أصنامها الفريدة ووثائقها الإدارية، على مكانة المدينة كمركز حضري رائد في الشرق الأدنى القديم.
علمَا أن هذه الآثار لا تروي قصة مدينة واحدة فحسب، بل تروي قصة نشأة الحضارة الحضرية في شمال بلاد الرافدين، وتفاعلها مع القوى الإمبراطورية الكبرى، مما يجعل تل براك كنزاً أثرياً لا يزال يحمل الكثير من الأسرار التي تنتظر الكشف عنها.
على الرغم من الأهمية التاريخية العظيمة التي يحملها تل براك كأحد أقدم المراكز الحضرية في العالم فإن واقعه اليوم يروي قصة مختلفة ومؤلمة.
من منظور أكاديمي توقفت البعثات الأثرية المنهجية التي كانت تكشف عن أسراره بشكل منهجي منذ عام 2011، مما أدى إلى فجوة معرفية كبيرة في فهمنا لتاريخ المنطقة.
والأخطر من ذلك أن الموقع قد عانى من أعمال تنقيب غير شرعية وتخريب خلال سنوات النزاع، مما ألحق أضرارًا لا يمكن تعويضها بطبقاته الأثرية الثمينة.
لكن من منظور إنساني فإن ما يحدث لتل براك هو أكثر من مجرد خسارة علمية إنه فقدان لجزء من الذاكرة الجماعية للإنسانية.
فهذا التل ليس مجرد موقع أثري، بل هو شاهد صامت على أجيال لا حصر لها وعلى اللحظات الأولى التي تعلم فيها أجدادنا كيف يعيشون معاً في مدن.
إن كل حفرة عشوائية فيه لا تدمر قطعة فخار بل تمحو سطرًا من قصة بداية الحضارة التي هي إرث لنا جميعًا مما يجعل حمايته اليوم واجبًا لا يقتصر على العلماء بل يمس كل من يهتم بتاريخ البشرية المشترك.










