بوابة سوريا

المكتبة الظاهرية بدمشق: معلم تراثي ومركز للمعرفة عبر العصور

المكتبة الظاهرية

تعد المكتبة الظاهرية في دمشق من أبرز المعالم العلمية والثقافية في العالم العربي والإسلامي، فهي ليست فقط مستودعًا ضخمًاللمخطوطات النادرة والكتب القيّمة، بل هي أيضًا صرح معماري عريق يجسد روح الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها من خلال تتبّع تاريخها منذ نشأتها كمدرسة مملوكية في القرن السابع الهجري إلى تحولها إلى مكتبة عامة في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي….

أكمل معنا هذا المقال لتتعرف أكثر على المكتبة الظاهرية في دمشق…


الموقع الجغرافي


تقع المكتبة الظاهرية في قلب مدينة دمشق القديمة ضمن النسيج العمراني التاريخي الذي يُصنّف على قائمة التراث العالمي لليونسكو، حيث يتموضع موقع المكتبة في حيّ باب البريد إلى الجنوب من الجامع الأموي الكبير وعلى مقربة مباشرة من سوق الحميدية الشهير، وهو ما يجعلها جزءًا من العقدة المركزية للحياة الدينية والثقافية والتجارية في دمشق القديمة.

ويتم الوصول إليها عبر شبكة من الأزقة الضيقة المميزة للنسيج العمراني الدمشقي وهو ما يمنحها طابعًا انعزاليًا يوفر بيئة مناسبة للدرس والحفظ وإن كان يفرض تحديات لوجستية في النقل والصيانة.

كما يخضع الموقع لإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف بما يضمن حمايته ضمن نطاق الحفظ الأثري لمدينة دمشق القديمة، وبذلك يجمع موقع المكتبة بين البعد التاريخي والمعماري من جهة والدور العلمي والثقافي المستمر من جهة أخرى

وتمنحها هذه الخصوصية الجغرافية مكانة مميزة بوصفها حلقة وصل بين المعالم التاريخية المحيطة بها ومركزًا معرفيًا حافظ على استمرارية الدور العلمي والثقافي للمدينة عبر العصور.

المكتبة الظاهرية

اقرأ أيضًا: قصر الزهراوي في حمص

النشأة والتاريخ


تُمثل المكتبة الظاهرية بدمشق نموذجًا فريدًا للتحولات الوظيفية التي طرأت على المنشآت المعمارية المملوكية، حيث انتقلت من كونها مؤسسة دينية وتعليمية إلى منارة ثقافية عامة.

ويعود تاريخ تأسيس المبنى إلى عام 676 هـ (1277 م) عندما قام السلطان الملك السعيد محمد بركة خان بشراء دار العقيقي إحدى الدور الدمشقية الفاخرة المجاورة للمسجد الأموي بهدف إنشاء مجمع معماري يخلّد ذكرى والده السلطان الظاهر بيبرس، حيث تضمن المشروع بناء مدرسة لتدريس الفقه ودار للحديث النبوي، بالإضافة إلى قبة ضريحية فخمة أودع فيها جثمان والده، ثم دُفن هو بجواره.

لاحقًا استمر هذا الصرح الذي يُعد تحفة من العمارة المملوكية بواجهته الحجرية ذات الطراز الأبلق وقبته المزينة بالفسيفساء الزجاجية في أداء وظيفته التعليمية لقرون تحت اسم المدرسة الظاهرية، ومع انتقال دمشق إلى الحكم العثماني في القرن السادس عشر حافظت المكتبة على أهميتها كمركز علمي رغم تراجع الدعم الرسمي مقارنة بعهد المماليك، حيث شهدت هذه الفترة بعض التدهور الجزئي في صيانة المباني والمخطوطات.

إلا أن العلماء المحليين حرصوا على استمرار عمل المكتبة واستمرت في دورها كمرجع رئيسي لتوثيق الأحداث التاريخية والاجتماعية في دمشق، بما في ذلك سجلات المعاملات القضائية والتاريخ المحلي.

كما أُضيفت إلى مجموعاتها مخطوطات جديدة من مصادر خاصة بالعلماء والمقتنيات العائلية ما أتاح للمكتبة الاستمرار كمصدر غني للبحث العلمي.


