بوابة سوريا

كنيسة أم الزنار… واحدة من أقدم كنائس العالم

حمص

في قلب مدينة حمص السورية في منطقة الحميدية وسط أزقتها القديمة وأسواقها العريقة، تقف كنيسة أم الزنار شامخة كأحد أقدم وأهم المعالم الدينية والتاريخية في العالم المسيحي، وتحمل هذه الكنيسة بين جدرانها أسرارًا وقصصًا امتدت لأكثر من 1500 عام، حيث تُعد واحدة من أقدم الكنائس التي ما زالت قائمة حتى اليوم، فما قصة هذه الكنيسة ولماذا تحمل اسم “أم الزنار”؟

تاريخ الكنيسة وسبب التسمية

يعود تاريخ كنيسة أم الزنار إلى القرن الأول الميلادي، ويُعتقد أنها بُنيت على يد بعض المسيحيين الأوائل الذين استوطنوا المنطقة، حيث تأسست الكنيسة التحأرضيّة في حمص عام 59 ميلادي وكانت في البداية عبارة عن قبو تحت الأرض استخدمه المسيحيون الأوائل لإقامة شعائرهم الدينية سرًا خوفًا من الاضطهاد الروماني وكانت تتسع حينها ل 30 مصليًا، ويُنسب بناؤها إلى إيليا أحد التلاميذ السبعين الذين نشروا تعاليم المسيح في المنطقة، ومع نمو الجماعة المسيحية في حمص أصبحت الكنيسة مقرًا لأبرشية المدينة، وتولى الأسقف سلوانس قيادتها لمدة تقارب الأربعين عامًا حتى وفاته عام 312 ميلادي.

وبعد مرسوم ميلانو الصادر عام 313 والذي منح الحرية الدينية للمسيحيين بدأ سكان حمص ببناء كنيسة كبيرة فوق الكنيسة القديمة المحفورة تحت الأرض، واستخدموا في بنائها الحجر البازلتي الأسود المميز للمنطقة وسُقفت بالخشب، لكن لا تتوفر معلومات دقيقة عن أبعادها الأصلية، كما وكانت الكنيسة في أواسط القرن العشرين مقر بطرياركية أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس وغدت بعد انتقال الكرسي البطريركي إلى دمشق العاصمة مقر أبرشية حمص وحماه للسريان الأرثوذكس.

أما سبب تسميتها بـ”أم الزنار” فيعود إلى اكتشاف زنار السيدة العذراء داخل الكنيسة عام 1953 م، ويقال أنه موجب التقاليد المسيحية فإن الزنار كان من نصيب القديس توما الذي نقله إلى الهند ومكث فيها أربع قرون حين نقل إلى الرها مع رفات القديس توما ومنها إلى حمص سنة 476 ميلادي، حيث أن راهبًا يدعى الأب الطارعابديني قدم إلى الكنيسة ومعه الزنار وحفظ الزنار فيها وسميت عندها بكنيسة أم الزنار، وأصبحت مقصدًا للحجاج من جميع أنحاء العالم.

كما وشهدت كنيسة أم الزنار عدة تجديدات وتوسعات عبر الزمن، ففي عام 1852 قام المطران يوليوس بطرس بترميمها حيث استبدل السقف الخشبي وأعاد بناء بعض الجدران، مشيدًا كنيسة جديدة على ستة عشر عمودًا مع قبة نصف أسطوانية مزخرفة، وُضع الزنار المقدس داخل جرن بازلتي في وسط المذبح، وأُغلق بحجر منقوش عليه تاريخ التجديد وأسماء المتبرعين، وفي عام 1901 أضيفت الجرسية الحالية، ثم شهدت الكنيسة تجديدًا آخر عام 1910 بأمر من السلطان العثماني محمد الخامس، وفي عام 1953 وخلال حبرية البطريرك إغناطيوس أفرام الأول برصوم نُقل الزنار إلى مزار خاص مجاور للكنيسة، وفي العام التالي تمت توسعة الكنيسة من الجهة الغربية وإضافة جناح جديد.

