في قلب السهول السورية الوادعة، وتحديدًا إلى الشمال الغربي من مدينة حماة، تتربّع مدينة أفاميا الأثرية شامخة كأنها سيدة من الزمن القديم، تهمس للعابرين بحكايا مجدٍ غابر، وتفتح أبوابها على مصراعيها لكل من يهوى الغوص في أعماق التاريخ.
في مدينة أفاميا الأثرية، تتناثر الأعمدة كأنها نغمات أبدية لعزف حضاري خالد، وتتمازج آثار الرومان مع بصمات الإغريق، في مشهد يجمع بين عبق الماضي وروعة المعمار.
أكمل معنا هذا المقال لتتعرف أكثر على هذه المدينة الأثرية.
Contents
الموقع الجغرافي
تقع مدينة أفاميا الأثرية في الشمال الغربي من سوريا، ضمن حدود محافظة حماة، حيث تستقر على الضفة الشرقية لنهر العاصي، في قلب سهل الغاب الخصيب، وبفضل موقعها الجغرافي المميز، تتربّع أفاميا كواحدة من أعرق المواقع الأثرية وأكثرها سحرًا في البلاد.
وتُشير أغلب المصادر التاريخية إلى أن المسافة التي تفصلها عن مركز مدينة حماة تتراوح بين 55 و60 كيلومترًا، وتحديدًا قرب بلدة قلعة المضيق، هذا الموقع الاستراتيجي القريب من الطريق الحيوي الواصل بين دمشق وحلب، والمقابل لسلسلة جبال اللاذقية، منح المدينة أهمية كبيرة عبر العصور، سواء على الصعيدين العسكري أو التجاري.

اقرأ أيضًا: مدينة شهبا الأثرية… مدينة الأباطرة التي حاكت روما في قلب السويداء
التاريخ والنشأة
في عمق التاريخ، وعلى أنقاض مدينة قديمة عُرفت باسم “فارماكيا”، بزغ فجر أفاميا كواحدة من أبهى مدن الشرق القديم، حين قرر الملك السلوقي سلوقس الأول نيكاتور – أحد أبرز خلفاء الإسكندر المقدوني – أن يشيدها عام 300 قبل الميلاد، ويهديها اسمًا يحمل في طياته الحب والوفاء، “أفاميا” تيمنًا بزوجته “أباميا”.
لم تكن هذه الأرض وليدة تلك اللحظة فحسب، بل كانت شاهدة على استيطان بشري يعود إلى العصور الحجرية والبرونزية، مما يضفي على هذه المدينة عبق القدم، وعمق الامتداد الحضاري الذي عبرها منذ آلاف السنين.
ومن الجدير ذكره، أنه وقبل أن تتحوّل مدينة أفاميا الأثرية إلى مدينة هلنستية بارزة ومركز هام في الإمبراطورية السلوقية، كانت هذه المنطقة مجرّد بلدة صغيرة تُعرف باسم “فارماك” (Pharmake)، وقد بدأت ملامح مجدها تتبلور خلال الحقبة الهلنستية-الرومانية، لاسيما بعد أن وصل إليها الإسكندر المقدوني، الذي غيّر اسمها إلى “بيلا” تكريمًا لمسقط رأس والده في مقدونيا، واستمر هذا الاسم حتى عام 301 قبل الميلاد.
ما إن خطّت مدينة أفاميا الأثرية أولى ملامحها تحت راية الدولة السلوقية، حتى اتخذت موقعها كجوهرة في عقد المدن الهلنستية، مستعرضة جمالها بتخطيط عمراني هندسي دقيق، شبيه برقعة شطرنج، تمامًا كما عُرفت به أنطاكية واللاذقية في ذلك العصر، ولم يمضِ وقت طويل حتى استقرت تحت جناح الإمبراطورية الرومانية عام 64 قبل الميلاد، لتنطلق نحو مرحلة جديدة من الازدهار والعظمة.
في كنف الرومان، ارتفعت مدينة أفاميا الأثرية كالملكة وامتلأت بالحياة، حتى تجاوز عدد سكانها مئة ألف نسمة، في مشهد يعكس رُقيّها وتحضّرها، لكن الزمان لم يدَعها دون اختبار، فزلزال عنيف هزّ أركانها عام 115 ميلادي، لينهض بعدها العمران الروماني من تحت الركام، مشكّلاً لوحة هندسية باهرة: شوارع مستقيمة تتزين بالأعمدة، ومبانٍ تنطق بالفخامة والبهاء.
