بوابة سوريا

حرفة القيشاني في سوريا: فنٌّ عريق يجسّد هوية حضارية

القيشاني

تُعَدُّ حرفة القيشاني واحدة من أبرز الفنون التقليدية التي ميّزت التراث الحِرفي السوري عبر العصور، إذ تمثل تلاقحًا فنيًا وثقافيًا بين الشرق والغرب وتُعد من أهم مكونات العمارة الإسلامية في بلاد الشام.

القيشاني ليس مجرد زخرفة خزفية بل هو فنّ يعكس ذوق الإنسان السوري وقدرته على توظيف الجمال في تفاصيل الحياة اليومية والمعمارية، ورغم التحديات التي تواجهها هذه الحرفة اليوم فإنها ما زالت حاضرة في الذاكرة الثقافية السورية بوصفها جزءًا أصيلًا من الهوية الوطنية.

أصل تسمية القيشاني والتطور التاريخي

تُعد حرفة القيشاني السورية تحوير لغوي لاسم الكاشاني نسبًة إلى مدينة كاشان الفارسية، حيث تعد تجسيدًا للتفاعل الحضاري في بلاد الشام، ويُرجح أن ازدهارها في دمشق بدأ مع نزوح الحرفيين المهرة في أعقاب الاجتياح المغولي وسقوط بغداد عام 1258م.

تطورت هذه الحرفة بشكل ملحوظ خلال العصرين المملوكي (القرن الرابع عشر) والعثماني (القرن السادس عشر وما بعده) لتتحول إلى مدرسة فنية مستقلة بخصائصها المميزة، على الرغم من تأثرها بمركز الإنتاج العثماني في إزنيق.

وقد تميز القيشاني الدمشقي بجمالياته الخاصة التي تتجلى في الدقة والانضباط في تجميع البلاطات واستخدام خمسة ألوان رئيسية (الأزرق الكوبالتي، والأخضر الزمردي، والأصفر، والبنفسجي، والأبيض)، إلى جانب الزخارف النباتية المعقدة والخط العربي (الخيط العربي).

وقد استُخدم هذا الفن على نطاق واسع لتزيين المعالم المعمارية البارزة ليصبح عنصرًا أساسيًا في الهوية البصرية للعمارة السورية حيث يكسو جدران البيوت الدمشقية القديمة والإيوانات والحمامات العامة مثل حمام القيشاني والجوامع.

القيشاني

اقرأ أيضًا: قلعة المرقب

الخصائص الفنية والتقنية

تُعد صناعة القيشاني السوري وخاصة الدمشقي منه من أرقى الحرف التقليدية التي تجمع بين التقنية المتطورة والجمالية الفنية المتميزة.

تقنيًا: تعتمد الصناعة على استخدام عجينة حجرية تتكون أساسًا من الكوارتز والرمل (بنسبة 80-90%) مع إضافة الزجاج المطحون كمادة صاهرة.

تشكل هذه العجينة على هيئة بلاطات أو أوانٍ ثم تجفف وتحرق للمرة الأولى في درجات حرارة تتراوح بين 900-1000 درجة مئوية مما يمنحها صلابة عالية ولونًا أبيض ناصعًا.

تُستخدم تقنية الرسم تحت الطلاء حيث تُرسم الزخارف باستخدام أكاسيد معدنية تمنح الألوان المميزة مثل الأزرق الكوبالتي، والأخضر الزمردي، والأصفر، والبنفسجي، والبني الفاتح.

وبعد الرسم تُغطى القطعة بطلاء زجاجي شفاف وتحرق مرة نهائية في درجة حرارة أعلى (1000-1200 درجة مئوية) لضمان ثبات الألوان ولمعانها.

كما تتجلى عبقرية القيشاني السوري في لوحته الخماسية الألوان المتناغمة ومفرداته الزخرفية المستمدة من الطابع المحلي والتي تركز على: الزخارف النباتية (الأرابيسك) بأسلوب متقن يوحي بالروحانية والجمال المتناغم. الخط العربي (كالكوفي والثلث) المنفذ بدقة متناهية.

تجمع هذه البلاطات الصغيرة بعد زخرفتها لتشكل لوحات جدارية ضخمة متكاملة تبقى محافظة على بريقها وألوانها الثابتة لفترات طويلة بفضل متانة التقنية المستخدمة.

القيشاني

اقرأ أيضًا: حي القيمرية في دمشق: قلب المدينة القديمة بين الأسواق والزوايا والخانات

القيشاني في العمارة السورية

يمثل القيشاني السوري نسيجًا حيًا في الذاكرة الجمعية للمدن السورية حيث يلفت انتباه الزائر في كل زاوية من زوايا دمشق القديمة وحلب وحماة ليس كمجرد زخرفة جامدة بل كشاهد عيان على حوار متواصل بين الفن والتاريخ والإيمان.

فمن خلال انتشاره الواسع في العمارة الإسلامية لم يقتصر استخدام هذا الفن على الوظيفة الجمالية بل تحول إلى بصمة حضارية تعكس عمق الرؤية الإسلامية للجمال.

في المساجد يعلو القيشاني محاريب الصلاة ومآذن الجوامع، ليس فقط لإضفاء بهاء بصري بل ليرفع النفس البشرية من عالم المادة إلى عالم الروح.

وفي المقامات والمدارس الدينية تتحول البلاطات الزرقاء والذهبية إلى وسائل تعليم بصرية تحكي قصة الانسجام بين العلم والجمال.

