بوابة سوريا

قلعة المرقب

آثار طرطوس

تُعد قلعة المرقب واحدة من أعظم القلاع التاريخية في الشرق الأوسط من حيث التحصينات العسكرية والهندسة المعمارية، حيث تقف شامخة على تلةٍ مرتفعةٍ قرب مدينة بانياس في محافظة طرطوس السورية، وترتفع حوالي 360م مطلّة بذلك على البحر الأبيض المتوسط بإطلالة خلابة تجمع بين الجمال الطبيعي والموقع الاستراتيجي الحصين، كما وتبعد حوالي 55 كم جنوبي محافظة اللاذقية. هذه القلعة ليست مجرد بناء حجري، بل هي سجل حيّ للأحداث التاريخية التي مرت بها المنطقة، بدءًا من العصر البيزنطي مرورًا بالحملات الصليبية وحتى السيطرة المملوكية والعثمانية.

كما تتميز بتحكمها بالطريق الساحلي القديم أنطاكية-طرابلس والطرق الداخلية المؤدية إلى القدموس ومصياف، ويحد القلعة من الشرق سلسلة من الجبال والوديان، أما في الجهة الجنوبية الغربية فتتوالى الارتفاعات والمنخفضات وصولًا إلى سطح البحر.

تاريخ قلعة المرقب

عُرفت القلعة عند اللاتين باسم “مارغات” وأطلق عليها اليونانيون اسم “ماركابوس” والبيزنطيون “مارغانت”، أما العرب فسموها ب” قلعة المرقب”.

يُقال أن أول من بنى قلعة المرقب هم العرب المسلمون وتحديدًا أول من بناها هو شيخ القبائل العربية الجبلية رشيد الدين بن سنان في عام 1062م، ليستولي عليها البيزنطيون فيما بعد، حيث يُعتقد أنها كانت تستخدم كنقطة مراقبة استراتيجية لحماية الساحل السوري من الهجمات البحرية والبرية، وبفضل موقعها المرتفع كانت القلعة توفر رؤية واضحة تمتد لعشرات الكيلومترات، مما جعلها نقطة دفاعية حيوية، وفي القرن الثاني عشر استولى فرسان الإسبتارية (فرسان القديس يوحنا) على القلعة عام 1186م، وقاموا بتطويرها وتحصينها بشكل كبير مما جعلها واحدة من أقوى القلاع الصليبية في الشرق الأوسط، وبنى الفرسان أسوارًا ضخمة وأبراجًا عالية، وخزانات مياه تضمن صمودها لفترات طويلة أثناء الحصار.

في عام 1285م قاد السلطان قلاوون حملة قوية ضد القلعة مستخدمًا المنجنيقات والأسلحة الثقيلة، وبعد معركة استمرت قرابة الشهر سقطت القلعة بيد المماليك وقام السلطان بتطويرها وإضافة مسجد فيها، واستخدمها كنقطة دفاعية متقدمة ضد أي محاولات صليبية لاستعادة المنطقة، واستمرت القلعة تحت السيطرة العثمانية لفترات طويلة، لكنها فقدت أهميتها العسكرية مع تطور الأسلحة النارية والمدافع الحديثة، ومع مرور الزمن تحولت إلى موقع أثري يجذب المؤرخين والسياح من مختلف أنحاء العالم.

سياحة تاريخية

اقرأ أيضًا: غابة النبي متى… واحة في قلب الدريكيش

الهندسة المعمارية لقلعة المرقب

تتميز قلعة المرقب بتصميم معماري متين يعتمد على الحجارة البازلتية السوداء، وهو ما منحها مقاومة عالية لعوامل الطبيعة والحروب، كما استخدمت الحجارة الكلسية البيضاء على بعض الفتحات والمداخل، ويبلغ ارتفاع القلعة حوالي 370 مترًا فوق سطح البحر، مما يجعلها في موقع يصعب الوصول إليه بسهولة و موقعًا استراتيجيًا ممتازًا.

