في قلبِ حلب القديمة، حيث تعبق الأزقة برائحة التاريخ، وتتنفس الجدران عبق الحضارات، تنتصب كاتدرائية الأربعين شهيد حلب للأرمن الأرثوذكس كجوهرة معمارية وإرث روحي خالد، شاهدةً على قرون من الإيمان، والهوية، والوجود الأرمني في المدينة.
خلف جدرانها المزخرفة، تختبئ حكايات الشهداء الأربعين، وتنساب ترانيم الماضي عبر نوافذها المعنّقة للضوء، لتروي حكاية كنيسة تحولت إلى كاتدرائية، وذاكرة أصبحت جزءًا من وجدان حلب العريقة، أكمل معنا هذا المقال لتتعرف علي هذه الكاتدرائية أكثر.
الموقع الجغرافي وسبب التسمية
تتموضع كاتدرائية الأربعين شهيد حلب للأرمن الأرثوذكس في قلب حي الجديدة التاريخي ضمن مدينة حلب السورية، ويُعرف هذا الحي بطابعه المعماري التقليدي وأزقته الضيقة ومنازله الحجرية ذات الطابع الحلبي-العثماني، ويُعتبر الحي موطنًا للعديد من العائلات المسيحية الأرمنية والسريانية، ويضم عددًا من الكنائس الأثرية الأخرى.
كما وتبعد كاتدرائية الأربعين شهيد قرابة 1.5 كيلومتر شمال غرب قلعة حلب، ضمن نسيج معماري تقليدي، بالقرب من كنائس أخرى مثل كنيسة مار إلياس ومدرسة الشيباني، وإذا أردنا تحري الدقة أكثر في الموقع فيمكننا القول أنها تقع تحديدًا بالقرب من سوق الصوف، في منطقة الصليبة العريقة، التي تُعد إحدى أبرز أحياء المدينة القديمة بما تحويه من معالم دينية وتاريخية مميزة.
وتُعد الكاتدرائية من أبرز المعالم التي يرتادها السياح والباحثون في التراث الأرمني والسوري على حدّ سواء، خصوصًا في فترات الأعياد والمناسبات الدينية.
أما بالنسبة لتسميتها، فسُمّيت الكاتدرائية بهذا الاسم تيمنًا بالأربعين جنديًا الرومانيين من سيباستيا، الذين نالوا الشهادة في مدينة سبسطية (في تركيا الحالية) في القرن الرابع الميلادي، دفاعًا عن إيمانهم المسيحي وتمسكهم به.

اقرأ أيضًا: مدينة أفاميا الأثرية… مدينة الأعمدة الخالدة وسحر التاريخ
تاريخ الكاتدرائية وتوسعاتها عبر التاريخ
تعود أول إشارة موثقة لكاتدرائية الأربعين شهيد حلب إلى عام 1476، حيث تم ذكرها في مخطوطة دينية كتبها الأب ميليكسيت في حلب، مما يشير إلى وجودها في تلك الفترة، ويُعتقد أنها شُيدت على موقع كان يُستخدم كمقبرة مسيحية منذ القرن الرابع عشر، مما يبرز مكانتها الروحية والتاريخية العميقة.
ومرت الكاتدرائية بعدة مراحل من التوسعة والتجديد على مر العصور، ففي الفترة بين عامي 1499 و1500 تم توسيعها بفضل تبرعات من الوجيه الأرمني يسايي، مما أتاح لها استيعاب عدد أكبر من المصلين، ثم في عام 1616 خضعت كاتدرائية الأربعين شهيد حلب لإعادة بناء شاملة وتوسيع باتجاه الجنوب الغربي بتمويل من الأمير بيديك خوجا تشيليبي، أحد الشخصيات البارزة في المجتمع الأرمني بحلب، وفي عام 1624، تم إضافة بيت خاص للحجاج الأرمن الذين كانوا يأتون من أرمينيا ودول أخرى، مما يعكس دور الكاتدرائية كمركز ديني وثقافي هام.

الطابع المعماري للكاتدرائية
تتميّز كاتدرائية الأربعين شهيد حلب بطرازها المعماري الفريد الذي يعكس الطابع الأرمني التقليدي؛ حيث تتألف من ثلاث بلاطات متوازية دون وجود قبة، وهو نمط شائع في الكنائس الأرمنية.
وتتميز الكاتدرائية بواجهة مبنية من الحجر الحلبي التقليدي الذي يميل إلى اللون الأبيض والرمادي، مما يعكس أصالة البناء والتصميم المحلي، وتزين الواجهة بوابة خشبية قديمة محفورة بدقة، تحمل نقوشًا أرمنية وتاريخ تأسيس الكنيسة في عام 1429م، كما يوجد أمام الكنيسة ساحة صغيرة تُستخدم عادة للاحتفالات الدينية أو لتجمع المصلين قبل دخولهم إلى المكان المقدس.
أما برج الجرس، فقد أُضيف عام 1912، ويُعدّ نموذجًا بارزًا للعمارة الباروكية، مما أضفى على الكاتدرائية لمسة جمالية مميزة.
وتضم كاتدرائية الأربعين شهيد حلب مجموعة متميزة من الأيقونات العريقة، أبرزها أيقونة “الدينونة الأخيرة” التي رسمها الخوري نعمت الله بن الخوري يوسف، بالإضافة إلى أيقونات أخرى مثل أيقونة القديس جاورجيوس وأيقونة معمودية السيد المسيح التي تمثل مشهد تعميد يسوع على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن، حيث يعتبر هذا المشهد من أقدس المشاهد في الحياة المسيحية، لأنه يُظهر بداية رسالة يسوع للعالم، وكذلك أيقونة الأربعين شهيد حيث يُظهر المشهد أربعين جنديًا مسيحيًا عراة في بحيرة مجمدة، وهم يحتملون العذاب في سبيل إيمانهم،

في الختام، تُعد كاتدرائية الأربعين شهيد حلب الأرمنية رمزًا للثبات الديني والثقافي للأرمن في المنطقة، حيث أنها تشكل جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الروحي والثقافي للمدينة، ورغم التحديات الكثيرة التي مرَّت بها، من زلازل وحروب، تبقى الكنيسة شاهدًا حيًّا على الإيمان الأرمني والصمود في وجه الصعوبات عبر العصور.