بوابة سوريا

الورد الدمشقي، قارورة عطر في حضن الشام

الوردة الدمشقية

يعدّ الورد الدمشقي (*Rosa × damascena*) من أقدم وأثمن النباتات العطرية التي حظيت بمكانة بارزة في التراث الثقافي والطبي للعديد من الحضارات.

إذ ارتبط اسمه بمدينة دمشق التي كانت مركزًا رئيسيًا لزراعته وتجارته عبر القرون حتى صار رمزًا لها وعنوانًا لجمالها، وقد جمع هذا النبات بين الجمال الحسي والمردود الاقتصادي في نفس الوقت.

تتميّز الوردة الدمشقية بلونه الوردي المائل إلى الأحمر، وبتلاته الرقيقة المتعددة التي تتراوح من 20 إلى 30 بتلة متراصة على شكل طبقات.

كما تميزه رائحته الفوّاحة التي تعد مزيج من المركبات العطرية التي أسرت القلوب في الشرق والغرب على حد سواء.

ويتراوح طول شجيرة الورد الدمشقي بين 1 و2 متر، كما يحدث الازهار عادة في أواخر الربيع وبداية الصيف ويستمر لفترة وجيزة تتطلب حصادًا سريعًا للحفاظ على جودة الزيوت.

ومن هنا تأتي أهمية هذا المقال في تقديم مراجعة علمية شاملة تجمع بين الجوانب النباتية والكيميائية والدوائية للورد الدمشقي مع تسليط الضوء على آفاق البحث المستقبلية لتعزيز الاستفادة منه في المجالات الطبية والصناعية.

الخلفيه التاريخيه

يُعدّ الورد الدمشقي (Rosa × damascena Mill) أحد أقدم وأشهر النباتات العطرية في العالم، وقد ارتبط اسمه بمدينة دمشق التي شكّلت موطنه التقليدي ومركز انتشاره منذ أكثر من ألفي عام.

كما تشير الدلائل الأثرية إلى أن الورود استُخدمت في حضارات الشرق الأدنى القديم، بما في ذلك مصر وبلاد الرافدين لأغراض طقسية وطبية وتجميلية.

إلا أن الطراز الدمشقي المميّز بزهرته الوردية ذات البتلات المتعددة ورائحته المركّبة تبلور وانتشر من بساتين الغوطة الدمشقية في العصور الإسلامية خاصة في العصر الأموي وما تلاه.

مدعومًا بتطوّر تقنيات التقطير التي أتقنها الكيميائيون والحرفيون في العالم الإسلامي ومع ازدهار التجارة والصناعات العطرية، انتقل الورد الدمشقي إلى أوروبا عبر طرق التجارة والحملات الصليبية واستقر في مناطق البلقان وتركيا وإيران والمغرب، حيث أعيدت زراعته وتكييفه وفق البيئات المحلية، لكنه ظلّ يحتفظ بسمعته المرتبطة بالأصل الدمشقي

وعلى المستوى البيولوجي يُظهر التحليل الوراثي أن هذا الورد ذو أصل هجين طبيعي معقّد لثلاثة أنواع من الورد: الورد المسكي (Rosa moschata) والورد الفرنسي (Rosa gallica) وورد فيدشنكو (Rosa fedtschenkoana).

وهذا التهجين المعقد يمنح الورد الدمشقي تركيبًا كيميائيًا فريدًا ورائحة مميزة جعلته يكتسب شهرة عالمية وجعلته محط اهتمام العديد من الصناعات عبر التاريخ.

الوردة الدمشقية

اقرأ أيضًا: الصابون الحلبي: ذهب حلب الأخضر وتراث من الأصالة

الورد الدمشقي: تراث سوري وعناية مزارعين

يُزرع الورد الدمشقي بشكل رئيسي في منطقة وادي بردى بريف دمشق، إضافةً إلى مناطق أخرى مثل دوما مسرابا الزبداني وأجزاء من محافظات حماة وحمص.