تحاط القلعة بأسوار ضخمة مدعومة بـ أبرج دفاعية مستديرة صُممت لمقاومة الهجمات الطويلة، ومزودة بفتحات خاصة لرمي السهام وسكب الزيت المغلي على المهاجمين، كما تتألف من قلاع مشيدة على مرتفعات شديدة الانحدار، وتضم القلعة خندقًا عميقًا يساعد في عزلها عن أي اقتحامات مباشرة، وتشبه بهذا الطراز حصون السين واللور في أوروبا في القرنين الحادي والثاني عشر.

تتألف قلعة المرقب من جزئين رئيسيين: الجزء الأول هو “القلعة الداخلية” التي تقع على القمة الجنوبية للمرقب، وهي محاطة بجدارين من الأسوار، وتحوي برجًا دائريًا في وسطها هذا البرج متصل بأبنية ذات قاعات مقنطرة مما يعكس القوة والهندسة المعمارية المتقدمة في تلك الفترة، أما الجزء الثاني فهو “القلعة الخارجية” التي تعتبر أكبر حجماً، وتشمل هذه القلعة الأبنية السكنية والبرج الرئيسي والكنيسة وكلها محاطة بسور خارجي مزدوج، ويحيط بالسور 14 برجًا دائريًا ومربعًا أكبرها هو البرج الجنوبي، الذي يقع على الجهة الأضعف في القلعة من الناحية الدفاعية، والذي كانت مهمته الأساسية حماية الجهة الجنوبية من الهجمات، كما كان يتم الفصل بين الجزئين عبر قناة مائية، والتي كانت تضيف طبقة من التحصين ضد أي محاولات اقتحام.

ساحل بانياس

اقرأ أيضًا: مقهى النوفرة، قصيدة مكتوبة على فنجان قهوة

آثار قلعة المرقب المعمارية

لقلعة المرقب آثار ومعالم تاريخية تقف شاهدة على كل ما مرت به من عصور وشعوب وحضارات ولعل أبرزها:

