وادي النصارى منطقة جبلية ساحرة تقع في ريف محافظة حمص بمحاذاة الحدود السورية-اللبنانية، ويمتد الوادي بين المرتفعات الغربية لجبال القلمون وسفوح الساحل السوري، مما يجعله حلقة وصل بين الداخل السوري والمناطق الساحلية، كما ويضم القرى والبلدات ذات الغالبية المسيحية الممتدة على ناحيتي الحواش والناصرة في ريف حمص الغربي، مثل قرى حب نمرة والحواش والناصرة والمزينة ومرمريتا، ويتراوح ارتفاع المنطقة بين 400 و1200 متر فوق سطح البحر ما يمنحها مناخًا معتدلًا صيفًا وباردًا شتاءً، مع أمطار غزيرة تحافظ على خضرتها الدائمة.
التاريخ والتسمية
يحمل الوادي بالإضافة إلى اسم النصارى اسم آخر وهو وادي “النضارة” نسبةً إلى سكانه الأوائل الذين عُرفوا بالزراعة والنشاط الفلاحي، فكلمة “النضارة” تعني “الخصب والنماء”، وتعاقبت على الوادي حضارات كثيرة بدءًا من الآراميين مرورًا بالبيزنطيين وانتهاءً بالعرب، ليصبح اليوم من أغنى مناطق سوريا تاريخيًا وثقافيًا، ويضم الوادي العديد من القرى ذات الطابع المسيحي العريق، إلى جانب القرى التي تتعايش فيها مختلف الطوائف بانسجام.
فتشكلت الأغلبية المسيحية في الوادي بعد وقوع سوريا تحت الاحتلال العثماني في بداية القرن السادس عشر، حيث أثارت هذه الخطوة مخاوف مسيحيي سوريا فلجأوا إلى هذه المنطقة التي تحيط بها الجبال ظنًا منهم أن هذه المنطقة ستكون حصينة كفاية لصد أي هجمات تقع ضدهم، وبعد الحرب العالمية الأولى وانتهاء الحقبة العثمانية فرضت فرنسا سيطرتها على منطقة الشام عدا فلسطين، وذلك بموجب قرارات الانتداب التي أصدرتها الأمم المتحدة.
وفي عام 1920 أعلن المندوب السامي الفرنسي غورو اقتطاع المناطق الساحلية ( بعلبك، البقاع، راشيا، حاصبيا) لتشكيل دولة جديدة عرفت ب “لبنان الكبير”، كما وطُرحت حينها فكرة ضم وادي النصارى إلى لبنان بدلًا من سوريا، ولكن الموارنة رفضوا ذلك بسبب أغلبية الوادي الأرثوذكسية ورغبة الموارنة في الحفاظ على الطابع الكاثوليكي للكيان الجديد.
لكن هناك روايات أخرى تقول أن هذا القرار كان مرفوضًا من قبل الموارنة والفرنسيين بسبب النهر الكبير الجنوبي الذي يفصل بين لبنان وسوريا، والذي يشكل فاصلًا طبيعيًا بين البلدين، فتم اعتباره حدًا جغرافيًا للدولة المزمع إنشاؤها.
وبهذا الشكل ظل الوادي تابعًا لسوريا وتقطنه أغلبية مسيحية واسمه “وادي النصارى”، والذي تغير في أثناء الوحدة مع مصر بعدما تقرر إلغاء تسمية أي مكان تحمل بعدًا طائفيًا، فتغير اسم جبل الدروز ليصبح جبل العرب ووادي النصارى أصبح يطلق عليه اسم وادي النضارة ولكن استمر الناس في استخدام الاسم القديم حتى يومنا هذا.

