تعد قلعة مصياف من أبرز المعالم التاريخية في سوريا، حيث تميزت بكونها رمزًا للثبات والقوة في وجه العديد من الغزاة والمحتلين، وتقع القلعة في مدينة مصياف التي تتبع محافظة حماة، وهي واحدة من أقدم وأهم الحصون التي أُقيمت في المنطقة على مر العصور، كما أن تاريخها طويل ومعقد ويمتزج فيه الأسطورة بالواقع، وتستعرض القلعة مختلف العصور التي مرت على سوريا، مما يجعلها مقصدًا سياحيًا وتاريخيًا بارزًا.
Contents
الموقع الجغرافي لقلعة مصياف
تقع قلعة مصياف في منطقة جبلية في غرب سوريا، على بعد حوالي 40 كيلومترًا من مدينة حماة و 60 كيلومترًا من مدينة اللاذقية، وتتربع القلعة على قمة تل متدرج الانحدار من الحجر الجيري الطبيعي بارتفاع حوالي 20 متراً، مما يمنحها إطلالة استراتيجية على المنطقة المحيطة، ويطل هذا الصرح العظيم على سهل الغاب، ويستفيد من موقعه الاستراتيجي كونه يتحكم في الممرات الجبلية التي تربط بين سواحل البحر المتوسط ومناطق الداخل السوري، حيث يُعتقد أن موقع القلعة كان حيويًا جدًا في العصور القديمة، حيث كان بمقدورها حماية الطرق التجارية الهامة والمناطق المحيطة بها.

اقرأ أيضًا: نواعير حماة… أسطورة الماء والتاريخ
التاريخ العريق للقلعة
يعود تاريخ قلعة مصياف إلى العصور القديمة، حيث تعتبر واحدة من أقدم القلاع في منطقة الشرق الأوسط، وتشير الأدلة الأثرية إلى أن القلعة قد أُنشئت في عام 44 قبل الميلاد أي إلى الفترة الرومانية، وشهدت هذه الفترة حينها بناء تحصينات ومواقع عسكرية للسيطرة على طرق البلاد الرئيسية.
وفي العهد البيزنطي، ازداد الاهتمام بالقلاع لتأمين سيطرة الدولة البيزنطية على مناطق آسيا الصغرى وبلاد الشام ومصر خاصة بعد الانفصال عن روما، حيث كانت القلاع تُستخدم كقواعد عسكرية لحماية الطرق الرئيسية التي تربط الساحل بالداخل، وتأمين مسالك التجارة والقوافل، مما أكسبها أهمية اقتصادية إلى جانب دورها العسكري، ولعل أبرز الطرق المؤمنة كانت تمر عبر وادي النصارى، قلعة صافيتا، أنطاكية، قلعة عكار، حمص، وحلب، ما جعل هذه القلاع مراكز استراتيجية للدفاع والسيطرة.
أمّا بعد الفتح العربي الإسلامي، فتبعت قلعة مصياف لمدينة حمص في العهد الأموي، ثم انتقلت تبعيتها إلى الطولونيين في مصر خلال حكم أحمد بن طولون، وازدادت أهمية القلعة في عهد الإخشيديين والحمدانيين نتيجة التنافس بين القوى المسيطرة على بلاد الشام ومصر، تلاها وفي عام 967م امتلكها الحمدانيون وذلك في عهد سيف الدولة، ثم سيطر عليها البيزنطيون بقيادة نقفور فوكاس عام 969م، قبل أن تنتقل إلى الفاطميين في عهد المعز لدين الله. لاحقًا، سيطر عليها بنو مرداس عام 1029م بعد تأسيس دولتهم في حلب، واستعادها الفاطميون ثم أصبحت تابعة لبني المنقذ أمراء شيزر عام 1081م.
