تعتبر نواعير حماة واحدة من أبرز الرموز التراثية في سوريا، وهي دليل حي على الإبداع الهندسي الذي استخدمه الإنسان منذ مئات السنين لاستثمار الموارد الطبيعية. هذه النواعير، التي تدور على نهر العاصي، ليست مجرد أدوات لنقل المياه، بل تحفة فنية تعكس روح المدينة وثقافتها، وحكاية ممتدة عبر الزمن تروي فصولًا من تاريخ الحضارات التي مرت بهذه الأرض، حيث أطلق عليهت لقب “أروع نواعير بنيت على الإطلاق” وأدخلت في القائمة الإرشادية المؤقتة لمواقع التراث العالم لليونسكو عام 1999 وكذلك في قائمة المعالم التاريخية للهندسة الميكانيكية.
Contents
ما هي النواعير؟
نواعير حماة هي آلات مائية خشبية ضخمة تُستخدم لرفع المياه من الأنهار (نهر العاصي) والينابيع إلى مستويات أعلى بهدف ري الأراضي الزراعية أو تزويد القرى والمدن بالمياه، وتعتمد الناعورة في عملها على الطاقة المائية الطبيعية، حيث يدفع تيار الماء عجلة الناعورة لتدور، فتلتقط المياه بواسطة صناديق أو دلاء مثبتة على محيط العجلة، ثم تُفرغها في قنوات مائية لتُستخدم في الري أو الشرب، وتمثل هذه النواعير نظامًا بيئيًا متكاملًا، حيث تعتمد حركتها على قوة تدفق المياه دون الحاجة إلى أي مصدر طاقة آخر، مما يجعلها من أقدم أنظمة الري المستدامة في العالم.
وكلمة “ناعورة” مشتقة من الفعل “نَعَرَ”، الذي يعني إصدار صوت معين عند الدوران. وسُميت كذلك بسبب صوتها المميز الناتج عن احتكاك أجزائها الخشبية بالماء أثناء الدوران، وبسبب وجود النواعير أُطلق على حماة اسم “مدينة النواعير”.

تاريخ نواعير حماة
يعود استخدام نواعير حماة إلى العصور القديمة، حيث يُعتقد أنها اختُرعت في بلاد ما بين النهرين أو في الحضارة الرومانية، ثم انتشرت في مختلف مناطق العالم، خاصةً في سوريا، العراق، مصر، الأندلس، وإيران.
ويعود تاريخ بناء النواعير في مدينة حماة إلى العصور الرومانية والبيزنطية، ولكنها بلغت أوج ازدهارها في العهد الإسلامي، خصوصًا في العهد الأيوبي والمملوكي، حيث شهدت المدينة اهتمامًا واسعًا بتطوير نظم الري، واستخدمت النواعير لتوفير المياه للزراعة ولإمداد المساجد والحمامات والخانات، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية في حماة.
وكما تظهر الآثار السورية منحوتات ولوحات أثرية عن نواعير حماة مثل لوحة الفسيفساء التي تم اكتشافها في شارع الأعمدة في مدينو أفاميا الأثرية على بعد 55 كم شمال حماة، ويعود تاريخ هذه اللوحة إلى 420 م وتظهر صورة طبق الأصل للناعورة، ونُقلت هذه اللوحة إلى متحف دمشق الوطني وذلك، فضلًا عن الآثار التي تم اكتشافها بالقرب من قلعة شيزر.

اقرأ أيضًا: قلعة شيزر
أنواع النواعير في حماة
تتميز نواعير حماة بتنوعها من حيث الحجم والوظيفة، ومن أبرزها:
- ناعورة الجسرية: من أشهر نواعير حماة، وتقع بجوار الجسر العتيق، وتعد من أقدم النواعير الموجودة.
- ناعورة المحمدية: أكبر ناعورة في المدينة، حيث يصل قطرها إلى حوالي 21 مترًا، وكانت تُستخدم لنقل المياه إلى مسجد السلطان.
- ناعورة المأمورية: إحدى النواعير المتوسطة الحجم، وكانت تخدم العديد من البيوت والمساجد في حماة.
- ناعورة العثمانية: سميت بهذا الاسم نسبةً للعهد العثماني، وكانت تُستخدم لتوزيع المياه بين الأحياء القديمة.
