بوابة سوريا

قلعة صلخد في السويداء… أسطورة من البازلت تحكي مجد الجنوب

صلخد

في عمق الجنوب السوري، تتربع قلعة صلخد في السويداء شامخة على قمة تلة بركانية تُطل على المدينة التي تحمل الاسم ذاته، هذه القلعة ليست مجرد أحجار مرصوفة منذ قرون، بل هي حكاية صامدة تروي فصولًا من الصراعات والانتصارات والعصور التي مضت، تاركة أثرها في حجارتها البازلتية السوداء، الشاهدة على تعاقب الزمن.

وما إن تقترب منها حتى تشعر وكأنك تدخل بوابة الماضي، فتسمع صدى خطوات الفرسان، وصرير الأبواب، وهمسات التاريخ الذي عبر من هناك.

في هذا المقال، سنغوص معًا في أعماق قلعة صلخد، منذ نشأتها، مرورًا بتطورها، وصولًا إلى قيمتها الأثرية والمعمارية والسياحية.

الموقع الجغرافي لقلعة صلخة

تقع قلعة صلخد في السويداء، جنوب سوريا وتحديدًا في مدينة صلخد التاريخية التي تبعد نحو 35 كيلومترًا عن مركز المحافظة، وبُنيت القلعة على تل بركاني وعر، يرتفع حوالي 1450 مترًا فوق سطح البحر، ما منحها موقعًا استراتيجيًا فريدًا مكّنها من الإشراف الكامل على الطرق والمسارات القادمة من سهل حوران والبادية السورية.

وتتميّز قلعة صلخد في السويداء بإطلالة بانورامية خلابة على سهل حوران من الغرب والشمال، ذلك السهل الزراعي الواسع الذي لطالما كان ممرًا مهمًا للقوافل عبر التاريخ، أما من الجهة الجنوبية الشرقية، فتمتد الرؤية إلى منحدرات السويداء وتخوم البادية السورية، مما أتاح متابعة حركة القبائل والمسافرين من عمق الصحراء.

وفي الأيام الصافية، يمكن من أعلى قلعة صلخد في السويداء رؤية أجزاء من الأراضي الأردنية جنوبًا، بفضل موقعها المرتفع، وعليه فإن هذا الامتداد البصري الواسع أضفى على القلعة قيمة استراتيجية كبرى، وجعلها تتجاوز كونها مجرد حصن إلى أن تكون برج مراقبة يربط بين الجبل والسهل والبادية، في لوحة جغرافية فريدة من نوعها.

السويداء

اقرأ أيضًا: موقع عمريت الأثري في طرطوس: درّة الحضارة الفينيقية

تاريخ قلعة صلخد

بدأت الحكاية التاريخية لصلخد مع العرب الأنباط، الذين دخلوا المنطقة بعد معارك حاسمة مع اليونانيين السلوقيين، وتمكنوا من الانتصار عليهم في موقعة “موثو” عام 88 قبل الميلاد جنوبي المدينة.

وبمجرد استقرارهم، شرعوا ببناء معابد لآلهتهم، وعلى رأسها معبد الإلهة “اللات”، كما أقاموا حصنًا أوليًا على إحدى الهضاب الصخرية المنيعة، واضعين بذلك اللبنة الأولى لحضور عسكري استراتيجي في المنطقة.

لكن الشكل المعماري الحقيقي لقلعة صلخد لم يتبلور إلا في العصر الفاطمي، وتحديدًا في عهد الخليفة المستنصر بالله (1036–1094م)، الذي أمر عام 1073م بإنشاء حصن متين على ذات الهضبة، ليصبح مع مرور الزمن نواةً لقلعة عسكرية محصنة.

ومع نهاية القرن الحادي عشر، دخلت القلعة مرحلة جديدة من تاريخها، حين استلم مقاليدها العاهل السلجوقي تتش بن ألب أرسلان (1078–1095م)، لتبدأ فترة من التنافس على السيطرة والانفتاح على العصور الإسلامية المتعاقبة.

وفي القرن الثاني عشر، وتحديدًا عام 1176م، سيطر صلاح الدين الأيوبي على صلخد، وضمّها إلى سلطته بعد انتصاره في معركة حطين عام 1187م، لتصبح القلعة واحدة من النقاط الدفاعية الهامة ضمن خارطة الدولة الأيوبية.

ولم يتوقف الاهتمام بها عند هذا الحد، ففي عام 1204م عزز الملك العادل أبو بكر تحصيناتها، وأقام سورًا جديدًا حولها، وعيّن زين الدين قراجا الصالحي حاكماً عليها.