تلا ذلك وفي بداية القرن الثاني عشر، أصبحت قلعة مصياف جزءًا من شبكة الحصون التي كانت تابعة للحشاشين، الذين كانت لهم علاقة وثيقة بالأسرة الفاطمية، وتعتبر الفترة التي حكم فيها الحشاشون من أكثر الفترات المثيرة للجدل في تاريخ القلعة، وخلال تلك الفترة تحولت القلعة إلى مركز قوي وصعب المراس ضد أي غزو، حيث تمت إضافة العديد من التحصينات والأسوار العالية التي كانت تجعلها واحدة من أكثر القلاع مناعة في المنطقة.
وفي عام 1258م اجتاح المغول بقيادة هولاكو مناطق الشام فتعرضت القلعة لبعض الأضرار، وبعد تحرير المنطقة من المغول قام المماليك بقيادة الظاهر بيبرس بترميم القلعة بشكل واسع، حيث أضافوا الشرفات الدفاعية وسورًا خارجيًا لحمايتها من أي هجوم محتمل.
ومع مرور الوقت، انتقلت القلعة إلى أيدي العثمانيين الذين عملوا على تطوير بنية القلعة وجعلها جزءًا من شبكة الدفاعات العثمانية في المنطقة، حيث استمرت القلعة في خدمة الأغراض العسكرية حتى الاحتلال الفرنسي لتشغل حينها حامية فرنسية وذلك بين عامي 1920 و 1946م.

اقرأ أيضًا: مغارة بيت الوادي (مغارة عاصي الزند)
التصميم وعمارة قلعة مصياف
تعد الهندسة المعمارية لقلعة مصياف مثالًا رائعًا على الفن الحربي والعسكري في العصور الوسطى، حيث يتكون تصميم القلعة من مجموعة من الأسوار المتينة التي تحيط بالقلعة من جميع الجهات، ولعل أهم ما يميز هذه الأسوار هو الأبراج الدفاعية التي كانت تُستخدم في مراقبة العدو وإطلاق النار عليه من مسافات بعيدة، بالإضافة إلى وجود الأبواب الضخمة والمداخل المتعرجة التي كانت تجعل من الصعب على القوات المعادية اقتحام القلعة.
وتتكون قلعة مصياف من حصن داخلي يقع في الجزء الجنوبي المرتفع من الهضبة ويأخذ شكلًا شبه مربع، وتنتشر على زواياه أبراج مستطيلة ذات مستويين دفاعيين، وتتوسطه باحة مكشوفة توفر التهوية والإنارة الطبيعية، كما يحيط بالحصن الداخلي سور علوي يغطي سطح الهضبة، وتعززه خمسة أبراج مستطيلة استنادية تزيد من تحصين القلعة، أما السور الخارجي فيطوّق الحصن الداخلي ويضم عددًا من الأبراج المستطيلة المزودة بمرامي سهام صغيرة لتعزيز الدفاع.
ويقع المدخل الرئيسي لقلعة مصياف في الزاوية الجنوبية الغربية من القلعة الخارجية، ويتكون من قاعتين كبيرتين متصلتين بممر طويل يمتد لمسافة 65 مترًا، حُفرت أجزاء منه في الصخر، وزُوّد من الجهة الغربية بمرامي سهام وأبراج دفاعية، وفي نهاية الممر توجد قاعة ثالثة كبيرة تُغلق الممر وتؤدي مباشرة إلى داخل القلعة، حيث كان يهدف هذا التصميم المعقد إلى تعزيز الدفاع عن القلعة وتأمين مداخلها ضد أي هجوم محتمل، أما الممر الثاني لقلعة مصياف فيتجه جنوبًا حتى يمر من خلال باب حفر في الصخر ويؤدي بذلك إلى القسم العلوي من القلعة عبر درج بُني من الصخور.