في العصر البيزنطي، واصلت مدينة أفاميا الأثرية تألقها كمركز ديني وثقافي بارز مستقطبة العلماء ورجال الدين، لكن زلزالًا ضربها في القرن السادس الميلادي، فبدأت ملامح التراجع تظهر تدريجيًا على المدينة.
ومع دخول الفتح الإسلامي إلى سوريا، أصبحت مدينة أفاميا الأثرية جزءًا من الدولة الإسلامية، ورغم تراجع دورها مقارنة بما كانت عليه في العصور السابقة فإنها لم تُهجر بالكامل، بل ظل فيها بعض النشاط العمراني والحياة السكانية.
اقرأ أيضًا: الزبداني سوريا… مصيف السوريين وروح الريف الدمشقي
أهم معالم مدينة أفاميا الأثرية
تضم مدينة أفاميا الأثرية العديد من الآثار الرائعة التي تعكس عظمة تاريخها، تحوي بين جنباتها معالم فريدة من مختلف العصور. ومن أبرز هذه الآثار ما يلي:
متحف أفاميا
يُطلّ متحف مدينة أفاميا الأثرية من قلب مدينة قلعة المضيق في الشمال الغربي لمحافظة حماة، على بُعد يقارب 65 كيلومتراً من مركز المدينة، ويُعتبر واحدًا من أهم المتاحف السورية التي تعنى بفن الفسيفساء، إذ يحتضن تشكيلة نادرة من اللوحات الفسيفسائية التي تم اكتشافها في مدينة أفاميا الأثرية وضواحيها، والتي تنتمي إلى فترات زمنية متباينة، أبرزها الحقبتان الهلنستية والرومانية.
يتخذ المتحف مقره داخل خان عثماني تاريخي يعود للقرن السادس عشر، كان في الماضي مبيتًا للحجاج والمسافرين، وقد أعادت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية تأهيل هذا المبنى ليصبح مقرًا لحفظ وعرض مكتشفات مدينة أفاميا الأثرية، حيث يتألف الخان من طابق واحد يلتف حول باحة مربعة، ويقع مدخله الرئيسي في الواجهة الشمالية للمبنى، ولعل أبرز مقتنيات المتحف هي كالتالي:
- فسيفساء سقراط والحكماء: لوحة فنية نادرة تُجسّد الفيلسوف سقراط في حضرة ستة من أعلام الفكر الإغريقي، وتعود هذه التحفة إلى عام 363 ميلادي، موثقة روح الفلسفة الكلاسيكية.
- القطع الجنائزية والتوابيت: مجموعة أثرية مميزة تحتوي على نقوش لاتينية تعود إلى العهد الروماني، تعكس الطقوس الجنائزية وأساليب النحت في تلك الحقبة.
- الألواح الطينية المسمارية: أرشيف أثري ضخم يضم أكثر من 15,000 لوح مكتوب بالخط المسماري، يكشف مراحل تطور الكتابة والحياة الإدارية في المنطقة القديمة.

الشارع المستقيم أو شارع الأعمدة
يُعتبر الشارع المستقيم، المعروف أيضًا بـ”الشارع المعمّد” أو “شارع الأعمدة”، من أبرز الشواهد المعمارية التي تُجسّد روعة الفن الروماني في مدينة أفاميا السورية، حيث يمتد هذا الشارع العريق بخط مستقيم يخترق قلب المدينة من الشمال إلى الجنوب، بطول يقارب 1850 مترًا، ما يجعله أحد أطول الشوارع المعمدة في الحضارة الرومانية القديمة.
يبدأ مسار الشارع المستقيم من “باب أنطاكية” شمالًا وينتهي عند “باب حماة” جنوبًا، وكان يُمثل الشريان الأساسي للمدينة، ويُعرف في المخطط الروماني باسم “كاردو ماكسيموس”.