كنيسة أم الزنار

اقرأ أيضًا: مقام السيدة زينب في ريف دمشق

عمارة كنيسة أم الزنار

تتميز كنيسة أم الزنار في حمص بهندستها المعمارية الفريدة، والتي تعكس الطراز السرياني القديم الممزوج بالعناصر البيزنطية، ومن أهم العناصر التي تجعل هذه الكنيسة مميزة هو نوع الأحجار التي شُيدت بها، حيث استخدمت الأحجار البازلتية السوداء وهي من أكثر أنواع الصخور انتشارًا في المنطقة بسبب طبيعتها البركانية، فتمتاز الكنيسة بواجهة بسيطة بُنيت من الحجر البازلتي الأسود مما يمنحها طابعًا أثريًا مميزًا، كما يزين مدخلها قوس كبير وفوقه نافذة مستديرة تسمح للضوء الطبيعي بالدخول، ويعلو الكنيسة برج جرسية (أضيف عام 1901)، ويتكون من عدة طبقات، يضم الأجراس التي كانت تُقرع في المناسبات والصلوات.

أما بالنسبة للتصميم الداخلي فتتكون الكنيسة من قاعة رئيسية واسعة تستند إلى 16 عمودًا ضخماً منها 8 أعمدة تتوسط القاعة والبقية مدمجة ضمن الجدران، مما يمنح المكان إحساسًا بالرهبة والقدسية، وتعلو الكنيسة قبة نصف أسطوانية مزخرفة بزخارف سريانية وبيزنطية تعكس التأثيرات الفنية في تلك الفترة، أما الجدران الداخلية مطلية باللون الأبيض تتخللها أيقونات دينية تصور مشاهد من حياة المسيح والعذراء مريم والقديسين، بالإضافة إلى ذلك تمت إضافة جناح غربي جديد عام 1954 لتوسيع الكنيسة وزيادة استيعابها للمصلين.

وفي قلب الكنيسة يوجد المذبح الرئيسي وهو مصنوع من الحجر تعلوه أيقونة كبيرة للمسيح والعذراء، وفي البداية كان زنار العذراء محفوظًا ضمن جرن بازلتي داخل المذبح، لكنه نُقل عام 1953 إلى مزار صغير داخل الكنيسة لحمايته وعرضه للزوار، أما اليوم فالزنار محفوظ داخل صندوق زجاجي خاص مما يسمح للزوار برؤيته عن قرب والتبرك به.

أقدم كنائس العالم

اقرأ أيضًا: وادي النصارى… لؤلؤة خضراء تروي حكايات الزمن

البئر العجائبية في كنيسة أم الزنار

تحيط بكنيسة أم الزنار العديد من الروايات والأساطير المرتبطة بتاريخها المقدس، ومن بين هذه القصص قصة البئر العجائبية التي يقال إنها كانت موجودة داخل الكنيسة أو بالقرب منها، وبحسب ما تناقله الأهالي كان هناك بئر قديم داخل الكنيسة أو في محيطها وكان يُعتقد أنه ذو مياه مباركة، يُقال إن هذه المياه كانت تُستخدم للشفاء من الأمراض وإن العديد من المؤمنين كانوا يقصدونها للتبرك والاغتسال بها، معتقدين أنها تحمل قوى روحية مقدسة بسبب قربها من زنار السيدة العذراء الموجود في الكنيسة.

فيُقال أنه في حمص وفي عام 1903 تعرضت المدينة لمرض الطاعون الذي تسبب بوقوع عدد كبير من الوفيات، وفي تلك الفترة ظهر طيف السيدة العذراء على باب كنيسة أم الزنار ففاضت ماء البئر وانسكبت المياه في أرض الكنيسة ووصلت إلى الشوارع المحيطة بها، وبعد ذلك بدأ الأهالي بشرب الماء من البئر والكثير منهم شفوا ببركة السيدة العذراء.

كما تقول بعض الروايات تقول إن هذا البئر لم يكن ينضب ماؤه حتى في أوقات الجفاف، مما زاد من إيمان الناس بأنه يحمل بركة إلهية خاصة، ومع مرور الزمن وتجديد الكنيسة عدة مرات، قد يكون البئر قد أُغلق أو رُدم خلال عمليات الترميم خاصة خلال توسعة الكنيسة في عام 1954، ومع ذلك تبقى قصصه جزءًا من التراث الشعبي المسيحي في حمص.

كنيسة أم الزنار

أما اليوم فتواصل الكنيسة دورها الروحي والثقافي، حيث تُقام فيها الصلوات والقداديس، فبقيت شاهدة على عمق الإيمان والتاريخ العريق الذي مرّ على مدينة حمص، لتظل واحدة من أهم الكنائس في الشرق الأوسط وأكثرها ارتباطًا بالتراث المسيحي.

السابق
وادي النصارى… لؤلؤة خضراء تروي حكايات الزمن
التالي
زيب لاين الشاهين… تجربة لا تُنسى في أحضان الطبيعة السورية