تقف عمريت، المدينة الفينيقية القديمة الواقعة جنوب مدينة طرطوس على الساحل السوري والتي تبعد 7 كيلو متر عن محافظة طرطوس، شاهدةً على حضارة عظيمة امتدت لآلاف السنين، وتُعدّ هذه المدينة واحدة من أبرز المواقع الأثرية في سوريا، حيث تحوي معالم فريدة تجسّد الهندسة الفينيقية والإبداع المعماري الذي ميّز هذه الحضارة. في هذا المقال، سنستعرض تاريخ عمريت، وأهم معالمها الأثرية.
Contents
لمحة تاريخية عن عمريت
أثبتت الدراسات التي أجريت في موقع عمريت عودته إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد والمعروفة بالفترة الأمورية، وكانت تُعرف في العصور القديمة باسم “ماراثوس” (Marathus)، وقد كانت إحدى أهم المدن الفينيقية الساحلية، كما لعبت المدينة دورًا بارزًا كمركز تجاري وديني، حيث تميّزت بمينائها المزدهر وعلاقاتها التجارية مع مصر واليونان وقبرص وبلاد ما بين النهرين، وازدهرت عمريت خلال العصر الفينيقي الكلاسيكي، ولكنها عانت من التدمير على يد الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم خضعت للحكم الروماني والبيزنطي، قبل أن تندثر تدريجيًا وتتحول إلى موقع أثري، كما أكد مدير معهد تاريخ وآثار الشرق الأدنى القديم هورست كلينكل، أن الأطلال الحالية في عمريت تعود إلى الفترتين السلوقية والفارسية.
وفي عام 1697 قدّم الرحالة البريطاني هـ. ماوندريل وصفًا أوليًا للمعبد الكبير في عمريت، بينما أجرى المستشرق الفرنسي رينان عام 1861 أبحاثًا استكشافية وثّق خلالها المعبد الرئيسي والمدافن وعددًا من المباني الهامة، كما شهد الموقع سلسلة من أعمال التنقيب الأثري، حيث بدأت المديرية العامة للآثار أعمالها المنهجية عام 1953، تلتها دائرة آثار طرطوس عام 1978 والتي كشفت عن قبور رخامية وفخارية ذات أشكال إنسانية، وفي عام 1988 تم الكشف عن أجزاء من المرفأ البحري جنوب المعبد الكبير، واستؤنفت التنقيبات عام 2002 وأسفرت عن اكتشاف مدافن محفورة في الصخر ورسوم جدارية وتماثيل رخامية ونُصب جنائزية، إلى جانب بقايا تعود للعصر الهلنستي في الملعب وشماله الشرقي، كما تم العثور على معبد جديد يعود للعصور الفينيقية المتأخرة، مما يعزز مكانة عمريت كواحدة من أبرز المدن الأثرية ذات التاريخ العريق في المنطقة.

اقرأ أيضًا: نواعير حماة… أسطورة الماء والتاريخ
التسمية
اسم “عمريت” (أو “أمريت”) هو الاسم الكنعاني القديم للمدينة، وفي عهد الإسكندر المقدوني سُمّيت “ماراتوس”، وكانت من كبرى مدن شرق المتوسط، وفي القرن الثالث والثاني قبل الميلاد صُكت فيها نقود باسم “ماراتوس”، مما يعكس أهميتها الاقتصادية وتبعيتها المباشرة لمملكة أرواد، حيث خصصها الأرواديون لبناء منشآتهم التجارية والمعمارية والمساكن والقبور.

