يُعد برج صافيتا واحدًا من أبرز المعالم الأثرية في سوريا، حيث يقف شامخًا فوق تلة في مدينة صافيتا بمحافظة طرطوس، مشكلًا نقطة تاريخية مهمة تمتد جذورها إلى العصور الوسطى. هذا البرج، الذي يعود تاريخه إلى الحقبة الصليبية، يُعتبر من أفضل الأبراج المحصنة التي ما زالت قائمة حتى اليوم، حيث يجمع بين البنية الدفاعية الصلبة والطابع الديني الذي يميزه عن باقي القلاع والحصون، كما ويُعرف أيضًا باسم “البرج الأبيض” ويُشكل قلب قلعة صافيتا، حيث كان يُستخدم كمركز مراقبة وإدارة عسكرية ودينية في آنٍ واحد، موقعه الاستراتيجي المطل على الساحل السوري والمناطق الجبلية جعله نقطة محورية في الحروب والصراعات التي شهدتها المنطقة. في هذا المقال، سنستعرض تاريخ البرج وعمارته وكل ما يهم معرفته عنه.
Contents
الموقع الجغرافي والأهمية الاستراتيجية
يقع برج صافيتا على قمة تلة يبلغ ارتفاعها حوالي 400 متر فوق مستوى سطح البحر، مما يمنحه موقعًا استراتيجيًا فريدًا يتيح مراقبة السهول والجبال المحيطة، بالإضافة إلى قربه من البحر المتوسط، ويحدّه من الشرق والجنوب سهل الغاب، ومن الغرب مدينة طرطوس، ومن الشمال منطقة مشتى الحلو، ويشرف البرج على الساحل حتى أرواد وطرابلس والدريكيش وقلعة الحصن، حيث يعد منطقة وسطى بين أرواد وحصن سليمان، ويمكن رؤية قلعة الحصن وقلعة العريمة وقلعة طرابلس وبرج ميعار وقلعة يحمور وقلعة أم الحوش وقلعة العليقة وقلعة صلاح الدين على امتداد جبال الساحل السوري بالعين المجردة.
هذا الموقع جعل قلعة صافيتا وبرجها نقطة دفاعية رئيسية في العصور الوسطى، حيث كانت جزءًا من سلسلة القلاع والحصون التي بناها الصليبيون لحماية طرقهم التجارية والعسكرية، وكانت بمثابة حلقة وصل بين قلعة الحصن وقلعة طرطوس، مما منحها دورًا مهمًا في الحروب الصليبية.

اقرأ أيضًا: برج إسلام وصليب التركمان… رحلة إلى الجنة المنسية
تاريخ قلعة صافيتا
كان برج صافيتا في الماضي جزءًا من قلعة ضخمة تُعرف باسم “القلعة البيضاء” ويعود ذلك لأنها مبنية من الحجارة الكلسية البيضاء، وكانت القلعة واحدة من الحصون الدفاعية الهامة في المنطقة خلال العصور الوسطى، ولم يبقَ من هذه القلعة اليوم سوى البرج الأثري وبعض بقايا الأسوار الخارجية التي لا تزال واضحة المعالم، حيث تمتد على طول المرتفع الصخري الذي تحتله القلعة، وتأخذ شكلًا شبه بيضاوي يتناسب مع طبيعة التضاريس المحيطة.
وظل البرج محافظاً على ملامحه الأصلية حتى نهاية القرن التاسع عشر، عندما بدأت عمليات التوسع العمراني في المنطقة، حيث شُيّدت المنازل التقليدية حوله وداخل نطاق أسواره بهدف توسيع مدينة صافيتا، وأدى هذا التوسع إلى طمس أجزاء كبيرة من القلعة، ولم يتبقَ منها سوى البرج الرئيسي، الذي لا يزال قائمًا كشاهد على حقبة تاريخية مليئة بالصراعات والتغيرات.