وفي القرن العشرين، خضعت المكتبة الظاهرية لعدة محاولات ترميم وصيانة خاصة في مواجهة الأضرار الناتجة عن الحروب والصراعات التي مرت بها دمشق، وتمت خلال هذه الفترة عمليات نسخ رقمية لبعض المخطوطات الهامة لضمان الحفاظ عليها للأجيال القادمة.

أمّا اليوم فتحتوي المكتبة الظاهرية على مئات المخطوطات النادرة والفريدة التي تُعد مصادر أساسية للباحثين في الدراسات الإسلامية التاريخية والفلسفية، وتستقطب اهتمام الأكاديميين المحليين والدوليين على حد سواء.
المعالم والتصاميم المعمارية.

المكتبة الظاهرية

اقرأ أيضًا: قصر العظم في دمشق

المعالم والتصميم المعماري


تُعد المكتبة الظاهرية في دمشق نموذجًا معماريًا مميزًا للطراز المملوكي، حيث يعكس مبناها الخصائص الوظيفية والجمالية التي تميزت بها عمارة تلك الفترة.

يتألف المبنى من طابقين ويقوم تنظيمه الداخلي على صحن سماوي واسع تتوسطه بركة، وهو عنصر أساسي في العمارة الإسلامية لتأمين الإضاءة والتهوية الطبيعية.

وتحيط بالصحن إيوانات وقاعات أعيد توظيفها لتكون مخصصة للمطالعة وحفظ الكتب، في حين استُخدمت الحجرات الجانبية كمخازن وأقسام إدارية.

كما وتظهر على الواجهات الخارجية تقنيات البناء بالأبلق الدمشقي، حيث يتناوب الحجر الأبيض مع البازلتي الأسود وتعلو المدخل الرئيسي مقرنصات حجرية تُمثل سمة بارزة في العمارة المملوكية.

أما الباب الرئيسي فهو من الخشب المزخرف تعلوه طبقة من الرخام المنقوش بشريط كتابي تأسيسي، ويقود هذا المدخل إلى رواق تنتظم فيه الأقواس المحمولة على أعمدة حجرية يعلوه سقف خشبي بسيط مزخرف.

وتحتل قاعة الضريح موقعًا مميزًا في المبنى إذ تضم ضريحَي الظاهر بيبرس وابنه الملك السعيد، وتتميز القاعة بقبتها المرتكزة على حنايا ركنية وبزخارفها الرخامية والفسيفسائية ذات الطابع الهندسي والنباتي.

أما القاعات الداخلية للمكتبة الظاهرية فقد زخرفت بأسلوب العجمي الدمشقي، القائم على الزخرفة الخشبية الملوّنة مع أثاث تقليدي مطعّم بالصدف، مما يوفّر بيئة ملائمة للقراءة والبحث دون الإخلال بالطابع التاريخي للمكان.

المكتبة الظاهرية

اقرأ أيضًا: حمام النحاسين حلب تحفة عثمانية في قلب المدينة العتيقة

المقتنيات والأقسام

تقوم المكتبة الظاهرية على هيكل تنظيمي يهدف إلى حفظ مقتنياتها وتيسير الاستفادة منها للباحثين، ويأتي قسم المطبوعات في مقدمة أقسامها حيث يضم مؤلفات تغطي مختلف العلوم الإسلامية والإنسانية من التفسير والحديث والفقه إلى اللغة والأدب والتاريخ والطب والفلك والرياضيات بما يوفر مرجعًا متكاملًا للدارسين.

أما قسم المخطوطات، فيمثل النواة الأهم للمكتبة إذ يُعنى بحفظ المخطوطات الأصلية النادرة وصيانتها مع وضع ضوابط دقيقة للاطلاع عليها حفاظًا على قيمتها، كما يحتوي على مطبوعات مبكرة تعكس تطور حركة النشر في المنطقة وتشكل مصدرًا مكملًا للمخطوطات.

وإلى جانب ذلك يؤدي قسم المواد البصرية دورًا تكمليًا من خلال حفظ الخرائط والرسوم التوضيحية والمواد المعرفية التي تعتمد على الصورة، مما يوفر للباحثين مصادر إضافية تدعم دراساتهم.