حيث يحتاج الورد الدمشقي إلى صيف دافئ وشتاء بارد قليلًا مع تربة جيدة التصريف وغنية بالمواد العضوية، ويبدأ المزارعون بزراعة الشتلات في بداية الربيع أو نهاية الخريف ويحرصون على توفير الري المنتظم والتسميد المتوازن، بالإضافة إلى تقليم النباتات بشكل دوري لإزالة الفروع التالفة وتحفيز نمو الأزهار، كما يتم مكافحة الآفات والفطريات باستخدام وسائل تقليدية أو مبيدات آمنة للحفاظ على جودة المحصول

أمّا عن حصاد الورد الدمشقي فيتم يدويًا في ساعات فجر اليوم قبل تعرض الأزهار لأشعة الشمس المباشرة، لأن ذلك الوقت يكون فيه الزيت العطري في أوجه، ويستمر موسم الحصاد عادة خلال شهر أيار لمدة 3 إلى 4 أسابيع مع جمع الأزهار يوميًا للحفاظ على جودتها.

ثم تنقل الأزهار مباشرة إلى معاصر خاصة للتقطير بالإنبيق التقليدي، وهي تقنية ما زالت تُستخدم إلى جانب الأساليب الحديثة مثل التقطير بالبخار أو الماء والاستخلاص بالمذيبات والاستخلاص بثاني أكسيد الكربون، مع تخزين المستخلصات في أوعية محكمة بعيدًا عن الحرارة والضوء للحفاظ على جودتها.

وعلى الجانب الآخر، يعتبر الورد الدمشقي ركيزة اقتصادية مهمة في المجتمعات الريفية التي يعتمد الكثير من أفرادها وخصوصًا النساء على مواسم الحصاد في معيشتهم، وبالإضافة إلى قيمته الاقتصادية فيحتل الورد الدمشقي مكانة رمزية وثقافية بارزة في التراث العربي والإسلامي

فقد مثّل في الشعر رمزًا للجمال والحب والوفاء واستُخدم ماء الورد في الضيافة والاحتفالات والمأكولات التقليدية، ومع ذلك تواجه زراعته اليوم تحديات بيئية واجتماعية أبرزها التغير المناخي وتقلص الأراضي الزراعية بسبب التمدن والصراعات والمنافسة من منتجين عالميين بأسعار أقل مما يهدد استدامة هذا الإرث الزراعي والثقافي

ولضمان استمراريته تبرز الحاجة إلى برامج حفظ وراثي وتطوير تقنيات زراعية مستدامة وتطبيق أنظمة حماية جغرافية وشهادات جودة تعزز قيمته في الأسواق العالمية، ليظل الورد الدمشقي شاهدًا حيًا على تلاقي الجمال الطبيعي مع التاريخ الإنساني عبر القرون.

الوردة الدمشقية

اقرأ أيضًا: حلاوة الجبن: سُكر الشام وعبق الذاكرة

التركيب الكيميائي

يتسم التركيب الكيميائي للورد الدمشقي بدرجة عالية من التعقيد، إذ يجمع بين مكونات طيارة مسؤولة عن رائحته المميزة ومكونات غير طيارة تسهم في نشاطه البيولوجي.

وتضم الفئة الطيارة كحولات مونوتربينية رئيسية مثل السيترونيلول والجرانيول والنيرول التي تمنح الطابع الزهري الحلو، بالإضافة إلى الفينيل إيثانول الذي يضفي عمقًا عطريًا مميزًا والنوريسوبرينويدات مثل البيتا-داماسكينون ذات التأثير الحسي القوي رغم وجودها بتراكيز ضئيلة، فضلًا عن الأوجينول وبعض الألكانات طويلة السلسلة التي تسهم في ثبات الرائحة.

