بوابة سوريا

قلعة شيزر

سوريا

في قلب سوريا، حيث ينساب نهر العاصي بين التلال الخضراء، تقف قلعة شيزر كشاهد صامت على قرون من التاريخ والأساطير، حيث أنها أكثر من مجرد صخور وأبراج بل هي قصة محفورة في الزمن، تحكي عن فرسان شجعان، حروب طاحنة، وحضارات متعاقبة تركت بصماتها على جدرانها، وللتعرف أكثر على هذه القلعة التاريخية إليكم هذا المقال.

الموقع والأهمية الاسترتيجية

تقع قلعة شيزر على بعد حوالي 30 كيلومترًا شمال غرب مدينة حماة، وتتمركز فوق هضبة صخرية تشرف على وادي العاصي مما منحها موقعًا دفاعيًا مثاليًا، ويحيط بها نهر العاصي من ثلاثة جهات ما جعلها حصينة يصعب اختراقها، كما تتمركز قلعة شيزر على جرف صخري بارتفاع أكثر من 40 متر عن محيطها الغربي وتمتد بطول 450 متر، ومن الجهة الجنوبية تفصلها قناة عميقة عن السفح الصخري المجاور، بينما يحيط بها نهر العاصي من الشرق مشكلاً حاجزاً طبيعياً يشبه الخندق، ويستمر هذا الامتداد شمالًا ليعزز دفاعاتها مما يجعل القلعة تبدو كأنها شبه جزيرة، كما أضيف خندق صناعي غربًا ليزيد من تحصينها وعزلها عن الجرف الصخري، مما جعلها حصنًا منيعًا طبيعيًا ومبنيًا في آنٍ معًا، هذا الموقع الاستراتيجي جعل القلعة نقطة صراع بين العديد من القوى، بدءًا من الآشوريين والرومان، وصولًا إلى البيزنطيين والعرب والصليبيين.

وذُكرت شيزر في النقوش الهيروغليفية المصرية للأسرة الثانية عشرة في عهد أمنحوتب الثاني، كما وردت في سجلات الأسرة الثامنة عشرة خلال حكم تحوتمس الثالث في القرن الـ15 ق.م تحت اسم شنزار، أما في الكتابة المسمارية الأكادية ضمن رقم تل العمارنة فسُجلت باسم زنزار، بينما أطلق عليها الإغريق اسم سدزارا، كما ورد اسم القلعة بين أسماء المدن السورية القديمة باسم سيزار وسنزار، وقد سميت في العهد السلوقي باسم لاريسا ولكن السوريون أعادوا الاسم القديم باسمها الحالي شيزر ويسميها السكان المحليون باسم سيجر.

وكانت قلعة شيزر بفضل موقعها القلعة بمثابة خط دفاعي متقدم ضد الغزوات القادمة من الشمال، كما كانت محطة مهمة على الطريق التجاري الذي يربط بين الداخل السوري وساحل البحر الأبيض المتوسط، لذا لم تكن مجرد قلعة عسكرية بل كانت مركزًا اقتصاديًا وتجاريًا مهمًا في العصور الوسطى.

قلعة شيزر

اقرأ أيضًا: الغابة الاستوائية في طرطوس

تاريخ القلعة

تُعد قلعة شيزر من أقدم القلاع في سوريا، حيث يعود تاريخها إلى الفترة السلوقية في القرن الرابع قبل الميلاد، كما تعاقبت عليها عدة حضارات، بدءًا من الرومان والبيزنطيين الذين استخدموها كحصن استراتيجي لحماية طريق أنطاكية – الداخل السوري، وصولًا إلى الفتح الإسلامي بقيادة أبي عبيدة بن الجراح عام 638م، حيث انتزعها العرب من البيزنطيين الذين حاولوا استعادتها مرارًا دون جدوى.

وفي القرن الحادي عشر، منح صالح المرداسي حكام بني منقذ سلطة على المناطق القريبة من شيزر وكانت القلعة آنذاك تحت سيطرة البيزنطيين، لكن في عام 1081م تمكن سديد الملك علي بن مقلد من الاستيلاء عليها، مؤسسًا إمارة بني منقذ في وسط سوريا، برزت القلعة خلال الحروب الصليبية، حيث خاض أمراؤها معارك ضد الفرنجة في أفاميا.

أما في عام 1157م فقد ضرب زلزال مدمر قلعة شيزر، مما أدى إلى مقتل أغلب أفراد أسرة بني منقذ، ولم ينجُ منهم سوى أسامة بن منقذ الذي كان في دمشق آنذاك، لاحقًا أعاد نور الدين زنكي بناء القلعة وعيّن عليها مجد الدين بن الداية، لكنها تعرضت لدمار آخر إثر زلزال عام 1170م.

و كان موقع القلعة على خط المواجهة بين المسلمين والصليبيين، مما جعلها هدفًا مستمرًا للحملات الصليبية في أكثر من مناسبة، حيث حاول الصليبيون الاستيلاء عليها بسبب موقعها الاستراتيجي، لكنها بقيت صامدة بفضل دفاعاتها القوية وصمود حاميتها، ولعل أبرز المحاولات الصليبية لاحتلال القلعة كانت خلال الحملة التي قادها ريموند دي بواتييه أمير أنطاكية، لكن القلعة صمدت أمام حصاره ولم يتمكن الصليبيون من السيطرة عليها.

