بوابة سوريا

قصر الحير الغربي: جوهرة معمارية وسط الصحراء السورية

واجهة قصر الحير الغربي

لا تكف سوريا عن إبهارنا بآثارها ومدنها التاريخية العريقة، ففي كل مكان قد تجد معلمًا يحكي لك حكايات الماضي ويقص عليك بطولات الأجداد، واليوم سنأخذكم إلى قصر الحير الغربي وهو واحد من أهم المعالم الأثرية في سوريا، حيث يجسد فن العمارة الإسلامية المبكرة ويعكس براعة الهندسة الأموية في بناء القصور الصحراوية، ويقع هذا القصر في بادية الشام، على بعد حوالي 60 كيلومترًا جنوب غرب مدينة تدمر ضمن محافظة حمص، ويعدّ هذا القصر نظيرًا لقصر الحير الشرقي، لكنه يتميز بطابعه الدفاعي وتاريخه الغني الذي يعكس مراحل متعددة من الاستخدام عبر العصور.

تاريخ قصر الحير الغربي

يقوم قصر الحير الغربي على مسقط مربع الشكل تقريبًا وعلى أنقاض دير يعود إلى زمن الغساسنة، وتم بنائه عام 727 م (109 هـ) بأمر من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، ليكون محطة استراحة للصيادين والمسافرين والتجار الذين كانوا يعبرون بادية الشام، وتؤكد كتابتان أثريتان تاريخ بناء قصر الحير الغربي، الأولى نُقشت على ساكف باب الخان المجاور للقصر والمحفوظ حاليًا في المتحف الوطني بدمشق، وتذكر أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أمر ببنائه عام 109 هـ. أما الثانية، فمحفورة على حجر رخامي محفوظ في متحف دمشق، وتوثق رسالة من هشام إلى الوليد أبي العباس، حيث كان القصر يُعرف قديمًا باسم “الزيتونة”، بينما جاء اسم “الحير” لاحقًا نسبة إلى السور الذي كان يحيط به.

وقد استخدم القصر لاحقًا كمركز إداري ومنطقة زراعية، حيث تم بناء قنوات لري الأراضي المحيطة به، ما جعله واحة خضراء وسط الصحراء القاحلة، وعلى مر العصور تعرّض القصر للإهمال والتخريب بسبب الغزوات والزلازل، لكن مع ذلك بقيت أجزاء كبيرة منه صامدة حتى اليوم.

الصحراء السورية

اقرأ أيضًا: أبواب دمشق السبعة، حراس الزمن وسفراء التاريخ

اقرأ أيضًا: مقام السيدة زينب في ريف دمشق

تصميم القصر وبناؤه

يعكس قصر الحير الغربي روعة العمارة الأموية، حيث يجمع بين البساطة الهندسية والزخارف الفريدة التي تعكس التأثيرات الفارسية والبيزنطية، حيث أن القصر مبني من الحجر الجيري والطوب الطيني، وتبلغ مساحته تبلغ مساحة حوالي 50 هكتارًا (500,000 متر مربع)، مما يجعله واحدًا من أكبر القصور الصحراوية الأموية، ويتميز القصر بتصميمه المربع تقريبًا، حيث تحيط به أسوار قوية مدعمة بأبراج دفاعية دائرية، باستثناء الزاوية الشمالية الغربية التي تحتوي على برج مربع، كما توجد أبراج نصف دائرية في منتصف كل جدار، عدا الجدار الشرقي الذي يضم البوابة الرئيسية المحاطة ببرجين مزخرفين، ومن الجدير بالذكر أن السور قد بُني من المداميك الحجرية في قاعدته حتى ارتفاع مترين، تعلوها طبقات من الطوب والآجر والشرائح الخشبية، مما يمنحه مظهرًا يشبه الحصن المنيع.

أما بالنسبة لواجهة قصر الحير الغربي والتي تُعد واحدة من أبرز معالم العمارة الأموية، وقد كانت مزينة بزخارف هندسية ونقوش مميزة تعكس الطابع الفني الإسلامي المبكر، فقد قام عالم الآثار الفرنسي جان سافيناك بنقل الواجهة إلى المتحف الوطني بدمشق في أوائل القرن العشرين، حيث تم إعادة تركيبها وعرضها في مدخل المتحف كتحفة معمارية فريدة.

وتتميز الواجهة بأقواسها المزخرفة وأعمدتها المنحوتة بدقة، وتُظهر تأثيرات معمارية فارسية وبيزنطية إلى جانب الطابع الإسلامي، ورغم نقلها من موقعها الأصلي لا تزال تشكل عنصرًا مهمًا في دراسة الفن الأموي، وهي من أبرز معروضات المتحف الوطني بدمشق اليوم.

كما تم العثور بين أنقاض القصر على زخارف جصية غنية كانت تزين الجدران والنوافذ والمدخل، وتضم أشكالًا هندسية ونباتية، إضافة إلى صور بشرية وحيوانية بعضها خيالي وبعضها واقعي، وبالإضافة إلى ذلك اكتُشفت رسوم ملونة تحمل مشاهد أسطورية وحقيقية، وقد تم نقل جميع هذه الزخارف إلى المتحف الوطني بدمشق للحفاظ عليها وعرضها.