اقرأ أيضًا: قصر الحير الغربي: جوهرة معمارية وسط الصحراء السورية
أبرز المعالم الأثرية في عمريت
تحتضن عمريت مجموعة من المعالم الأثرية الفريدة التي تبرز عبقرية الفينيقيين في العمارة والهندسة، ومن أهم هذه المعالم:
معبد عمريت (المعبد الفينيقي المغمور بالماء)
يُعتبر معبد عمريت من أهم وأغرب المعابد الفينيقية المكتشفة، حيث نحت المعبد في المنحدر الصخري المطل على نهر عمريت، ويتميز معبد عمريت بتصميم فريد يشمل حوضًا مستطيلًا ضخمًا محفورًا في الصخر ومملوءًا بالماء، وكانت تُقام فيه الطقوس الدينية، ويتوسط الحوض مصطبة صخرية كان يُعتقد أنها مكرسة للإله مالكرت “هرقل” إله الشفاء والحكمة عند الفينيقيين، ويرجح بعض الباحثين أن المعبد كان يستخدم لأداء طقوس الخصوبة والشفاء، مستفيدين من المياه التي كانت تُعتبر مقدسة.
وفي وسط الحوض ينتصب هيكل مربع منحوت بأضلاع ثلاثة مغلقة، بينما يبقى الضلع الرابع مفتوحًا، ويعلو الهيكل شرفات مدرّجة، ويتوّج أعلاه بنيان علوي مربع الشكل تزين جبهته شريط من المسننات المدرجة، أما أمام الهيكل في الضلع الشمالي للرواق فيوجد بناء مذبح محفور في الصخر، لم يتبقَّ منه اليوم سوى الجزء السفلي، ويُعتقد أن هذا الهيكل كان مخصصًا لممارسة الطقوس الدينية، ويعكس براعة العمارة الكنعانية في تصميم المنشآت الطقسية.
المقابر الفينيقية (الأبراج الجنائزية)
تتميّز المقابر الفينيقية في عمريت بأسلوبها الهندسي الفريد، حيث شُيّدت على شكل أبراج صخرية ضخمة، ما يعكس طقوس الدفن المتقدمة عند الفينيقيين، كما تميزت القبور بجدرانها المزينة بلوحات فريسك تحوي رموزًا لطووايس وأسماك.
ويُطلق أهالي المنطقة على هياكل المدافن اسم “المغازل”، حيث يتجاور اثنان منها، بينما ينفرد الثالث باتجاه الجنوب. وتؤدي درجات حجرية إلى داخل المدافن الواقعة تحت هذه الهياكل، والتي تحيط بها حفر مخصصة لوضع التوابيت الفخارية، ما يشير إلى أساليب الدفن المتبعة في تلك الفترة، وعلى سطح المدافن اكتُشفت منشأة صناعية تعود للفترة البيزنطية، يُعتقد أنها كانت تستخدم كمعصرة للزيتون أو العنب، ما يدل على استمرار النشاط الاقتصادي في الموقع عبر العصور.

الملعب الفينيقي (أقدم ملعب رياضي في العالم)
يُعد ملعب عمريت من أقدم المنشآت الرياضية المكتشفة في العالم، وهو عبارة عن ملعب بيضاوي الشكل منحوت في الصخر، يُعتقد أنه كان يستخدم للمنافسات الرياضية والاحتفالات الدينية، ويتراوح طوله بين 230 و250 مترًا وعرضه حوالي 40 مترًا، وتحيط بالملعب عشر درجات ارتفاع كل منها 0.6 متر وتقدر سعته ب 11200 مشاهد، وكان مخصصًا لمباريات الركض والمصارعة، مما يدل على تأثر الفينيقيين بالرياضات الأولمبية اليونانية، أو ربما العكس، حيث يُرجّح أن الفينيقيين هم من نقلوا الرياضات إلى اليونان، ويعتقد أن كلمة ماراثون جاءت من اسم المدينة “ماراثوس” وفي هذا إشارة واضحة لأهمية ملعبها.

اقرأ أيضًا: أبواب دمشق السبعة، حراس الزمن وسفراء التاريخ
في الختام، تظل عمريت قصة خالدة نُقشت في الحجر وامتزجت برمال البحر، شاهدة على حضارة عظيمة مرّت من هنا وتركت بصمتها للأبد، فبين معبدها الفريد وملعبها الأولمبي العريق، ومينائها الذي كان شريان الحياة، يشعر الزائر وكأنه يسير بين صفحات كتاب تاريخي ينبض بالحياة.