تلاها وفي عام 1260م حيث استولى الملك العزيز سلطان حلب على الحصن وبقي صامدًا بعد الاجتياح المغولي، ثم قام الظاهر بيبرس عام 1261م بإعادة تحصينه، لاحقًا دخلت القلعة تحت حكم المماليك ووهبها السلطان قلاوون للأمير سنقر الأشقر عام 1280م لمدة عام واحد، ومع دخول العثمانيين بدأت القلعة تفقد أهميتها العسكرية تدريجيًا، وتحولت إلى قرية سكنية مع نهاية الحكم العثماني، وفي القرن العشرين تم إخلاء القلعة بالكامل، لتبقى أطلالها شاهدةً على تاريخها الحافل بالحروب والتحولات السياسية.

قلعة شيزر

اقرأ أيضًا: أبواب دمشق السبعة، حراس الزمن وسفراء التاريخ

تصميم القلعة وهندستها المعمارية

تتميز قلعة شيزر بتصميمها المعماري القوي الذي يجمع بين التحصينات الدفاعية والهندسة الحربية الذكية، حيث تأخذ شكلًا مستطيلًا غير منتظم، وتتكون من عدة أقسام ومستويات مما يعكس طبيعتها العسكرية، ويحيط بها سور ضخم مدعم بأبراج مراقبة وأبواب حصينة، وقد تم تصميم السور ليكون صعب الاختراق، وأول ما يلفت نظر الزائر عند زيارة هذه القلعة الرائعة هو الدرج الحجري الذي يقوم إلى مدخلها الرئيسي من الجهة الشمالية، حيث بني الدرج على جسر حجري طوله أكثر من 80 مترًا، وكان في الماضي عبارة عن جشر خشبي يرتكز على طبقتين من القناطر، ويربط بين منسوب أرضية المدينة ومنسوب القلعة، بحيث ينتقل الزائر بآمان من الطريق المعبد إلى بوابة القلعة.

أما الباب مستطيل الشكل فيعلوه قوس منكسر تعلوه أيضًا كتابة عربية تذكر اسم الملك قلاوون الصالحي سنة 689 م، ويحيط به مرميان للسهام وبقايا شرفة، كما تحيط بالباب كتلة هرمية مائلة من حجارة كلسية ضخمة تستند إلى قواعد الجرف الصخري مما يعزز متانة البناء، وعند العبور من الباب يوجد ممر معقود على جانبيه محارس تحوي أدراجًا تقود إلى الطابق الثاني من الأبراج الدفاعية، ويمتد هذا الممر داخل قلعة شيزر حتى يصل إلى البرج الجنوبي المعروف بـ “برج عرف الديك”، وبنيت أسوار قلعة شيزر من الحجر الكلسي واستندت على قاعدة صخرية كما لها عددًا مهمًا من الأبراج لعل أهمها:

  • براج المدخل: والذي يقوم على قمة الكتلة الهرمية وفوق المدخل وكانت مهمته حماية المدخل، والذي جدد في العصر الأيوبي ومن ثم طرأ عليه ترميم بسيط في العصر المملوكي، كما نقشت عليه كتابة تنسب تجديده إلى السلطان قلاوون 1290م.
  • البرج الغربي: والذي يطل على نهر العاصي من الغرب ويبلغ علوه طابقين حيث توجد مرامي للسهام في الطابق الثاني، ومن الجدير بالذكر أنه قد تهدم منه الجزء الداخلي، واستخدم في بناء هذا البرج الحجر الكلسي الكبير الحجم.
  • البرج الجنوبي: وهو كتلة في غاية الروعة والجمال كما أنه بني على مرحلتين ويتميز بمدخل شمالي يطل على الشرق، مرتبط بدرج يقود إلى الطوابق العليا، أما سقوفه المعقودة فتستند إلى قواعد مريعة ضخمة، ويتوسطه قاعة واسعة تطل على مرامي سهام رائعة التصميم، ففي الطابق الثاني توجد شرفة غربية مخصصة لرمي السهام، بينما يطل جداره الجنوبي على الخندق مما يمنحه مظهرًا شامخًا، ومنيعًا ومن الجدير بالذكر أن البرج الجنوبي قد تم تجديده في العصر الأيوبي كما حفر على واجهته نصوص تنسب بنائه إلى الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي عام 1232
قلعة شيزر

وتتداخل داخل قلعة شيزر المباني العثمانية المتأخرة، التي كانت مأهولة في بداية القرن الماضي، مع بقايا الأقبية والجدران العائدة للقرون الوسطى، مما يعكس تناغم العصور في بنية القلعة، وتضم كذلك قلعة شيزر سردابًا سريًا بطول 75 مترًا مصممًا بتعاريج هندسية على شكل خط منكسر، يربط القلعة مباشرة بنهر العاصي دون أن يُكشف للعيان، حيث بُني السرداب من الحجر وسُقِف بعقود متينة، ويوجد داخل القلعة مذبح بازلتي دائري بقطر 85 سم يحيط به إكليل جبلي بارز برأسي عجل، ويُعتقد أنه كان مخصصًا لعبادة الإله أكليكو أجلبولوس أو عجلبعل، كما تحتوي القلعة على مذبح آخر يحمل نقشًا يونانيًا يعود لعام 298 ق.م، إضافة إلى حجر بازلتي منقوش وعدد من المباني التي تعود إلى أواخر العهد العثماني، عندما كانت القلعة لا تزال مأهولة بالسكان، كما تشتهر القلعة بوجود ناعورة شيزر التي كانت الوحيدة خارج مدينة حماة ضمن مجموعة 100 ناعورة، لكنها تعرضت للخراب بفعل الزمن، مما جعلها أثرًا تاريخيًا بارزًا في المنطقة.

أما اليوم فيسود الخراب معظم أجواء قلعة شيزر ولكن مخططها العام ما زال واضح المعالم ولا يزال مدخلها في حالة جيدة.

السابق
بني سويف
التالي
محافظة الفيوم