أما المكونات غير الطيارة فتشمل الفينولات والأحماض الفينولية، مثل حمض الجاليك وحمض الإيلاجيك والفلافونويدات كالكويرسيتين والكامبفرول، والتانينات، والسكريات المتعددة، إضافةً إلى بعض الفيتامينات والمركبات النيتروجينية

ويؤثر على نسب هذه المركبات عدد من العوامل البيئية والزراعية بما في ذلك المناخ ونوعية التربة وموقع الزراعة، إلى جانب العوامل التقنية مثل توقيت الحصاد ومدة التخزين وطريقة الاستخلاص.

فالتقطير بالبخار مثلًا يميل إلى استخلاص المكونات الأكثر تطايرًا بينما يحافظ الاستخلاص بالمذيبات أو بثاني أكسيد الكربون فوق الحرج على نطاق أوسع من المركبات الحساسة للحرارة.

إن هذا التنوع والتباين في التركيب الكيميائي لا يحدد فقط الخصائص العطرية للورد الدمشقي، بل يلعب دورًا أساسيًا في تحديد فعاليته الدوائية وقيمته الاقتصادية، الأمر الذي يستلزم وضع معايير قياسية دقيقة لضمان جودة المنتجات المشتقة منه.

الوردة الدمشقية

اقرأ أيضًا: خميس الحلاوة الحمصية… تقليد شعبي ينبض بالمحبة في قلب مدينة حمص

الخواص الدوائية والكيميائية للورد الدمشقي

تنبع القيمة العلاجية للورد الدمشقي من تنوع مكوناته الكيميائية التي تمنحه مجموعة من الأنشطة البيولوجية المثبتة في الدراسات المخبرية والحيوانية.

فقد أظهرت المستخلصات الغنية بالفينولات والفلافونويدات قدرة عالية على مقاومة الأكسدة من خلال تثبيط الجذور الحرة وتعطيل التفاعلات التأكسدية، مما ينعكس إيجابًا على حماية الخلايا من التلف.

كما بينت الزيوت الطيارة نشاطًا مضادًا للميكروبات والفطريات، ويرتبط هذا التأثير غالبًا بقدرة مركبات مثل المونوتربينات والأوجينول على إحداث خلل في سلامة الأغشية الخلوية للمسببات المرضية.

إضافةً إلى ذلك أظهرت بعض المركبات قدرة على كبح المسارات الالتهابية وخفض إنتاج الوسائط المسؤولة عن الالتهاب، مما يمنحه خصائص مضادة للالتهاب ومسكنة للألم.

وتشير بعض الدراسات إلى تأثيرات عصبية-نفسية للرائحة، حيث لوحظ انخفاض مستويات القلق وتحسن المزاج وجودة النوم لدى الأفراد المعرضين لها، وهو ما يُفسر بتأثيرها على المسارات الشمية وتعديل النواقل العصبية.

كما يُعرف عن مستحضرات الورد الدمشقي الموضعية قدرتها على دعم صحة الجلد عبر تعزيز التئام الجروح وتحسين الترطيب وتقليل الاحمرار، مدعومة بخصائصه المضادة للأكسدة والقابضة هذا التنوع البيوكيميائي شكّل الأساس لاستخداماته الواسعة في الطب التقليدي والصناعات الحديثة.

الوردة الدمشقية

الاستخدامات التقليدية والمعاصرة للورد الدمشقي

يتمتع الورد الدمشقي بتاريخ طويل من الاستخدامات التقليدية عبر حضارات متعددة، حيث استُخدم في الطب الشعبي كمهدئ للأعصاب ومضاد للتقلصات وداعم للهضم والتنفس في الحالات البسيطة.

إضافةً إلى تحسين صحة الجلد وعلاج التهابات العين باستخدام ماء الورد كما كان مكوّنًا أساسيًا في وصفات العطور الشرقية والحمّامات العطرية وفي تحضير المشروبات والحلويات التقليدية التي تضيف نكهة عطرية مميزة.