وفي أوائل القرن الثالث عشر، بُني قصر في القسم العلوي من القلعة الداخلية، حيث تميز ببوابة مزخرفة تحمل نقشًا يعود إلى كمال الدنيا والدين الحسن بن مسعود عام 1226م، ولتعزيز الدفاع أضيف باب أصغر أمام المدخل الرئيسي وأقيمت منطقة محصنة ضمت حمامًا شُيد في منتصف القرن الثالث عشر، واستُخدم حتى الغزو التتري عام 1401م.
بعد تحرير القلعة من المغول، قام المماليك في عهد الظاهر بيبرس بترميم المدخل، وأضافوا شرفات دفاعية متسلسلة على الجهتين الجنوبية والشرقية، أما في أواخر القرن الثامن عشر فأصبحت القلعة مقرًا لأسرة حاكمة من الدولة الإسماعيلية النزارية، وبُني بيت الأمير مصطفى الملحم في الجهة الشرقية عام 1793م، ثم ازدادت المساكن العامة فيها، لاحقًا ومع وصول الانتداب الفرنسي شغلت القلعة حامية فرنسية لفترة وجيزة، وتم خلالها إنشاء الطريق الدائري المحيط بالقلعة الذي لا يزال موجودًا حتى اليوم.
وتضم القلعة أقبية وخزانات للمياه أحدها حُفر في الصخر أما الثاني فقد طليت جدرانه بطبقة عازلة، كما تضم أيضًا غرف تموين وإسطبلات خيول، ومن الجدير بالذكر أن قلعة مصياف تتكون من ستة طوابق حيث أن الطوابق السفلية محفورة في الصخر وهي التي تضم الأقبية والأجنحة السكنية؛ أما الطوابق الثلاثة التالية فتضم الحمامات والأسواق والإسطبلات، أما الطابق السادس فكان مخصصًا لتربية الحمام الزاجل الذي كان يُستخدم لإيصال الرسائل بين القلاع.

اقرأ أيضًا: قصر العظم في دمشق
التنقيبات الأثرية في قلعة مصياف
أجرت بعثات أثرية سورية وأجنبية تنقيبات في قلعة مصياف، كشفت عن معالم مهمة تسلط الضوء على تاريخها وتطورها العمراني، ومن أبرز هذه الاكتشافات شبكة الأنفاق والممرات السرية والتي يُعتقد أنها استُخدمت كممرات هروب أثناء الحصار، بالإضافة إلى غرف وأقبية غير معروفة سابقًا، كما تم العثور على برج دفاعي مدخله من “السوق الطويل” والذي يحتوي على ثلاث فتحات للرمي وفتحة أرضية يُعتقد أنها مخرج نجاة سري يؤدي إلى خارج القلعة.
كما عُثر على حمام أثري في مدخل القلعة الخارجي، يمتد بعض أجزائه تحت الدرج الصاعد إلى القلعة، مما يدل على تطور البنية التحتية والخدمات المقدمة في القلعة خلال الفترات الإسلامية، بالإضافة إلى ذلك فقد تم العثور على مجموعة من العملات المعدنية والأواني الخزفية التي تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي.
ومن الجدير بالذكر أنه قد جرت عمليات الترميم في القلعة عام 2000 بالتعاون مع مؤسسة الآغا خان للثقافة والتراث، حيث تم إزالة أطنان من الأنقاض، مما أدى إلى اكتشاف حجرات وممرات وعملات وخزف يعود للقرن الثاني عشر الميلادي.

في الختام، وبين أسوارها الشاهقة وممراتها السرية، ستجد نفسك تسير على خطى فرسان وأمراء، وستشعر بروح الماضي تهمس في زواياها، إن زيارتك لقلعة مصياف تعني الغوص في تجربة فريدة تجمع بين التاريخ العريق والمناظر الخلابة، حيث يلتقي الحجر الصلب مع جمال الطبيعة المحيطة. فإذا كنت من عشاق الاستكشاف والمغامرة، فلا تفوت فرصة زيارة هذا المعلم الأثري الساحر.