اقرأ أيضًا: مقام السيدة زينب في ريف دمشق
الطبيعة الخلابة والغطاء النباتي
يعتبر وادي النصارى أحد أجمل المناطق الطبيعية في سوريا، حيث تغطيه غابات كثيفة من السنديان، البلوط، والصنوبر، إضافةً إلى مساحات واسعة من الزيتون والعنب والتين، كما يتمتع الوادي بمناخ متوسطي معتدل حيث تكون درجات الحرارة صيفًا مريحة ونادرًا ما تتجاوز 30 درجة مئوية، في حين أن الشتاء بارد ورطب مع تساقط الثلوج على المرتفعات العالية، وجعل هذا المناخ المثالي المنطقة غنية بتنوعها النباتي، حيث تبقى المساحات الخضراء مبهجة طوال العام مع ازدهار الأزهار البرية في الربيع، واكتساء الأشجار بألوانها الذهبية في الخريف.
كما ويجري في وادي النصارى عدد من الينابيع العذبة مثل نبع عين العاصي الذي يتدفق بغزارة خلال الشتاء والربيع، ويُحيط به غطاء نباتي رائع ونبع عين الشعرة الذي يتميز بمياهه الباردة والعذبة، ويُعدّ مكانًا مثاليًا للنزهات ونبع كفرام الذي يمر بين الصخور ليشكل مشهدًا طبيعيًا مذهلًا.
ولعل أهم الينابيع في منطقة وادي النصارى هو نبع الفوار الذي يسمى أيضًا “فوار الدير”، وكان يسمى أيام الرومان “السبتي” ويقع النبع بالقرب من بلدة مشتى عازار ويتميز بموقعه الساحر بين التلال الخضراء، حيث يتدفق ماؤه بغزارة مشكّلًا مشهدًا طبيعيًا خلابًا يجذب الزوار من مختلف المناطق، وسُمّي بـ “الفوار” بسبب طبيعة مياهه التي تتدفق بشكل متقطع ومتفاوت الشدة، إذ يلاحظ الزائر أن النبع يزداد تدفقًا في أوقات معينة ثم يهدأ قليلًا وكأنه “يفور”، وهي ظاهرة طبيعية نادرة تجعل النبع مميزًا عن غيره من الينابيع.
وتسير مياهه في نهر يسمى العطشان كما إن المدة التي تخرج فيها المياه من باطن الأرض على شكل فوران غير معروفة، فهي تتراوح بين الساعة والأربع ساعات وقد يفور عدة مرات في اليوم الواحد وقد لا يفور في الشهر أكثر من مرة، كما وكان الناس يظنون أن فوران النبع فال حسن لزواره اللذين يجتمعون حول الفتحة لانتظار فوران النبع واعتُبر النبع قديمًا مقصدًا للحجاج الذين لديهم أمراض معينة، فكان بالقرب منه مزار يجلس فيه الناس ليصلوا ويطلبوا الشفاء.

اقرأ أيضًا: معلولا… لؤلؤة آرامية شامخة بين الجبال
أهم القرى والمعالم
يضم وادي النصارى العديد من القرى السياحية المشهورة مثل مرمريتا التي تعد إحدى أجمل وأشهر قرى وادي النضارى، فتقع في الريف الغربي لمحافظة حمص على ارتفاع يقارب 800 متر فوق سطح البحر، وتطلّ القرية على جبال الساحل السوري وسهل الغاب، مما يمنحها مناظر طبيعية خلابة خصوصًا عند غروب الشمس، حيث تمتزج الألوان الدافئة مع الأفق الجبلي الساحر، ويرجّح أن اسم “مرمريتا” مشتق من الكلمة السريانية “مار ماروثا” التي تعني “السيد ماروثا” نسبةً لأحد القديسين، وهناك من يربط التسمية بـ”المرمر” نسبةً إلى الصخور البيضاء المميزة المنتشرة في المنطقة، وأشهر ما يميز مرمريتا مهرجان عيد السيدة الذي يُقام سنويًا في منتصف شهر آب (أغسطس)، ويجذب آلاف الزوار من داخل سوريا وخارجها، ويتميز المهرجان بعروض فنية وحفلات موسيقية ومواكب احتفالية وأسواق شعبية تبيع المنتجات المحلية.

بالإضافة إلى قرية مرمريتا لدينا قرية الحصن التي تقع في الجهة الغربية من محافظة حمص ضمن منطقة وادي النصارى، وعلى ارتفاع 750 مترًا فوق سطح البحر وتحيط بها الجبال والتلال الخضراء، وتطل على وادي العاصي من جهة الغرب مما يمنحها موقعًا استراتيجيًا مميزًا، كما وسُمّيت القرية باسم “الحصن” نسبةً إلى قلعة الحصن التي تعدّ من أهم المعالم الأثرية في سوريا والعالم، وارتبطت بتاريخ القرون الوسطى حيث كانت القلعة معقلًا استراتيجيًا هامًا خلال الحروب الصليبية، ثم تحولت إلى مركز دفاعي للمماليك بعد تحريرها عام 1271 على يد السلطان قلاوون، وكنا قد تطرقنا إلى قلعة الحصن في مقال سابق.
اقرأ أيضًا: قلعة الحصن.. رمز القوة التاريخية في سوريا
كما ولدينا أيضًا قرية الكفارين التي تُعرف بوفرة ينابيعها العذبة ومن أشهرها نبع الكفارين، الذي يتدفق بين الصخور ليشكل جداول صغيرة تُضفي على المكان طابعًا ريفيًا ساحرًا، بالإضافة إلى قريتي عين العجوز وعين الراهب الصغيرتان واللتان تتميزان بطبيعتهما الريفية الأخاذة.
وأيضًا لدينا في منطقة وادي النصارى قرية عين الباردة وهي مصيف جميل وتقع على سفح جبل السايح شمال مرمريتا ب 2كم وعلى ارتفاع 984م عن سطح البحر فتطل غربًا على منطقة صافيتا، وسميت بعين الباردة بسبب وجود نبع مياه عذبه اسمه “عين الباردة”، وكما يوجد فيها دير مار الياس الذي يعتبر من أهم المراكز الدينية الأثرية في المنطقة حيث يقام فيه مهرجان كل عام في 19 تموز
أما بالنسبة لأهم معالم وادي النصارى فلا يجب أن نذكر المنطقة دون أن نتطرق إلى دير مار جرجس الحميراء الذي يقع بالقرب من بلدة المشتاية وعلى مقربة من قلعة الحصن، وتحيط به طبيعة خلابة من الجبال والوديان الخضراء مما يمنحه طابعًا روحانيًا وسياحيًا فريدًا، ويعود اسم الدير إلى القديس مار جرجس أحد أشهر القديسين في المسيحية الذي يُعرف بشجاعته في مواجهة الظلم، أما كلمة “الحميراء” فتعني الأرض الحمراء نسبةً إلى لون التربة المحيطة بالدير.
ويُعتقد أن تاريخ تأسيس الدير يعود إلى القرن السادس الميلادي وقد مرّ بمراحل عديدة من التجديد والتوسعة، خصوصًا خلال الحقبة البيزنطية، ومن ثم في العهدين الصليبي والمملوكي، ويُقال إن الإمبراطور البيزنطي يوستيانوس هو من أمر ببناء الدير على أنقاض معبد وثني قديم، ويمتاز دير مار جرجس الحميراء بطراز معماري يجمع بين البساطة والقوة، حيث يتكون من كنيسة رئيسية وغرف للرهبان وأقبية حجرية وساحات داخلية، كما وبنيت جدرانه من الحجر الكلسي الأبيض، وتحيط به أشجار السرو والصنوبر مما يمنحه مظهرًا مهيبًا.
بالإضافة إلى ذلك يضم الدير سوقًا قديمة تُعرف بـ “العرضي” يعود تاريخها لأكثر من 200 عام، حيث تمتد السوق بطول 500 متر وعرض 50 مترًا وتحيط بها دكاكين صغيرة مبنية بالحجر وفق تصميم الأقبية التقليدية، ويرتبط هذا السوق باحتفالات عيد الصليب، حيث يُفتح لمدة أسبوع فقط من 7 إلى 14 أيلول ويشهد حركة تجارية نشطة، وفي الفترة بين القرن التاسع عشر وحتى منتصف السبعينيات كان سوق العرضي مركز التسوق الرئيسي في وادي النصارى، ولم يقتصر دوره على النشاطات التجارية فحسب بل كان أيضًا ساحة للتجمعات الاجتماعية والأدبية، حيث اجتمع فيه شعراء الزجل، القرادي، والمعنى من سوريا ولبنان لإحياء الأمسيات الشعرية.