يصطف على جانبي الشارع المعمد في مدينة أفاميا الأثرية عدد هائل من الأعمدة الكورنثية التي يبلغ ارتفاع كل منها نحو تسعة أمتار، وبقطر يقارب 0.9 متر، قائمة على قواعد مربعة متينة، وتتنوع هذه الأعمدة في أشكالها وزخارفها، فمنها ما جاء أملسًا بسيطًا ومنها ما نُقش بأخاديد حلزونية أنيقة، تعود إلى فترات متعددة من الحقبة الرومانية، وقد أُضفي على بعضها طابع زخرفي خاص عبر تقنية “الفلوتينغ” – وهي أخاديد لولبية دقيقة – تمنح الشارع مسحة جمالية راقية تعبّر عن دقة العمارة وفن النحت في تلك العصور.
بالإضافة إلى ذلك، يصطف على جانبيه أهم المباني الدينية والتاريخية في مدينة أفاميا الأثرية بما في ذلك الحمامات و”الأغورا”، وتعني المساحة العامة المفتوحة للتجمعات والأسواق، فضلًا عن وجود معبد “تايكي” والقاعدة المستديرة و”الباسيليك”.

اقرأ أيضًا: قصر الزهراوي في حمص
المسرح الروماني
يتخذ المسرح الروماني في مدينة أفاميا الأثرية موقعًا استراتيجيًا على السفح الغربي للمدينة، حيث استُغل الانحدار الطبيعي للأرض ببراعة لتشييد مدرجاته الواسعة. يمتد عرضه بما في ذلك المنصة والكواليس إلى نحو 145 مترًا، ويُقدّر أن طاقته الاستيعابية كانت تفوق 20 ألف متفرج، مما يضعه في مصافّ أكبر المسارح في العالم الروماني القديم.
تميّز هذا المسرح بعبقرية هندسيته الصوتية، إذ صُمّم بطريقة تُمكّن الصوت من الانتشار بوضوح مذهل، بحيث يصل إلى كل ركن من أركانه دون الحاجة إلى وسائل تضخيم، الأمر الذي أدهش الباحثين والمهندسين المعاصرين.
ورغم ما تعرّض له من تدمير وتفكيك خلال العصور الوسطى، حيث نُقلت حجارته لاستخدامها في بناء قلعة المضيق والخان العثماني المجاور في القرن السادس عشر، إلا أن أجزاءً منه ما تزال صامدة، ومنذ ستينيات القرن العشرين، أطلقت بعثات أثرية متخصصة حملات تنقيب واسعة لإماطة اللثام عن ما تبقّى من هذا المعلم المهيب وإبراز قيمته الحضارية.
الكاتدرائية البيزنطية
شُيّدت الكاتدرائية البيزنطية في قلب مدينة أفاميا الأثرية، إلى الشرق من قصر الحاكم المعروف بالتريكلينوس، ويُقال أنها شُيدت في عهد الإمبراطور جستنيان الأول (527_ 565 م)، وجاء تصميمها كمجمّع ديني متكامل يضم الكنيسة الرئيسية، وقصر الأسقف، وحمامات، ومكاتب، وعدة كنائس فرعية.
تميّزت الكنيسة الكبرى بتخطيط معماري فريد ذي أربع حنيات يدل على مكانتها الاستثنائية، أما من حيث الزخرفة فقد زُيّنت جدران الكاتدرائية بلوحات فسيفسائية بالغة الجمال، تعكس بوضوح جدالات لاهوتية تعود للقرن السادس الميلادي وتُشير إلى اسم الأسقف بول.
وفي الجوار القريب من الكاتدرائية، تقع كنيسة بيزنطية تعود إلى القرنين الخامس والسادس الميلاديين تُعرف باسم “الروتوندا”، وتتسم هذه الكنيسة بتصميمها المعماري الفريد، حيث تتمركز بنية مستديرة في جزئها الشرقي متصلة ببناء ملحق، وقد أولى علماء الآثار الروس اهتمامًا خاصًا بهذه البقايا، حيث أجروا دراسات موسعة على أنقاضها وأكدوا أنها تُعرف بالاسم الرمزي “روتوندا”، لما تحمله من خصائص معمارية لافتة وجاذبة للبحث.

اقرأ أيضًا: التكية السليمانية
في الختام، تظل مدينة أفاميا الأثرية رمزًا حيًا لحضارات غابرة، تجسد عبر معالمها التاريخية والفنية عظمة الماضي وإبداع الشعوب التي مرت بها. وبينما تنبض آثارها بالحياة، تظل أفاميا شاهدة على تاريخ طويل مليء بالثقافة والتنوع.