وكما يبدو فإن التاريخ القديم لقلعة صافيتا غامضًا فبحسب فولفغانغ مولر فينز المؤرخ الألماني والباحث في تاريخ العصور الكلاسيكية، فقد ورد ذكر القلعة لأول مرة عندما احتلها أتابك حلب نور الدين، ولكن وبحسب المصادر فقد بُني البرج في القرن الثاني عشر خلال فترة الحروب الصليبية، وكان يُستخدم كبرج مراقبة وحصن دفاعي في الوقت نفسه، وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن البرج قد يكون بُني فوق أساسات تعود إلى فترات سابقة، مثل العصر الروماني أو الفينيقي، حيث كان الموقع مثاليًا لإنشاء نقطة مراقبة محصنة.
ومع توسع النفوذ الصليبي في الساحل السوري، أصبح برج صافيتا جزءًا مهمًا من دفاعاتهم، حيث كان يخدم كقاعدة عسكرية لحماية القوافل والتواصل مع القلاع الصليبية المجاورة، وكان البرج جزءًا من مملكة طرابلس الصليبية، التي كانت واحدة من الإمارات الصليبية الأربع في الشرق الأوسط، ومن الجدير بالذكر أن القلعة تعرضت لزلزال مدمر في عام 1170.
وفي عام 1188م، تمكن القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي من استعادة مناطق واسعة من الساحل السوري، إلا أن برج صافيتا ظل في أيدي الصليبيين لبعض الوقت، كما تعرضت أيضًا القلعة لهزة أرضية أخرى عام 1202 ويرحج أن البرج المحصن على هيئته الحالية يعود إلى تلك الحقبة، لكن في عام 1271م استطاع السلطان الظاهر بيبرس قائد المماليك، السيطرة على البرج بعد معركة شرسة، ليتم إدخاله ضمن شبكة الدفاعات الإسلامية في المنطقة.
وبعد سيطرة المماليك أُعيد استخدام البرج كنقطة عسكرية، لكنه فقد أهميته الاستراتيجية تدريجيًا مع تطور الأسلحة وأساليب القتال الحديثة، وخلال الفترة العثمانية استُخدم البرج كموقع إداري لمراقبة المنطقة، لكنه لم يشهد معارك كبرى كما كان الحال في العصور السابقة.

اقرأ أيضًا: قصر الحير الغربي: جوهرة معمارية وسط الصحراء السورية
العمارة والتصميم للبرج
يقود الطريق المرصوف بالحجارة البازلتية السوداء إلى برج صافيتا، حيث تظهر بقايا السور الشرقي أولًا، تتقدمه بوابة تعلوها قنطرة تقود الزوار إلى المدخل الرئيسي، وبمجرد العبور منها تنكشف الواجهة الشرقية للبرج بكامل هيئتها شاهدة على تاريخه العريق، كما وتحمل حجارة البرج المرممة آثار الزلازل العنيفة التي ضربت المنطقة، حيث تسبب أحدها في انهيار الطابق العلوي، مما أثر على هيكله الأصلي، أما المدخل الرئيسي للبرج فيقع في الجهة الغربية، ويؤدي مباشرة إلى الكنيسة الداخلية، التي تُعد واحدة من أبرز معالمه، حيث لا تزال مستخدمة حتى اليوم، مما يجعل البرج مزيجًا فريدًا بين الطابع الدفاعي والديني.
ويستند برج صافيتا على أساسات كنعانية تظهر في الجهتين الشرقية والشمالية، ويتكون من ثلاثة طوابق ضخمة ويصل ارتفاعه إلى حوالي 30 مترًا، مما يجعله واحدًا من أطول الأبراج التي بناها الصليبيون في سوريا.
الطابق الأول: الكنيسة الصليبية
يحتوي الطابق الأول من البرج على كنيسة صغيرة مكرسة للقديس ميخائيل، وهي ميزة نادرة في الأبراج العسكرية، وتعود أصول هذه الكنيسة إلى أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، حيث بُنيت وفق النمط المعماري السائد حينها، وتشير بعض المصادر إلى أن البطريرك مكاريوس ابن الزعيم زار صافيتا عام 1652 وأقام قداسًا في البرج، مطلقًا على الكنيسة اسم مار ميخائيل.
