يعتبر تمثال المسيح في قمة الشيروبيم أو جبل الملائكة كما يُطلق عليه أحيانًا، أحد أبرز المعالم الدينية والثقافية في سوريا بل وفي الشرق الأوسط بأكمله، حيث يحمل هذا التمثال البارز الذي يطل على سهل دمشق الشاسع في طياته رمزية عميقة، ويجسد الإيمان المسيحي الراسخ في المنطقة.
موقع تمثال المسيح
تم إنشاء تمثال المسيح على قمة الشيروبيم أو جبل الملائكة في محافظة ريف دمشق في سوريا، على بعد 8 كم عن مدينة صيدنايا و 35 كم عند محافظة دمشق، وعلى ارتفاع 2000 متر فوق سطح البحر، حيث تشتهر هذه القمة بديرها التاريخي الذي يحمل الاسم نفسه، والذي يعدّ من أهم المعالم الدينية والسياحية في سوريا.
يمكن مشاهدة التمثال من سهول القلمون السوري الممتدة حتى دمشق والغوطة الشرقية جنوبًا، بالإضافة إلى مدينة النبك على الطريق الدولي بين دمشق وحمص، كما يمكن مشاهدته من جبل صنين وبعلبك وصولًا إلى جبل الشيخ عند المثلث السوري اللبناني مع الجولان في جنوب غرب سوريا.
اقرأ أيضًا: مقام الأربعين… شاهدًا على التاريخ وحاضنًا للروحانيات
بناء التمثال وتصميمه
تعود فكرة إنشاء تمثال ضخم للسيد المسيح في قمة الشيروبيم تحت عنوان ” جئت لأخلص العالم” إلى العام 2008، بمبادرة من “صندوق التراث الروحي للحواري بولس”، وقد أشرفت “أكاديمية موسكو اللاهوتية في الثالوث- سرجيوس لافرا” على تنفيذ هذا المشروع الطموح بمباركة بطاركة أنطاكية وسائر المشرق وبطاركة موسكو وعموم روسيا، حيث تم الانتهاء من بناء التمثال في عام 2013، ليشكل بذلك إضافةً مهمة للمشهد الديني والثقافي في سوريا.
ويبلغ ارتفاع التمثال مع قاعدته حوالي 29 مترًا، حيث يبلغ ارتفاع القاعدة حوالي 16 مترًا وارتفاع التمثال نفسه حوالي 13 مترًا، حيث يعتبر التمثال من أكبر تماثيل السيد المسيح في العالم بعد تمثال المسيح في ريو دي جانيرو، وقد استخدم في صناعته كميات هائلة من البرونز، وهو معدن ثقيل وقوي مما يجعله قادرًا على تحمل العوامل الجوية المختلفة والظروف المناخية القاسية، كما يتميز التمثال بتصميم فني رائع يعكس الجلال والإعجاز، حيث يظهر السيد المسيح واقفًا في وضعية مهيبة.
ويتكون التمثال من ثلاثة أجزاء رئيسية وهي تمثال السيد المسيح، وتمثالان لآدم وحواء، وتم تنفيذ التمثال من قبل النحات الروسي “الكسندر روكافيشنيكوف”، حيث تم تجميع أجزائه ونحتها في أرمينيا قبل نقله إلى سوريا وتركيبه في موقعه الحالي.
اقرأ أيضًا: برج إسلام وصليب التركمان… رحلة إلى الجنة المنسية
أصل تسمية قمة الشيروبيم
يعود أصل تسمية “قمة الشيروبيم” إلى الكلمة الآرامية “شيروبيم” والتي تعني “الملائكة”، وتحمل هذه التسمية في طياتها دلالات رمزية ودينية عميقة، وتشير إلى مكانة هذا الجبل المقدسة في الثقافة المسيحية ولعل أبرز الاسباب لتسمية القمة كالآتي:
- الملائكة: تشير كلمة “شيروبيم” إلى الملائكة الذين يعتبرون في الديانات الإبراهيمية كائنات سماوية مقدسة وقريبة من الله، وقد يكون اختيار هذا الاسم يعكس الاعتقاد بأن هذا الجبل هو مكان نزول الملائكة أو مكان اتصال الإنسان بالعالَم الروحاني، كما ترتبط الملائكة بالحماية الإلهية، وبالتالي فإن تسمية الجبل باسم “شيروبيم” تدل على أن المكان محمي بحماية الله وملائكته.
- الارتفاع والقدسية: يرتفع جبل الشيروبيم إلى علو شاهق، مما يجعله مكانًا قريبًا من السماء، وقد ارتبط الارتفاع في العديد من الثقافات بالقدسية والقرب من الله، وهو تعبير عن التوق إلى الله والرغبة في الارتقاء الروحي
- الدير: يقع دير الشيروبيم على قمة الجبل، وهذا الدير هو مكان للعبادة والتأمل الروحي، وقد تم اختيار اسم “شيروبيم” للدير والجبل معًا لتعزيز هذه الصفة الروحية.