في أوائل القرن العشرين، كانت مدينة حماة ومحيطها تزخر بـ 105 نواعير، منها 25 ناعورة داخل المدينة نفسها، لكن مع مرور الزمن تقلص هذا العدد ليبقى حوالي 40 ناعورة قيد العمل منها 19 داخل حماة، موزعة ضمن خمس مجموعات رئيسية:
- مجموعة البشريات: تقع عند المدخل الشرقي لحماة، وتضم أربع نواعير مقسمة إلى مجموعتين فرعيتين، هما: البشريتان والعثمانيتان.
- مجموعة الجسريات: تضم أربع نواعير أيضًا، وهي: الجسرية، المأمورية، المؤيدية، والعثمانية، وتُعد من أجمل النواعير في العالم بفضل هندستها الفريدة وجمالها المعماري.
- مجموعة الكيلانيات: تتألف من أربع نواعير، ثلاث منها على الضفة اليسرى لنهر العاصي وواحدة على الضفة اليمنى، وتحمل أسماء: الجعبرية، الطوافرة، والكيلانية.
- مجموعة شمال القلعة: تقع في باب الجسر شمال قلعة حماة، وتتألف من ثلاث نواعير، اثنتان على الضفة اليسرى وواحدة على الضفة اليمنى، وهي: الخضر، الدوالك، والدهشة.
- مجموعة باب النهر: تضم أربع نواعير، لكن لم يبقَ منها إلا اثنتان قيد العمل، وهما: المحمدية والقاق، بينما اختفت كل من العونية والبركة منذ نحو نصف قرن.
اقرأ أيضًا: قصر الحير الغربي: جوهرة معمارية وسط الصحراء السورية
مكونات الناعورة
تتكون نواعير حماة من عدة أجزاء رئيسية، جميعها مصنوعة من الخشب المتين مثل خشب الجوز أو السنديان لضمان تحملها لظروف الطبيعة وهي كالتالي:
- القلب (المحور المركزي): القلب هو الجزء الأساسي في نواعير حماة، حيث يشكل مركز الدائرة التي تدور حولها الناعورة بالكامل، ويُصنع عادةً من خشب قوي مثل الجوز، نظرًا لمتانته وقدرته على تحمل الاحتكاك المستمر بالماء.
- الكفت (الساندات): الكفت وتُعرف أيضًا بالوسائد، وهي دعامات خشبية توضع تحت القلب لدعمه وتخفيف الضغط عليه أثناء الدوران، وتُصنع عادةً من خشب الجوز نظرًا لصلابته.
- الصر (الدعائم المحيطية): وهي قطع خشبية سميكة تُحيط بالقلب، مصنوعة عادةً من خشب المشمش، حيث تتميز بقدرتها على تحمل الضغط والمياه دون أن تتلف بسهولة.
- الأعتاب (الدعامات العمودية): الأعتاب هي أجزاء خشبية يبلغ عددها 16 عتبة في كل ناعورة، بغض النظر عن حجمها، سواء كان قطرها صغيرًا (5 أمتار) أو كبيرًا يصل إلى 25 مترًا.
- الوشاحات (الأضلاع الرئيسية): الوشاحات هي عناصر أساسية في الهيكل العام لنواعير حماة، حيث تُصنع من خشب الحور المعروف بخفة وزنه وقدرته على مقاومة الماء، وتحتوي كل ناعورة على 32 وشاحًا، وهي المسؤولة عن دعم باقي الأجزاء المرتبطة بها.
- القيود (روابط الوشاحات): تُصنع القيود من خشب الجوز أو التوت، وهي قطع تربط الوشاحات ببعضها البعض، مما يمنح الناعورة استقرارًا أثناء الدوران.
- الدوائر (الإطارات الخشبية الخارجية): لكل ناعورة دائرتان تُشكلان إطارها الخارجي، وهي غالبًا مصنوعة من خشب الجوز، نظرًا لمتانته ومقاومته العالية للعوامل الطبيعية.
- الأطابيع (روابط إضافية بين الدائرة والوشاحات): تُصنع الأطابيع من خشب السنديان، وتعمل على تعزيز التماسك بين الدوائر والوشاحات، مما يضمن دورانًا سلسًا دون حدوث تفكك أو ضعف في الهيكل.
- الرادين (الدعامات المائلة): الرادين، وهي جمع “رادينة”، تُصنع من خشب التوت، وتُثبت بإحكام عن طريق دق رؤوسها العلوية بأسافين خشبية قوية
- الأسافين (المسامير الخشبية الداعمة): تُصنع الأسافين من أخشاب صغيرة تُدق في الجزء الداخلي للدائرة العلوية، مما يساعد في تثبيت الأجزاء معًا ومنع تفككها بمرور الزمن.
