بوابة سوريا

سوق المدينة… كل الطرق تؤدي إلى حلب

سوق الصابون

سوق المدينة في حلب، تلك التحفة المعمارية والتاريخية حيث يشكل قلب النبض التجاري والثقافي للمدينة، ويمتد هذا السوق العريق على مساحة واسعة، ويتكون من شبكة معقدة من الأزقة والشوارع الضيقة التي تكتظ بالمحلات التجارية والحوانيت المتخصصة في بيع مختلف أنواع البضائع والحرف اليدوية، في هذا المقال سنتعرف على تاريخ هذا السوق العريق وأهميته الاقتصادية والثقافية.

تاريخ يعود إلى الآف السنين

يمتد سوق المدينة في حلب على مساحة 16 هكتار وعلى طول 14 كيلو متر ابتداءًا من قلعة حلب إلى باب أنطاكيا مما يجعله أطول سوق مسقوف في العالم، حيث كان هذا الطريق ممرًا للحجاج القادمين إلى المدينة لزيارة الإله الحلبي الكبير “حدد” الموجود في القلعة، ويتميز السوق بسقفه المقبب المزين بالنوافذ الصغيرة التي تسمح بدخول الضوء والتهوية مما يضفي طابعًا مميزًا على المكان، ويحتوي السوق على 37 سوقًا فرعية و30 خان مبينة على شكل رقعة شطرنج، وكل سوق وخان مخصص لبضائع وحرف معينة وترى واجهات الدكاكين متشابها بعقود نصف قوسية.

ويعود أصل سوق المدينة إلى العصور القديمة، حيث كانت المدينة مركزًا تجاريًا هامًا على طريق الحرير الذي ربط بين آسيا وأوروبا ما جعله محطة رئيسية للقوافل التجارية، وإلى جانب طريق الحرير مرت بالمدينة طرق تجارية أخرى مثل طريق الشاي والتوابل وطريق المعادن، وتشير بعض الدراسات إلى أن جذوره تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، أي إلى العصر السلوقي وتحديدًا إلى العام 312 قبل الميلاد، عندما أسس سلوقس نيكاتور هذا السوق الضخم وهو أحد قادة الاسكندر المقدوني الذي احتل سورية وهو في طريقه إلى عراق ذلك الزمان وبلاد فارس حتى وأقسام من الهند، ويشبه السوق في طريقة بنائه آثار دمشق وأفاميا وقلعة المضيق وغيرها من المدن التي بناهت سلوقس نيكاتور عام 300 قبل الميلاد.

ويقع الجامع الأموي الكبير داخل السوق والذي تم بناؤه عام 718 م، كما يحوي على حمام مملوكي ما زال يعمل حتى الآن منذ تأسيسه قبل 800 عام وهو حمام يلبغا الشهير، ويقع هذا الحمام أمام البرج الجنوبي لقلعة حلب، بالإضافة إلى وجود العديد من الحمامات الأخرى في السوق مثل حمام النحاسين الذي يعتبر أحد أقدم وأكبر الحمامات العامة في حلب، ويتميز بتصميمه الهندسي الرائع وأعمال النقش الفنية على جدرانه، وحمام الصالحية حيث نسب إنشاء هذا الحمام إلى الأمير أزدمر بن عبد الله الشركسي.

حلب

اقرأ أيضًا: برج إسلام وصليب التركمان… رحلة إلى الجنة المنسية

أهمية سوق المدينة اقتصاديًا وتراثيًا

لطالما كان سوق المدينة في حلب محركًا للاقتصاد المحلي، حيث كان يوفر فرص عمل للآلاف من الحرفيين والتجار، كما كان يلعب دورًا هامًا في التجارة الإقليمية والدولية، حيث كانت تصل إليه قوافل التجارة من مختلف أنحاء العالم محملة بالبضائع الثمينة.

كانت الأقمشة والملابس والأحذية منذ القرن السادس عشر هي السلع الرئيسية المباعة في الأسواق، وكانت أيضًا البهارات والسجاد تحتل مكانة هامة، ومع تحديث الحياة اندثرت معظم الملابس التقليدية ماعدا ألبسة أهل البادية، وقيل عن أسواق حلب قديمًا إن ما كان يباع في أسواق القاهرة في شهر كامل كان يباع في أسواق حلب في يوم واحد.