  1. قاعة الفرسان: وهي قاعة كبيرة كانت تستخدم لاجتماعات فرسان الإسبتارية كما كانت تستضيف الفرسان الذين كانوا جزءًا من الحامية العسكرية التي تحمي قلعة المرقب، وتتميز القاعة بتصميمها الفريد حيث تتسم بجدران مقوسة وقناطر حجرية ضخمة، ما يعكس مدى القوة الهندسية التي كان يتمتع بها المعمار في تلك الفترة، بالإضافة إلى ذلك فهي كانت توفر مساحة واسعة، مما يسمح بالعديد من الفرسان بالتجمع معًا.
  2. الكنيسة البيزنطية: وهي واحدة من أقدم المباني داخل القلعة، وتمثل الطابع الديني الذي كان سائدًا في الفترات الأولى من استخدامها، وتم بناء الكنيسة في القرن الثاني عشر، وكان هدفها تلبية احتياجات الجنود والحامية المسيحية التي كانت تسيطر على القلعة في تلك الفترة، وتتميز الكنيسة بتصميم بيزنطي كلاسيكي، حيث تتسم بالبساطة والوقار مع استخدام الحجر الأبيض والزخارف الهندسية التي كانت شائعة في العمارة البيزنطية، ويحتوي المبنى على صحن رئيسي وأعمدة تحمل القناطر، كما يتواجد فيها بقايا للزخارف الجدارية التي كانت تزين الجدران في العصور الوسطى، بما في ذلك لوحات دينية وأيقونات مسيحية.
  3. المسجد المملوكي: أُضيف المسجد المملوكي بعد استيلاء المماليك على القلعة، وكان بمثابة مركز ديني وعسكري في آنٍ واحد، ويتميز المسجد بجدران حجرية سميكة وسقف مغطى بقنطرة مع محراب بسيط يشير إلى القبلة، وهو العنصر الأساسي في أي مسجد، كما كان يحتوي أيضًا على منبر خشبي للخطابة وصلاة الجمعة، وهو ما يشير إلى الدور الديني المهم للمسجد في حياة سكان القلعة.
  4. المخازن والخزانات المائية: تضم قلعة المرقب نظامًا ذكيًا لتخزين المياه والطعام لضمان استمرار الحياة داخلها لفترات طويلة في حالة الحصار، وكانت تتوزع الخزانات في مواقع استراتيجية داخل القلعة، ومنها خزانات ضخمة محفورة في الصخور أو في الطوابق السفلية للقلعة، بحيث كانت تجمع المياه من الأمطار أو من مصادر أخرى.
  5. اللوحات الجدارية “الفريسكو”: تعد لوحات الفريسكو من أبرز الأعمال الفنية التي تميزت بها هذه الكنيسة، وتشكل جزءًا أساسيًا من تراث العصور الوسطى، كما تعكس الطراز البيزنطي في الفن المسيحي، وقد أُنجزت في القرن الثاني عشر الميلادي وتُظهر براعة الفنانين في تلك الحقبة، إحدى اللوحات الجدارية المميزة توجد في الغرفة الشرقية المجاورة للهيكل، حيث تظهر صورة تمثل نزول الروح القدس على تلاميذ المسيح، وترسم هذه اللوحة فوق أرضية حمراء وقد تمثل مثالاً على الأسلوب البيزنطي المسمى “الحُلية المعمارية”، وهو طراز يتسم بالرمزية العالية والاهتمام بالزخارف المعمارية إلى جانب العناصر الدينية، وعلى جدار آخر في الكنيسة هناك لوحة جدارية نادرة تُعد واحدة من أبرز القطع المحفوظة من فترة العصور الوسطى، وتمتد هذه اللوحة على شريط طويل بطول ستة أمتار وارتفاع ثلاثة أمتار، وتحتوي على مشهدين رئيسيين الأول على الجدار الجنوبي حيث يظهر مشهد جهنم بكل تفاصيله الرمزية، والثاني على الجدار الشمالي الذي يصور الجنة، ما يُظهر التباين الواضح بين العقاب والخلاص في الفنون المسيحية التقليدية، وفي الجهة الشرقية عند الهيكل، تم اكتشاف لوحة تمثل مشهد مقتل القديس يوحنا المعمدان.
  6. برج قلاوون الشمالي: وهو برج دائري يبلغ قطره 25 متر ويتألف من نواة أساسية مشكلة من برج نصف دائري، كما إن البرج مصفح بحجارة بازلتية كبيرة الحجم ومنحوتة بشكل متقن.
  7. برج الصبي: وهو جزء مهم من دفاعات قلعة المرقب موجود جنوبي غرب بانياس وعلى الجهة اليمنى من أوتستراد طرطوس-اللاذقية، ويعود بناؤه لفترة الحروب الصليبية، مبني من حجر البازلت وله شكل مربع وطابقين، ومن الواضح أن البرج كان له دورين رئيسيين أولهما هي مراقبة الساحل وتقديم الدفاع عن القلعة، كما إن جدران برج الصبي فيها فتحات لمرام السهام، وفي واحدة منها تم اكتشاف لوحة فنية من الفرسك عام 2001، تُظهر سمكة بنية داخل حوض مائي أزرق.
بانياس

اقرأ أيضًا: الجامع الأموي في دمشق… جوهرة التراث الإسلامي

أهمية القلعة اليوم

تُعتبر قلعة المرقب اليوم وجهة سياحية رئيسية لمحبي التاريخ والآثار، حيث يزورها العديد من الباحثين والسياح للاستمتاع بالمناظر الخلابة للبحر والجبال المحيطة بها والتعرف على تاريخها العريق، كما يتم تنظيم جولات سياحية داخل القلعة، وتُجرى بعض عمليات الترميم للحفاظ عليها من التدهور.

وتحتوي القلعة على تراث إنساني عظيم أسهم في تسجيلها على اللائحة التوجيهية لليونيكسو، وقد أدرجت أيضًا على قائمة مشروع اليورميد التابع لاتحاد دول “إسبانيا، اليونان، البرتغال، الجزائر، مصر” بهدف توثيق التراث الدولي لدول البحر المتوسط.


تظل قلعة المرقب رمزًا للشموخ والقوة، تحكي قصص الحروب والصراعات التي مرت عبر العصور، من الفرسان الصليبيين إلى السلاطين المماليك، فمن يقف عند أسوارها يشعر وكأنه يسافر عبر الزمن إلى حقبة كانت فيها القلاع تحكم العالم والسيوف ترسم حدود الإمبراطوريات.

السابق
التكية السليمانية
التالي