قصر الحير الغربي

وبالعودة إلى موضوعنا في وصف تصميم قصر الحير الغربي فيمكننا القول أن الباب الخارجي يرتبط بالباحة الداخلية عبر دهليز مقبى يؤدي إلى أروقة مغطاة مدعومة بعمد حجرية، تسبق الغرف والصالات المحيطة بالفناء المركزي حيث توجد بركة ماء، وتتوزع الغرف على طابقين ضمن ستة بيوت مستقلة اثنان شرقًا، واثنان غربًا، وواحد في كل من الشمال والجنوب، ويتراوح عدد الغرف والصالات في كل بيت بين 8 و13، وتتميز بمشبكات جصية تتيح دخول الضوء والهواء.

أما الطابق العلوي من القصر فقد بُني باستخدام الطوب والخشب والآجر على عكس القسم الأساسي الذي بُني باستخدام الحجر حتى ارتفاع مترين، وخلال التنقيبات التي أجراها عالم الآثار الفرنسي شلومبرجيه في ثلاثينات القرن العشرين، تم اكتشاف درجين خشبيين يقودان إلى الطوابق العليا، حيث يُعتقد أن الطابق الثاني مشابه في توزيع الغرف للطابق الأول، مع استثناء مساحة فوق دهليز المدخل التي كانت تحتوي على صالة مستطيلة.

ولعل أبرز أقسام القصر هو خزان الماء الذي كان جزءًا أساسيًا من النظام المائي الذي يمد القصر ومرافقه بالمياه، حيث تم ربط الخزان بـ سد خربقة الذي كان مصدرًا رئيسيًا للمياه، وتغذى الخزان بالمياه من نبع الكوم عبر قناة طويلة تمتد لحوالي 16.5 كيلومتر، وكانت المياه المخزنة في الخزان تُستخدم في جميع مرافق القصر، بما في ذلك الغرف السكنية والخدمية، مثل الجامع و الطاحونة و الخان. كما كانت المياه ضرورية لتشغيل الحمام، الذي كان يقع على بعد 30 مترًا شمال البرج القديم.

ويتكون الحمام من قسم بارد وآخر ساخن، وهو تصميم مألوف للحمامات الإسلامية في تلك الفترة، حيث كان يشمل غرف الاستحمام والأنظمة اللازمة لتسخين المياه. ومن أهم خصائص الحمام في قصر الحير الغربي هو وجود نظام تدفئة تحت الأرضية، حيث كانت الأرضية مبنية على شبكات تدفئة فخارية تسخن المياه وتوفر الراحة في الحمام، أما الأرضيات فقد كانت مغطاة بـ ألواح رخامية، ما يعكس الفخامة والاهتمام بتفاصيل التصميم الداخلي، وكانت هذه الأرضيات تساعد في الحفاظ على حرارة المكان، مما جعل تجربة الاستحمام أكثر راحة في بيئة صحراوية قاسية.

قصر الحير الغربي

اقرأ أيضًا: قلعة شيزر

أبرز مكتشفات قصر الحير الغربي

عثر علماء الآثار في قصر الحير الغربي على الكثير من المقنيات الآثرية والتي نُقل بعضها إلى متحف دمشق الوطني كما ذكرنا في الأعلى، ويوجد أيضًا مكتشفات مميزة لعل أبرزها:

  • خشبًا مزخرفًا برسوم ملونة تظهر أزهارًا وأشكالًا هندسية في جدران البناء الداخلي.
  • لوحات فريسك تُظهر رسومًا تشبيهية، مثل رسم نصف وجه لامرأة تحمل قطعة قماش مليئة بالفواكه وطوق عنق مزين بأفعى، وأخرى لمخلوقات أسطورية ذات جسم إنسان ورأس وقدمي حيوان، كما كانت هناك أيضًا لوحة تُظهر فارسًا يطارد الغزلان.
  • كتابات كوفية منقوشة على ألواح حجرية، تُعد من أقدم أمثلة الخط العربي
  • النحت الزخرفي، الذي تضمن أشكالًا نباتية وهندسية مصنوعة من الجص البارز في الواجهة أو الجص المفرغ في النوافذ، وهو ما يُحتمل أن يكون بداية الرقش العربي (Arabesque).
  • تماثيل تشبيهية تُظهر رجالًا وفوارس ونساءً وحيوانات مثل الفهود، بأسلوب مشابه لنحت قصر خربة المفجر في فلسطين.
قصر الحير الغربي

في الختام، يُعتبر قصر الحير الغربي شاهدًا حيًا على براعة العمارة الأموية وثراء التاريخ السوري، حيث يجسد تناغمًا بين الفن المعماري، الثقافة، والوظائف الدفاعية والتجارية في قلب الصحراء. بموقعه الاستراتيجي وتصميمه الفريد الذي يدمج بين الأناقة والعملية، يظل القصر رمزًا للابداع المعماري الذي تجاوز الزمن.

السابق
كيف تغيرت قناة السويس عبر التاريخ
التالي
طريق الكباش