وفي عام 1207م، تولّى الحكم ناصر الدين يعقوب، إلى أن دخلت القلعة عصرًا ذهبيًا خلال حكم القائد عز الدين أيبك المعظمي (1214–1247م)، حيث شهدت توسعة كبيرة وتجديدات عمرانية ومعمارية لافتة.

وتوّج هذا الاهتمام لاحقًا في عام 1249م، عندما قام الصالح نجم الدين أيوب بتوسيعها وتحصينها مجددًا، لتبقى صلخد حاضرة بقوة في مشهد التاريخ العسكري العربي لقرون قادمة.

بعد انقشاع غبار المعارك مع المغول وانتصار المماليك في معركة عين جالوت، دخلت قلعة صلخد مرحلة جديدة من تاريخها في ظل الحكم المملوكي، حيث خضعت لسلطة السلطان الظاهر بيبرس (1260–1277م)، الذي أولى القلعة اهتمامًا خاصًا، فأمر بترميمها وتعزيز دفاعاتها.

وتعاقب على إدارتها عدد من القادة البارزين، من أبرزهم السعيد بركة خان، والسلطان قلاوون الذي سلّم زمام القلعة إلى سيف الدين باسطي، لتظل قلعة صلخد في السويداء آنذاك مركزًا عسكريًا هامًت في الجنوب السوري.

غير أن استقرارها لم يدم طويلًا، ففي عام 1409م، ضربت القلعة موجة من الدمار في عهد السلطان المملوكي الناصر فرج بن برقوق، فتصدعت جدرانها وتراجعت مكانتها، لتدخل بعدها في طور من النسيان والانحسار.

ومع مطلع القرن السادس عشر، وتحديدًا عام 1517م، دخلت قلعة صلخد في السويداء تحت الحكم العثماني، لكنها فقدت دورها العسكري تدريجيًا، وهُجرت قرابة قرنين من الزمن، بعد أن تحوّلت إلى أطلال تروي فصول الماضي.

لكن القلعة لم تُطوَ في صفحات التاريخ، إذ عادت لتشهد حياة جديدة في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، عندما قدم إليها السكان الحاليون من لبنان وفلسطين، وأعادوا الحركة إلى أروقتها.

ثم ما لبثت أن تحولت إلى مقر للقوات الفرنسية خلال فترة الانتداب بين عامي 1920 و1946، لتصبح شاهدًا صامتًا على تحولات كبرى شهدتها المنطقة عبر العصور.

اليوم، تُعد قلعة صلخد في السويداء موقعًا أثريًا، ورغم تعرضها للإهمال، لا تزال صامدة بهندستها الأصلية، وتشكل مقصدًا للباحثين والزوار والمهتمين بتاريخ المنطقة.

الجنوب السوري

اقرأ أيضًا: الجامع العمري في درعا… أحد أقدم جوامع بلاد الشام

العمارة والبناء: سحر البازلت الأسود

تعتمد قلعة صلخد في السويداء في بنائها على الحجر البازلتي الأسود، الذي يُعتبر جزءًا من هوية المنطقة الجغرافية، حيث أن هذا الحجر معروف بصلابته الكبيرة وقدرته الفائقة على مقاومة عوامل التعرية، يُحيط بالقلعة في شكل جدران وأسوار متينة، مما يمنحها طابعًا معماريًا قاسيًا يتناغم مع دورها الدفاعي الهام.

وقد اختار البناؤون في تصميم القلعة الطراز العسكري الإسلامي الذي ازدهر في العهدين الأيوبي والمملوكي، مع لمسات فنية تتكيف بذكاء مع التضاريس البركانية للطلة التي تُشرف عليها.

وكشفت أعمال التنقيب التي نفذتها دائرة آثار السويداء في الجهة الغربية من قلعة صلخد في السويداء عن فتحة حجرية مربعة الشكل بقطر متر واحد، تؤدي من خلال أدراج وأبواب منحوتة بدقة إلى مجموعة من القبور المبنية بعناية تحت سطح الأرض، يعلوها محراب يتجه نحو الجنوب.

وقد تم العثور داخلها على شاهدة قبر نقشت عليها العبارة: “بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا قبر الأمير ناصر الدين بن الأمير سيف الدين قراجة”، وهو ما يؤكد ما ورد في المصادر التاريخية من أن ناصر الدين قراجة كان حاكمًا لقلعة صلخد في السويداء في عهد الملك العادل ما بين عامي 1201 و1207 ميلادية، وتبعه ابنه ناصر الدين يعقوب قراجة حتى عام 1214 ميلادية.