وتقع الكنيسة بمحاذاة المدخل الرئيسي للبرج، وتتميز بتصميم معماري يعكس الطراز القوطي المبكر، حيث يقسمها قوسان بارزان إلى ثلاثة أروقة، تتوزع فتحاتها بشكل متناظر لتسمح بمرور الضوء والهواء، وينتهي هيكلها من الجهة الشرقية بمحراب نصف دائري تحيط به غرفتان مخصصتان للطقوس الدينية.
أما في الزاوية الجنوبية الغربية، فيوجد درج حجري مدمج في الحائط يؤدي إلى الطابق الثاني، حيث تقع قاعة علوية مؤلفة من جناحين، حيث يعكس تخطيط الكنيسة وتقسيماتها الطراز العمراني الذي كان شائعًا في مطلع القرن الثاني عشر والذي كان يُستخدم في بناء الكنائس والحصون في تلك الفترة، ما يعكس أهميتها التاريخية والمعمارية.
الطابق الثاني: غرف الحراسة والتخزين
الطابق الثاني من البرج، الذي يُرجَّح أن يكون قد استُخدم كمستودع أسلحة أو قاعة اجتماعات، أُنشئ في أوائل القرن الثالث عشر، مرتكزاً على ثلاث دعامات ضخمة بارزة، حيث تقوم هذه الدعامات بدعم عقود متصالبة مما يمنح السقف شكلًا مضلعًا تتقاطع فيه الأقواس المدببة، وهو أسلوب معماري مستوحى من الطراز القوطي المتأثر بالعمارة البيزنطية.
وتميّز سقف القاعة بطابع مهيب حيث جُمعت العناصر المعمارية بطريقة مدروسة تجمع بين الأقبية المقببة والعقود الطولية والعرضية، إضافةً إلى الأضلاع المتقاطعة التي تعزز ثبات البناء، أما النوافذ فصُممت بأسلوب دفاعي؛ إذ تبدأ بفتحات واسعة من الداخل ثم تضيق تدريجيًا لتشكل فتحات مستطيلة طويلة ذات عرض قليل، مما يجعلها مثالية للمراقبة وإطلاق السهام في حال التعرض لهجوم.
أمّا الجانب الأبرز في هذا التكوين المعماري هو أن الأعمدة الضخمة لا تمتد بأساساتها إلى الطابق السفلي، بل تتوقف عند أرضية القاعة العلوية، وهو أمر أثار دهشة الباحثين نظرًا للحمل الهائل الذي تتحمله هذه الأعمدة دون أن تؤثر على توازن المبنى، وجعل هذا التحدي الهندسي البعض يعتبرها تحفة معمارية استثنائية تعكس مستوى متقدمًا من الإبداع والتخطيط الإنشائي في ذلك العصر.
الطابق الثالث: منصة المراقبة
يُعد الطابق العلوي أهم جزء في البرج، حيث يُستخدم كموقع مراقبة يتيح رؤية تمتد لعشرات الكيلومترات في جميع الاتجاهات، وكان هذا الطابق مجهزًا بفتحات للرماة، مما يسمح للجنود بالدفاع عن البرج بفعالية أثناء الحصار.

اقرأ أيضًا: نواعير حماة… أسطورة الماء والتاريخ
في الختام، يظل برج صافيتا الذي يطلُّ على الساحل والجبال، حاملاً في صمته حكايات الفرسان وأسرار الزمن وأنفاس الماضي التي ما زالت تنبض في أزقّة المدينة القديمة، وزيارة هذا البرج لابتكون مجرد رحلة سياحية بل غوص حقيقي في أعماق التاريخ، حيث يلتقي الحاضر بالماضي في مشهد ساحر، يجعلك تغادره وأنت محمّل بروح المكان وجماله الأخّاذ.