- القَبون (الطبقات العازلة في الصندوق المائي): القبون عبارة عن طبقتين خشبيتين تشكلان الجانبين العلوي والسفلي للصندوق، الذي يُستخدم في حمل المياه من النهر إلى القنوات المائية.
- القراعات (أجزاء داعمة للرادين): القراعات هي قطع خشبية دقيقة تُستخدم لتثبيت الرادين في مواضعها الصحيحة، مما يحافظ على توازن الناعورة أثناء دورانها في الماء.
- الميازيب (فتحات تصريف الماء): تُشكل الميازيب مسارات تسمح بتدفق المياه التي يتم جمعها داخل الصندوق، حيث تضمن وصول الماء إلى المكان المطلوب داخل القنوات المائية.
- الطبق (الجوانب الحافظة للمياه): الطبق يُشكل جانبي الصندوق، وهو جزء أساسي يمنع تسرب المياه، مما يسمح بنقلها بسلاسة إلى القنوات الزراعية.
- الصندوق (المُجمِّع المائي): الصندوق هو الجزء الذي يجمع الماء من نهر العاصي ثم ينقله إلى أعلى الناعورة، حيث يُصب في القنوات المائية المستخدمة للري
- الريش (الدوافع الدورانية): تُصنع الريش من خشب الجوز، وهي مسؤولة عن منح نواعير حماة قوة دوران إضافية، مما يُساعد في استمرار حركتها دون توقف.
- الجامعات (المثبتات الداخلية): تصنع الجامعات من خشب الشوح أو الحور، وتُستخدم لزيادة دوران الناعورة ومنحها توازنًا أثناء العمل.
- العضايض (الدعامات الداخلية للناعورة): العضايض هي قطع خشبية تصل الجامعات بالأجزاء الأخرى، مما يعزز تماسك الناعورة ويزيد من صلابتها.
- الأبواب (الألواح المتحركة عند دخول الناعورة الماء): تُصنع الأبواب من خشب الشوح، وهي ألواح خشبية عريضة تُثبت فوق وشاحين متقابلين، حيث تتحرك تلقائيًا عند دخول الناعورة إلى الماء، مما يُساهم في تنظيم تدفق المياه أثناء الدوران.

اقرأ أيضًا: صلنفة
آلية عمل الناعورة
تعمل نواعير حماة وفق مبدأ بسيط لكنه فعال يعتمد على تدفق الماء الطبيعي، وفيما يلي خطوات تشغيلها بالتفصيل:
- دفع الماء للعجلة: تُثبت الناعورة على ضفاف الأنهار بحيث يمر تيار الماء تحتها أو بجانبها، وتدور العجلة نتيجة قوة دفع الماء المتدفق، خاصة في المناطق ذات التيارات القوية مثل نهر العاصي.
- رفع المياه: على محيط العجلة، توجد صناديق خشبية صغيرة تُسمى “أحواض” أو “دلاء”، تمتلئ بالماء عند غمرها في النهر، وعند دوران العجلة ترتفع الصناديق إلى الأعلى حاملة معها الماء.
- تفريغ الماء في القنوات: عندما تصل الصناديق إلى أعلى نقطة، تميل لتفرغ محتواها في قناة مائية مثبتة بالقرب منها، وتقوم هذه القنوات بتوجيه المياه إلى وجهتها النهائية، سواءً إلى الأراضي الزراعية أو إلى خزانات تخزين المياه.
- استمرار الدورة: مع استمرار تدفق الماء، تظل نواعير حماة تدور بشكل متكرر دون الحاجة إلى أي مصدر طاقة إضافي، مما يجعلها وسيلة مستدامة وصديقة للبيئة، وتدور الناعورة دورة كاملة كل عشرين ثانية تعطي خلالها 2400 لتر من الماء.
في الختام، وبين أصوات المياه المتدفقة وأعمدة الخشب العتيقة، تحتفظ نواعير حماة بسحرها الذي يأسر القلوب. إنها ليست مجرد آثار بل حكاياتٌ محفورةٌ في الزمن، تدعو الزائر لاستكشاف عراقة حماة وأصالتها، فاجعل رحلتك القادمة إلى سوريا رحلةً عبر التاريخ تبدأ من ضفاف العاصي حيث تدور النواعير بلا توقف.