بوابة سوريا

البروكار الدمشقي: نسيج من الذهب والتاريخ

البروكار الدمشقي

في قلب الشام، وتحديدًا في أزقة دمشق القديمة، وُلد نسيج فريد لا يشبه أي قماشٍ آخر في العالم، اسمه “البروكار الدمشقي”، وهو ليس مجرد قماش فاخر يُستخدم في الأثواب أو المفروشات بل هو خلاصة حضارات، وعصارة مهارة حرفية ومرآة لتاريخ طويل من الجمال والفن والتقنية.

أكمل معنا هذا المقال للتعرف أكثر على هذا النسيح المميز.

ما هو البروكار الدمشقي؟

البروكار الدمشقي المعروف أيضاً باسم “المُدَمْشَق” أو “الدَّمَقس” وهو نسيج فاخر يُنسج يدويًا من خيوط الحرير الطبيعي، وتُدمج فيه أحيانًا خيوط الذهب أو الفضة، وتُطرّز عليه زخارف بارزة من خيوط الذهب أو الفضة أو القطن. هذه الزخارف غالباً ما تكون نباتية، كأغصان الورود، أوراق الكرمة، أشجار الرمان، أو رموزًا شرقية وإسلامية تحمل دلالات عميقة.

تعود تسمية البروكار إلى الكلمة الإيطالية Broccato التي تعني القماش المطرز أو المزخرف وانتقل المصطلح إلى الفرنسية ليأخذ شكله المعروف اليوم.

وعلى الرغم من أصول التسمية الأوروبية فقد اكتسب البروكار في دمشق طابعًا خاصًا حتى صار جزءًا من هوية المدينة وثقافتها الحرفية.

البروكار الدمشقي

اقرأ أيضًا: خميس الحلاوة الحمصية… تقليد شعبي ينبض بالمحبة في قلب مدينة حمص

تاريخ البروكار الدمشقي

ترجع أصول البروكار الدمشقي إلى آلاف السنين حيث تشير الروايات التاريخية إلى أن أصله يعود إلى ثلاثة آلاف سنة، حيث كانت دمشق تشتهر بموقعها الاستراتيجي على طريق الحرير القديم ما جعلها محطة مهمة تطورت فيها صناعة النسيج لتصبح من أشهر الحرف اليدوية في الشرق.

وتذكر المصادر أن نسّاجي دمشق في القرن السابع الميلادي كانوا يصدرون أقمشة البروكار إلى بيزنطة ثم إلى أوروبا، حيث لاقت إقبالًا واسعًا في بلاطات الملوك والأباطرة، فقد عُرف عن دمشق أنها كانت مركزًا مهمًا لتجارة الحرير، وبروكارها كان من أهم الصادرات.

أمّا فترة الإزدهار فكانت في العصور الوسطى حيث أصبحت دمشق مركزًا رائدًا لإنتاج الأقمشة الفاخرة التي كانت تصدر إلى مختلف أنحاء العالم، وقد ارتبط اسم البروكار عالميًا بمدينة دمشق، فأصبح مرادفًا للجودة العالية والتصميمات الفريدة.

وبدأت صناعة البروكار الدمشقي كحرفة يدوية دقيقة في أحياء دمشق القديمة حيث كانت الورشات الصغيرة تنتشر بين الحارات وتعمل ضمن نظام عائلي يتوارث فيه الأبناء أسرار المهنة من الآباء.

حيث كان الحرفي يُدعى “النسّاج” وغالبًا ما يستغرق إعداد قطعة واحدة من البروكار أسابيع طويلة نظرًا لما تتطلبه من دقة وصبر ومهارة عالية.

كما كانت الأداة الأساسية في هذه الصناعة هي النول الخشبي اليدوي وهو إطار ضخم يتألف من أجزاء خشبية وأحبال يُركّب فيه خيوط السدى (الخيوط الطولية) ويتم من خلاله إدخال خيوط اللحمة (الخيوط العرضية) بواسطة أداة تُسمى المكوك.

وكان الحرفيون يستخدمون خيوط الحرير الطبيعي المصبوغة يدويًا بألوان مستخرجة من مواد نباتية ومحلية قبل أن تُدمج لاحقًا بخيوط الذهب والفضة لإضفاء طابع ملكي على القماش.

ومع مرور الوقت تطورت أدوات الصناعة تدريجيًا في أواخر القرن التاسع عشر حيث بدأت تظهر أنوال نصف آلية مثل “نول الجاكار” الذي استخدم بطاقات مثقبة لتنظيم الزخارف.

ما أتاح مزيدًا من الدقة وسرّع الإنتاج دون أن يُفقد القطعة قيمتها الحرفية ومع ذلك ظل النسيج اليدوي أكثر تقديرًا خاصة في القطع المخصصة للملوك والنبلاء.

البروكار الدمشقي

اقرأ أيضًا: حلاوة الجبن: سُكر الشام وعبق الذاكرة

خصائص البروكار الدمشقي

يتميز البروكار الدمشقي بخصائص فريدة تجعله من أفخم وأدق الأقمشة في العالم إليك أبرز خصائصه:

  • المواد الخام الفاخرة:

يُصنع البروكار من خيوط الحرير الطبيعي المستخلصة من شرانق دودة القز والتي تُعدّ من أجود أنواع الحرير تُضاف إليها خيوط الذهب والفضة الخالصة مما يمنح القماش لمعانًا وبريقًا استثنائيًا .