اقرأ أيضًا: قلعة حلب
دير الشيروبيم
يقع دير الشيروبيم أو “دير مار شاروبين” كما يسميه أهالي المنطقة على قمة جبل في منطقة القلمون بريف دمشق، على ارتفاع حوالي 2000 متر عن سطح البحر، ويتميز هذا الدير بتاريخه العريق وجماله الطبيعي، فقد أصبح معلمًا دينيًا وسياحيًا بارزًا في المنطقة، وينتمي دير الشيروبيم إلى الطائفة المسيحية الأرثوذكسية وهو تابع للبطريركية الأرثوذكسية الأنطاكية، حيث يعتبر الدير من أهم المراكز الدينية للمسيحيين الأرثوذكس في سوريا.
وتشير بعض المصادر إلى أن الدير بني في القرن الثالث الميلادي في نفس الوقت الذي تأسس فيه دير سيدة صيدنايا، أي في العصر الروماني وذلك خلال فترة اضطهاد المسيحيين، ومع ذلك هناك من يرى أن الدير قد تأسس في وقت لاحق، وربما تم تجديده وتوسيعه عدة مرات على مر العصور، وكان الدير مخصصًا للنساك والرهبان، ومن الجدير بالذكر أنه تعرض للتدمير في القرن السادس عشر الميلادي إبان الاحتلال العثماني لبلاد الشام، قبل أن يتم إعادة بنائه سنة 1982 ميلادية.
وذُكر دير الشيروبيم في كتاب شهاب الدين العمري “مسالك الأبصار” حيث قال هو دير مار شريف يقصد للتنزه من بناء الروم بالحجر الأبيض الجليل، وهو دير كبير وفي ظاهره عين ماء سارحة وفيه كوى وطاقات تشرف على غوطة دمشق”، كما ذكره الرحالة الغربي بوكوك قائلًا أنه صعد إليه عام 1727م وكان مأهولًا وفيه راهب واحك وكنيسة عامرة.
ويتكون دير الشيروبيم من عدة أقسام رئيسية وهي:
- الكنائس: يشكل قلب الدير مجموعة من الكنائس ذات الطراز المعماري البيزنطي، والتي تتميز بقبابها العالية وجدرانها المزينة بالفسيفساء والرسومات الدينية، وتختلف هذه الكنائس في أحجامها وأشكالها، وتستخدم للصلاة والعبادة والاحتفالات الدينية.
- المغاور: تعد المغاور من أبرز مكونات الدير، حيث حُفرت في جدران الجبل في القرن الثالث الميلادي، وكانت تستخدم في الماضي كمكان للعيش والعبادة والتأمل للرهبان، وبعض هذه المغاور مزينة برسومات وكتابات قديمة مما يجعلها ذات قيمة تاريخية كبيرة، وبدورها تقسم هذه المغاور إلى قسمين قسم لحياة مشتركة وقسم آخر لحياة إفرادية، حيث يوجد بها مدرج محفور في الصخر مخصص لاجتماع الرهبان مع القس والأب الروحي لأخذ التعاليم في حياتهم الرهبانية.
- الأبنية السكنية: يضم الدير مجموعة من الأبنية السكنية التي كانت تستخدم للإقامة والضيافة، وتتميز هذه الأبنية بطرازها المعماري البسيط كما تتكون من غرف وأروقة وساحات.
- الساحات: تحيط بالدير ساحات واسعة تستخدم للقاءات والاجتماعات الدينية، وللاستمتاع بالطبيعة الخلابة المحيطة بالدير.
- البئر: يضم الدير بئرًا عميقة تزود الدير بالماء العذب، وقد كانت هذه البئر مصدرًا للحياة في الماضي.
- الحديقة: تحيط بالدير حديقة واسعة تضم أشجارًا مثمرة وأزهارًا جميلة، حيث يملك الدير حوالي 700 هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة في الجهة الشمالية والغربية، وزرعت فيه أشجار التفاح والكرز والمشمش في قسم صغير من هذه الأرض كما تحيط بدير الشيروبيم أشجار السرو، وتوفر مكانًا للاسترخاء والتأمل.
- البرج: يضم بعض الأديرة أبراجًا تستخدم لأغراض المراقبة والدفاع.
يقف تمثال السيد المسيح في دير الشيروبيم شاهدًا على الإيمان والحب، متوجًا قمة الجبل بإشراقة إيمانية لا تُضاهى، يطل هذا الصرح العظيم على العالم من علو داعيًا إلى السلام والمحبة، دعونا نزوره لنستلهم من نوره ونستمتع بجماله وننعم برؤية هذا العمل الفني الفريد الذي يجمع بين الفن والدين.