كما يضطلع قسم التصوير بوظيفة تقنية مهمة إذ يوفّر نسخًا مصوّرة من الكتب والوثائق تتيح تداول المعلومات دون تعريض الأصول للتلف، مع ضمان وجود بدائل يمكن الرجوع إليها عند الحاجة.

وقد جُهّزت المكتبة الظاهرية أيضًا بثلاث قاعات للمطالعة والبحث العلمي صُممت لتوفير بيئة هادئة ومناسبة للدارسين، إضافة إلى ثلاثة مستودعات مخصّصة لحفظ المقتنيات وفق معايير تضمن سلامتها وتنظيمها.

وعلى الرغم من انتقال جزء كبير من كنوز المكتبة إلى المكتبة الوطنية في ثمانينيات القرن العشرين، ما زالت المكتبة الظاهرية تحتفظ بدورها العلمي والتاريخي وتُعد إحدى ركائز المشهد الثقافي السوري.

وقد جمعت المكتبة آلاف المخطوطات التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة ويُقدَّر عمر بعضها بأكثر من ألف عام، مما يمنحها أهمية خاصة في دراسة التراث الفكري العربي والإسلامي.

كما أثرت محتواها مقتنيات انتقلت إليها من مكتبات عريقة مثل العمرية والمرادية والياغوشية، وهو ما جعلها مركزًا جامعًا لمصادر متنوعة ذات قيمة تاريخية وعلمية.

المكتبة الظاهرية

اقرأ أيضًا: سوق المدينة… كل الطرق تؤدي إلى حلب

القيمة العلمية والثقافية للمكتبة الظاهرية

تكتسب المكتبة الظاهرية مكانتها من طبيعة مقتنياتها ومن دورها التاريخي في المشهد الثقافي لمدينة دمشق والعالم الإسلامي.

فعلى الصعيد العلمي تُعد المكتبة مصدرًا رئيسيًا لدراسة التراث العربي والإسلامي بفضل ما تضمه من مخطوطات نادرة تغطي مختلف ميادين المعرفة، من العلوم الشرعية واللغوية إلى الطب والفلك والرياضيات.


وتمثل هذه المخطوطات مادة أساسية في تحقيق النصوص ودراسة تاريخ العلوم، كما أنّ ما تحتويه من تقييدات ملكية وسماعات وإجازات يشكل سجلًا تاريخيًا لحركة تداول المعرفة بين الأجيال والعصور.


كذلك يتيح وجود المطبوعات الحجرية والمبكرة تتبع تطور النشر والطباعة في المشرق العربي، مما يوسع من إمكانات البحث الأكاديمي في مجالات الفكر والتاريخ الثقافي.

أما على الصعيد الثقافي فالمكتبة الظاهرية تمثل جزءًا من الهوية العمرانية والتراثية لمدينة دمشق، فالمبنى نفسه يعد معلمًا معماريًا مملوكيًا يجمع بين الوظيفة التعليمية والدينية والمعرفية، وقد أسهم عبر قرون في تكوين بيئة للدرس والتأمل.

وبذلك، يمكن القول إن القيمة العلمية للمكتبة الظاهرية تكمن في كونها خزانة نصوص أصيلة تساعد على إعادة بناء التاريخ الفكري العربي والإسلامي، في حين تتمثل قيمتها الثقافية في استمرارها كرمز حضاري ومعماري يربط الماضي بالحاضر، ويعكس دور دمشق التاريخي كعاصمة للعلم والثقافة.

المكتبة الظاهرية

ختاما تُعتبر المكتبة الظاهرية في دمشق إحدى الركائز الأساسية للذاكرة العلمية والثقافية في العالم الإسلامي، فهي تجمع بين القيمة المعمارية بوصفها أثرًا مملوكيًاا عريقًا.

وبين القيمة المعرفية بما تحويه من كنوز فكرية نادرة ومن هنا تأتي أهميتها في الحفاظ على التراث وصيانته وفي ربط الأجيال الجديدة بجذورهم الفكرية والحضارية.

إن استمرارية هذه المكتبة مرهونة بمدى قدرتنا على حمايتها وتحديث وسائل الاستفادة منها، لتبقى منارةً للعلم في الماضي والحاضر والمستقبل.

السابق
السماح بالرحيل ، تحرر من الداخل
التالي
قلعة دمشق الأثرية: حكاية ألفي عام من الحصون والتحصينات