أما في المنازل الدمشقية العريقة فيصبح القيشاني هوية مكانية واجتماعية، حيث كان الأثرياء يتنافسون في تجميل قصورهم بأندر أنواع البلاط المزخرف.

تتجلى عظمة هذا التراث في روائع معمارية مثل جامع الشيخ محيي الدين بن عربي، حيث تتحول القبة الداخلية إلى سماء مصغرة تتراقص عليها أنوار البلاطات الزرقاء والخضراء وكأنها تجسد مفاهيم الوحدة والانتماء الروحي.

أما التكية السليمانية التي بناها المعمار العثماني الشهير سنان باشا في القرن السادس عشر لتكون شاهدة على براعة الحرفي الدمشقي في مزج التقنية المحلية بالروح العثمانية.

وكذلك قصر العظم الذي يعد متحفًا مفتوحًا لفن القيشاني حيث يزين البلاط الملوّن النوافذ والأقواس والمساقي المائية مخلّدًا حكاية العمارة الدمشقية في ذروة ازدهارها.

ما يميز القيشاني السوري في هذه المباني هو قدرته الفريدة على تجسيد الفلسفة الإسلامية في الفن، حيث تتحول الزخارف الهندسية المتكررة إلى تعبير بصري عن مفهومي اللانهاية والتناسق الكوني.

فبدلًا من تصوير الكائنات اختار الفنان السوري حوارًا أكثر عمقًا مع الخط واللون والهندسة ليخلق فنًا لا يعبر عن الجمال فقط بل عن رؤية كونية تؤمن بوحدة الخلق وانتظامه.

هكذا يصبح القيشاني السوري تراثًا إنسانيًا حيًا لا يقتصر على الحفظ في المتاحف بل يظل يؤدي دوره كجسر بين الماضي والحاضر وبين المادة والروح في شوارع وساحات أقدم المدن في العالم.

القيشاني

مراكز الإنتاج والحرفيون

تُعتَبر منطقة باب شرقي في دمشق القديمة وحي باب الحديد في حلب من أهم المراكز التاريخية لصناعة القيشاني، حيث كان الحرفيون ينقلون خبراتهم شفويًا من جيل إلى آخر ضمن ورشٍ عائلية صغيرة، إلا أنّ التراجع الاقتصادي والحروب الأخيرة في سوريا أثّرت سلبًا على هذه الحرفة فتقلّص عدد الورش وباتت تواجه خطر الاندثار.

غير أن هناك جهودًا حكومية وأهلية لإحياء الحرفة مثل مشروع إحياء التراث الحرفي الدمشقي الذي أطلقته وزارة الثقافة بالتعاون مع اليونسكو منذ عام 2018، ويهدف إلى تدريب جيل جديد من الحرفيين على التقنيات التقليدية باستخدام مواد حديثة صديقة للبيئة.

الرمزية الثقافية والجمالية للقيشاني

يحمل القيشاني السوري في طياته طبقات عميقة من الدلالات الرمزية والروحية التي تتجاوز مظهره الجمالي المبهر لترتبط برؤية كونية وفلسفية متكاملة.

فهو ليس مجرد زخارف تزيينية بل هو مرآة تعكس تصور الإسلام للجمال، حيث يُعتبر الجمال المادي انعكاسًا للجلال الإلهي وتجليًا من تجلياته في العالم المخلوق.

تأتي الزخارف المتكررة بأنماطها الهندسية والنباتية المعقدة لتؤكد على مفهوم النظام الكوني والدقة المتناهية التي تحكم الكون.

هذا التكرار المقصود ليس عملًا رتيبًا بل هو محاكاة فنية لإيقاع الخلق ونظامه المتناسق مما يذكر المتأمل بعظمة الخالق وحكمته.

كما تتحول الألوان إلى رموز تحمل في طياتها معاني وجودية فالأزرق الكوبالتي لا يذكرنا فقط بلون السماء الصافية بل يرمز إلى سمو الروح وعالم الغيب.

أما الأخضر الزمردي فيتجاوز كونه لون الطبيعة والنماء ليكون رمزًا للحياة الأبدية والخصوبة الروحية، في حين يمثل الأصفر الذهبي تجلي النور الإلهي والحكمة الإلهية التي تنير دروب البشر.

هذه الرمزية العميقة هي ما يميز القيشاني السوري جوهريًا عن الفنون الغربية التي غالبًا ما تبقى حبيسة المحاكاة الواقعية للطبيعة، بينما ينطلق القيشاني من العالم المرئي ليصل إلى عالم المعنى والمثل العليا.

وهكذا يصبح القيشاني السوري ليس مجرد حرفة فنية بل لغة بصرية فلسفية تنقل رؤية حضارية متكاملة للوجود.

القيشاني

وفي الختام، يُجسّد القيشاني السوري نموذجًا فريدًا للتفاعل بين الفن والحضارة فهو ليس مجرد صناعة تقليدية بل ذاكرة حيّة لقرون من الإبداع والمهارة.

ورغم الصعوبات التي تعترض استمرار هذه الحرفة إلا أنّ روح الإبداع السوري ما تزال قادرة على صونها وتطويرها بما ينسجم مع متطلبات العصر.

إنّ الحفاظ على القيشاني لا يعني فقط حماية منتج فني بل صون جزء من هوية الأمة السورية وتراثها الإنساني المشترك.

بهذه الأساليب التقنية الإبداعية والروح الجمالية الفريدة يظل القيشاني السوري شاهدا حيا على تمازج البعد المادي والروحي في الحضارة الإسلامية.

السابق
خان السفرجلاني: ذاكرة دمشق التجارية في قلب المدينة القديمة