  • اللمعان والبريق:

يتمتع قماش البروكار بسطح لامع وبراق يشبه لمعة قماش الستان وذلك بفضل طريقة النسيج الخاصة واستخدام الخيوط المعدنية .

  • الرسوم والنقوش:

يشتهر البروكار الدمشقي برسوماته ونقوشه المميزة التي تُنسج مباشرة في القماش حيث تتنوع هذه الرسوم بين الزخارف النباتية مثل الوردة والياسمين والزخارف الهندسية والزخارف المستوحاة من الطبيعة والحيوانات ومن البيئة الدمشقية مثل الرمان زهرات القرنفل أوراق العنب أو أشكال الأرابيسك ذات الطابع الإسلامي..

  • المتانة والسمك:

يُعدّ البروكار قماشًا سميكًا ومتينًا مما يجعله مناسبًا للاستخدام في صناعة الملابس الفاخرة والستائر والمفروشات والديكورات الداخلية.

  • الألوان الزاهية:

تتوزع الألوان في البروكار بأسلوب متناغم وغالبًا ما تميل إلى الغنى والعمق مثل الأحمر القرمزي الأخضر الزيتي الأزرق النيلي والذهبي وكل لون يُختار بعناية ليُكمل تفاصيل الزخرفة.

ما يميز البروكار أيضًا هو تكرار النقشة بدقة على كامل مساحة القماش وهي تقنية تحتاج إلى تنسيق مثالي بين التصميم وخيوط النسيج.

البروكار الدمشقي

اقرأ أيضًا: الصابون الحلبي: ذهب حلب الأخضر وتراث من الأصالة

البروكار الدمشقي بين المرأة السورية والقصور العالمية

لم يكن البروكار الدمشقي مجرد نسيج فاخر بل رمزًا للذوق الرفيع والهوية سواء في بيوت دمشق أو في قصور الملوك.

فقد ارتبط بالمرأة السورية خاصة في المناسبات الكبرى حيث كان يُستخدم في خياطة فساتين العرائس والعباءات المطرّزة ويُحتفظ به كجزء من جهاز العروس أو يُورّث من جيل لآخر.

أما عالميًا فقد تجاوز البروكار الدمشقي حدود دمشق ليصل إلى قصور أوروبا حيث استُخدم في الأثاث الملكي والملابس الرسمية.

لعل من أبرز الأمثلة على ذلك كان عام 1947 عندما صُنع من البروكار الدمشقي فستان زفاف الملكة إليزابيث الثانية من قماش نُسج خصيصًا في دمشق وقدّمته سوريا كهدية رسمية مزخرفًا بخيوط ذهبية ونقوش شرقية.

هذا الحضور العالمي رسّخ مكانة البروكار كسفير ناعم للفن الدمشقي وكتعبير راقٍ عن الحرفية السورية التي وصلت إلى أرفع القصور دون أن تفقد طابعها الأصيل.

كما زُيّنت بعض أجنحة القصور الفرنسية والإيطالية بستائر ومفروشات من البروكار الدمشقي خاصة في القرن الثامن عشر حين كانت الموضة الأوروبية تستلهم الذوق الشرقي واعتمد عليه عدد من المصممين العالميين في تصاميم نادرة لفساتين ملكات وأزياء مسرحية فخمة.

وعلى الرغم من شهرة البروكار الدمشقي عالميًا واجهت صناعته تراجعًا كبيرًا مع دخول الأقمشة الصناعية وانتشار الإنتاج الآلي الذي قلّل من الإقبال على النسيج اليدوي عالي الكلفة.

كما أغلقت معظم الورشات التقليدية وتناقص عدد الحرفيين المهرة مع غياب الدعم المؤسسي وركود السوق المحلي ومع ذلك لم تختفِ الحرفة تمامًا إذ واصلت بعض العائلات الدمشقية مثل آل العجلاني وآل الزيات العمل على الحفاظ على تقنياتها داخل ورش صغيرة ما زالت قائمة حتى اليوم.

وفي السنوات الأخيرة بدأت بعض المبادرات الثقافية والمؤسسات المهتمة بالتراث تسعى إلى توثيق هذه الحرفة وإحيائها عبر معارض برامج تدريبية ودعم الحرفيين الشباب.

كما ظهرت محاولات لإدماج البروكار في تصاميم معاصرة، بهدف ربطه بالذوق الحديث دون أن يفقد أصالته، وبين الانحسار والمقاومة تبقى هذه الصناعة علامة مميزة في الذاكرة السورية، تتطلب دعمًا حقيقيًا كي لا تتحوّل إلى مجرد أثر في المتاحف.

البروكار الدمشقي

ختامًا، يظل البروكار الدمشقي شاهدًا حيًا على عراقة الحضارة السورية ومهارة أبنائها.

إنه ليس مجرد قماش، بل هو قصة تاريخ، وفن، وإبداع، تجسد روح دمشق الأصيلة، وبفضل جهود الحرفيين المخلصين، سيظل البروكار الدمشقي يضيء العالم بجماله وفخامته، ويحكي للأجيال القادمة حكاية مدينة أبدعت في فن النسيج.

السابق
خاوية – وجع يقطر من الحروف
التالي
الأغباني الدمشقي: فن ينسج الجمال في كل خيط