وقد سميت سوق المدينة في حلب وفقًا لنوع البضائع أو الحرف التي كانت تنشأ فيها، ومن أشهرها سوق العطارين وسوق الصاغة، سوق الشام، سوق اسطنبول، سوق الدراع، سوق القطن بالإضافة إلى سوق الجمرك ويعود سبب تسمية السوق باسم “الجمرك” إلى أنه كان مركزًا للجمرك والمكوث في العهد العثماني حتى عام 1864م حين تحول إلى سوق ويشتهر السوق ببيع الأقمشة والملابس بأنواعها، من الأقمشة الفاخرة إلى الملابس الجاهزة، كما يوجد أيضًا سوق الصابون الذي ينتج أجود أنواع الصابون في العالم والذي يتميز بمكوناته الطبيعية، حيث يصنع بشكل أساسي من زيت الزيتون وزيت الغار والقلويات الطبيعية، ولا يحتوي على أي مواد كيميائية، مما يجعله آمنًا للاستخدام على جميع أنواع البشرة، ومن الأسواق أيضًا سوق العبي وسوق البالستان الذي يشتهر ببيع الأقمشة والملابس ويعتقد أن اسم “بالستان” مشتق من الكلمة الفارسية “برستان” والتي تعني بيع البضائع السيئة أو الرديئة، ولكن مع مرور الزمن تحول المعنى إلى سوق للألبسة المستعملة أو الرخيصة، ولعل أشهر الأسواق هو سوق الزرب هو أحد أقدم وأشهر أسواق المدينة العريقة، ويقع هذا السوق التاريخي بالقرب من قلعة حلب ويمتد على طول الشارع المستقيم الذي يربط بين باب أنطاكيا وباب الزرب، ويتميز السوق بعمارته الإسلامية الأصيلة وأزقته الضيقة التي تحكي حكايات الماضي، وكذلك تعدد محلاته البالغ عددها 71 محلًا وهو أطول الأسواق ويعود تاريخ سوق الزرب إلى العصور الوسطى، ويعتقد أن اسمه الأصلي كان “سوق الضرب”، وذلك لأنه كان مكانًا لضرب العملة المعدنية في العهد المملوكي، مع مرور الوقت تحرف الاسم إلى “سوق الزرب” الذي يشتهر به اليوم .

ومن الجدير بالذكر أن بعض الأسواق لم تحمل اسم صناعتها، بل حملت اسم المسجد الذي يقع بقربها وهي وقف له، مثل سوق البهرامية فأخذ هذا السوق اسمه من جامع بهرام باشا (البهرامية) الذي قام ببنائه وهو امتداد لسوق السقطية تجاه الغرب، وسمي بهذا الاسم نسبة لوجود المدخل الرئيسي لجامع ومدرسة بهرام باشا، كما يجب أن ننوه إلى أن أغلب تجارة السوق هي غذائية ففيه 32 محلًا لبيع المواد الغذائية مقابل 52 محل وهي مجموع دكاكين السوق، ويختلف سوق البهرامية عن الأسواق المذكورة سابقًا بأن بعض أجزائه غير مسقوفة والجزء المسقوف بشكل كبير هو الجزء المقابل لجامه البهرامية وهو آخر جزء مسقوف من الأسواق باتجاه الغرب.

ولم يكن سوق المدينة مجرد مكان للتجارة، بل كان مركزًا ثقافيًا، حيث كانت تقام فيه الندوات والمحاضرات وكان الشعراء والأدباء يترددون عليه، كما كان له تأثير كبير على تطور العمارة الإسلامية في المنطقة، حيث تم تصميم العديد من الأسواق الأخرى على نفس النموذج.

أسواق حلب

اقرأ أيضًا: معلولا… لؤلؤة آرامية شامخة بين الجبال

أبرز التحديات التي واجهها سوق المدينة

واجه سوق المدينة في حلب العديد من التحديات التي أثرّت بشكل كبير على حالته وحيويته، خاصة في السنوات الأخيرة، وكانت الحرب الأهلية السورية هي التحدي الأكبر الذي واجهه السوق، حيث تعرض للقصف والنهب والتدمير، مما أدى إلى تدمير العديد من المحلات والحوانيت وتشريد التجار والحرفيين، كما شهدت سوريا بشكل عام وحلب بشكل خاص تغيرات اقتصادية كبيرة أثرت على قدرة التجار والحرفيين على الاستمرار في عملهم، بالإضافة إلى مواجهة الحرفيون في السوق صعوبة في الحصول على المواد الخام اللازمة لصناعة منتجاتهم مما أدى إلى تراجع جودة المنتجات وتنوعها.

ورغم كل هذه التحديات يبقى سوق المدينة في حلب رمزًا للتراث والحضارة، وهناك جهود كبيرة تبذل لإعادة إحيائه، ولكن حال السوق اليوم لا يزال متأثرًا بشكل كبير بالحرب والأحداث التي مرت بها المدينة، ولا يزال جزء كبير من السوق مدمرًا، وهناك حاجة ماسة إلى أعمال ترميم وإعادة إعمار، وبدأ بعض التجار والحرفيين بالعودة إلى السوق وإعادة فتح محلاتهم ولكن بشكل محدود.

وفي الختام، لا يسعنا إلا تذكر أبيات الشاعر الشهير نزار قباني والتي قالها في وصف جمال مدينة حلب فقال

كل الدروب لدى الأوربيين توصل إلى روما كل الدروب لدى العرب توصل إلى الشعر وكل دروب الحب توصل إلى حلب.

كما إن سوق المدينة في حلب صفحة مشرقة في تاريخ الحضارة الإسلامية وشاهد على تلاقح الثقافات وتبادل الأفكار، وعلى قدرة الإنسان على البناء والإبداع، ومهما مرت عليه من صعاب، فإن هذا السوق سيبقى رمزًا للأمل والتحدي.

السابق
محافظة مطروح
التالي
محافظة شرم الشيخ