اقرأ أيضًا: الغابة الاستوائية في طرطوس
كما ومن أهم معالم منطقة وادي النصارى هو تمثال سيدة الوادي الموجود على تلة عالية على قمة جبل السايح، ويُعتبر رمزًا دينيًا مهمًا للمسيحيين في المنطقة، حيث تم تدشينه عام 2009 خلال احتفال كبير، ويبلغ ارتفاعه حوالي 30 متر مما يجعله من أطول التماثيل الدينية في سوريا، كما وصنع التمثال من البرونز ويُجسّد السيدة العذراء ويُعتبر التمثال مقصدًا للحج عند المسيحيين، وخاصة خلال الاحتفالات الدينية مثل عيد السيدة العذراء في 15 آب.

كما وتبرز منطقة وادي النصارى بخلفيتها العلمية والثقافية، حيث أقيمت فيها اثنتان من أهم الجامعات الخاصة في سوريا وهما جامعتا الوادي الدولية الخاصة والتي أحدثت عام 2008، وتضم كلية الهندسة وكلية طب الأسنان وكلية العلوم الإدارية والاقتصادية، وكذلك جامعة الحواش الخاصة التي أحدثت أيضًا عام 2008 وتضم كلية الصيدلة وكلية طب الأسنان وكلية التجميل والعناية الصحية وكلية اللغات وهي (الإنجليزية والفرنسية والصينية والفارسية).
كما ولدينا مخبر السلام للغات الذي أحدث في حمص عام 1995 وانتقل إلى المشتاية مقابل فندق وادي النصارى عام 2018، وهو مركز لتعليم اللغات ( إنجليزية، فرنسية، ألمانية، إسبانية، روسية)، بالإضافة إلى تعليم الكمبيوتر.

ومن أهم الفعاليات المقامة في وادى النصارى هو مهرجان القلعة والوادي الذي يُقام سنويًا خلال فصل الصيف وعادةً ما يمتد لعدة أيام، ويتضمن فعاليات متنوعة تدمج بين التراث، والثقافة، والفن، والسياحة، حيث تقام حفلات يحييها فنانون سوريون وعرب، بالإضافة إلى عروض فولكلورية ورقصات تراثية، وتقام أيضًا معارض تراثية وفنية تُعرض فيها لوحات تشكيلية وصور فوتوغرافية ومنتجات يدوية تعكس هوية المنطقة.

في الختام، يعتبر وادي النصارى في حمص وجهة سياحية رائعة تجمع بين الطبيعة الخلابة والتاريخ العريق، بجباله الشاهقة وغاباته الكثيفة وأوديته العميقة، فيُعد الوادي مكانًا مثاليًا لعشاق الطبيعة والمغامرة، فيمكن للزوار الاستمتاع بالمناظر الطبيعية الساحرة، والتعرف على المعالم التاريخية التي تحكي قصصًا من ماضٍ بعيد.