ومع تطور الصناعات الحديثة، توسعت استخداماته لتشمل صناعة العطور الفاخرة التي تعتمد على الزيت العطري النقي وهو من أغلى الزيوت العطرية في العالم لارتفاع كمية الأزهار المطلوبة لإنتاجه، حيث يلزم نحو 3-4 أطنان من الأزهار لإنتاج كيلوغرام واحد من الزيت.

كما يدخل في صناعة مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة والشعر والمستحضرات العطرية المنزلية وبعض المنتجات الغذائية والمشروبات المميزة.

وفي مجال العلاج العطري (Aromatherapy)، يُستخدم كوسيلة داعمة لتخفيف القلق والتوتر وتحسين المزاج، مما يعكس امتداد إرثه التقليدي إلى مجالات تطبيقية حديثة، مع الالتزام بمعايير جودة صارمة لضمان النقاء ومنع الغش والحفاظ على خواصه الطبيعية.

الورود الدمشقية

الرمزية الثقافية والمعارض المرتبطة بالورد الدمشقي


يُعد الورد الدمشقي (Rosa damascena) أحد الرموز الثقافية العريقة في التراث السوري والعربي، إذ ارتبط اسمه بمدينة دمشق حتى غدا سفيرًا جماليًا وعطريًا لها في المحافل الدولية

كما شكّل عبر العصور تجسيدًا لمعاني الجمال والحب العذري والنقاء الروحي، واحتل مكانة بارزة في الشعر العربي والصوفي، حيث استُخدم كاستعارة للمشاعر النبيلة ورمز للسعي نحو الكمال الروحي.

ويُحتفى بهذا الإرث من خلال مهرجانات ومعارض متخصصة أبرزها مهرجان الورد في ريف دمشق والقلمون، الذي يقام في موسم الإزهار ويعرض منتجات الورد الدمشقي من ماء الورد والزيوت العطرية.

إلى جانب الفعاليات الفنية والحرفية، وكذلك مهرجان الكفرون والحواش في الساحل السوري الذي يمزج بين الأنشطة الثقافية والموسيقية وعرض منتجات الورد.

كما يحظى الورد الدمشقي بحضور مميز في معارض الزهور الدولية في دمشق، ويشارك في المعارض العالمية للعطور في باريس ودبي وإسطنبول، مما يعكس انتقال رمزيته من إطار محلي مرتبط بالهوية الدمشقية إلى حضور عالمي يرسّخ مكانته في صناعة العطور الفاخرة

إذًا يمكننا القول أن الورد الدمشقي يمثل نموذجًا فريدًا لتكامل القيمة التراثية مع الأساس العلمي في عالم النباتات العطرية والطبية، فقد أسهمت خصائصه الكيميائية الغنية في ترسيخ مكانته كنبات متعدد الاستخدامات يجمع بين الفوائد الصحية والجمالية والعطرية.

كما يعكس تاريخه الطويل في الاستخدامات التقليدية من الطب الشعبي إلى الطقوس الجمالية والغذائية مدى الاندماج العميق لهذه الزهرة في الممارسات الثقافية للمجتمعات التي احتضنتها عبر العصور.

إن التحدي المستقبلي يكمن في إيجاد توازن بين المحافظة على طرق الزراعة والاستخلاص التقليدية وتبني التقنيات الحديثة التي تزيد من الكفاءة والإنتاجية دون الإضرار بالقيمة الحسية والدوائية للنبات.

ومن شأن استمرار الأبحاث العلمية وتوسيع نطاق التجارب السريرية أن يعزز فهمنا لآليات عمل الورد الدمشقي ويفتح آفاقاً جديدة لاستخداماته في مجالات الطب التكميلي، والصناعة، والتنمية الريفية المستدامة، ليبقى الورد الدمشقي رمزًا عالميًا للجمال والفائدة المتجددة.

السابق
نصب السيف الدمشقي: دراسة تحليلية لرمزية معمارية في قلب دمشق
التالي
حي ساروجة في دمشق… عبق التاريخ وذاكرة المدينة