من جانب آخر، أثبتت الدراسات الأثرية الاستخدام المتكرر لهذا الموقع على مرّ العصور النبطية والرومانية والغسانية، ويؤكد ذلك وجود السرج الفخارية العائدة لتلك الفترات، بالإضافة إلى بعض القطع النقدية الرومانية التي حُددت تواريخها بدقة.

في عام 1981، قام الباحث الألماني ميشيل ماينكه بدراسة القلعة وآثارها الإسلامية.

بالإضافة إلى ذلك، أوضح الباحثون أن أعمال السبر التي نفذتها دائرة آثار السويداء داخل قلعة صلخد في السويداء، وتحديدًا في المقبرة المجاورة لها، أسفرت عن اكتشاف تسع درجات حجرية بمحاذاة أحد جدران القلعة، يُرجّح أنها تؤدي إلى الباب الرئيسي للقلعة.

وتُعد قلعة صلخد في السويداء من أبرز المعالم التاريخية في المنطقة، حيث يحيط بها خندق ضخم مبني بالحجارة يزيد عرضه عن عشرة أمتار وعمقه يقارب الستة أمتار، ما يعكس طابعها الدفاعي المتقن.

كما تنتشر فيها أبراج مربعة ودائرية صُمّمت بعناية لتغطي جميع الاتجاهات في عمليات المراقبة، إلى جانب شبكة من الغرف والمستودعات المرتبطة بدهاليز وأنفاق وأبواب نُقش على جوانبها رسومات سهمية تشير إلى استخداماتها.

ومن الاكتشافات اللافتة داخل قلعة صلخد في السويداء حجر أثري ضخم يحمل نقشًا يتضمّن اسم “سلخت” أو “صلخد”، بالإضافة إلى رقم أثري موثق بالقرب من مدخل القلعة يحتوي على نص مؤطر يرجع تاريخه إلى عام 147 ميلادية، مما يعزز من القيمة التاريخية لهذا الموقع العريق.

آثار صلخد

وعليه، يمكننا تصنيف أقسام قلعة صلخد في السويداء إلى ما يلي:

السوران الدفاعيان

السور الأول مهدّم حاليًا، وتبقى منه آثار واضحة في الجهة الجنوبية الشرقية من القلعة، أما السور الثاني فيشكّل الهيكل الخارجي للقلعة، وصُمّم بنصفينالنصف السفلي مائل نحو الداخل والنصف العلوي شاقولي مستقيم للأعلى، ويحتوي على كوى مستطيلة شاقولية دقيقة التوزيع خُصصت لرماة السهام، كما أن تقاطع النصفين يعطي للناظر إيحاءً بأن الجدار مائل على وشك الانهيار، وهو أسلوب معماري حربي ذكي استخدمه العرب القدماء كخدعة لردع العدو.

النقوش والزخارف

نُحتت حجارة قلعة صلخد في السويداء الأصلية بدقة عالية، وحُفرت على بعضها نقوش كتابية وتأريخية، إلى جانب زخارف تصويرية لحيوانات ونباتات، مثل صورة الأسد وعناقيد العنب، وهي رموز تعكس فترات الازدهار التي عرفتها المدينة.

المنشآت الداخلية والخارجية

تُحاط قلعة صلخد في السويداء بعدة حصون، تتضمن من الداخل صالات، حمّامات، واسطبلات للخيل، كما حُفر بجوارها خندق حربي بطول يقارب 25 متراً، ما يعزز من طابعها الدفاعي.

الهيكل الداخلي

يتكوّن الهيكل الداخلي لقلعة صلخد في السويداء من عدد كبير من القاعات المتنوعة في مساحاتها، يحمل بعضها طابع الغموض لاحتوائه على ممرات سرية تؤدي إلى أماكن لم تُكشف بالكامل حتى اليوم، ما يعكس البعد الدفاعي والتكتيكي في تصميم القلعة، أما مصادر مياه الشرب فيها، فقد تنوعت بين خزان المدينة الكبير، وخزانات داخلية خاصة يُستدل على وجودها من خلال فتحات منتشرة على الجدران الخارجية، إلى جانب آبار حفرت حول القلعة، والتي باتت اليوم جزءًا من النسيج العمراني المحيط بها.

قلعة صلخد في السويداء

قلعة صلخد في السويداء ليست مجرد حصنٍ قديم، بل رمزٌ خالدٌ للمجد والكرامة. شامخة فوق جبال السويداء، تروي عبر حجارتها قصص البطولة والعز، وتبقى شاهدًا حيًّا على عراقة الماضي وأصالة الأرض وأهلها.

السابق
امارة الشارقة
التالي
في حضرة الزهد… دير القديس سمعان العمودي كما لم تعرفه من قبل