يقف جبل قاسيون شامخًا فوق مدينة دمشق، وكأنه حارسها الأمين، يروي تاريخها ويشهد على حضارات مرت بها منذ آلاف السنين، حيث يُعتبر قاسيون رمزًا ثقافيًا وتاريخيًا للمدينة، ومصدر إلهام للأدباء والشعراء الذين تغنوا بجماله وروعة إطلالته على دمشق، ويمتد هذا الجبل على طول المدينة ليمنح سكانها مشهدًا بانوراميًا ساحرًا، حيث يمكن رؤية بيوت دمشق العتيقة تتوزع كحبات اللؤلؤ تحت أقدامه.
الموقع والجغرافيا
يقع جبل قاسيون في الجهة الشمالية الغربية من دمشق، ويمتد على طول المدينة ليشكل خلفية طبيعية لها، وهو عبارة عن هضبة تشكلت حسب الجيولوجيين في بداية العصر الطباشيري، ويبلغ ارتفاعه حوالي 1150 مترًا عن سطح البحر ما يجعله أعلى نقطة تطل على العاصمة، ويوفر مشهدًا مذهلًا عند غروب الشمس حيث تتلون سماء دمشق بألوان خلابة، ويمتد قاسيون لمسافة تقارب 15 كيلومتر وتحيط به عدة أحياء شهيرة مثل المهاجرين، ركن الدين، والصالحية، التي تعد من أقدم أحياء دمشق وأكثرها عراقة، كما وتفصل جبل قاسيون عن جبل المزة أنهار بردى السبعة، وتفصله أيضًا مياه منين شرقًا عن جبال القلمون، وله سفحان من الجهة الشرقية يفصل بينهما نهر يزيد.
وإذا أردنا تحديد موقع جبل قاسيون بدقة أكثر فيمكننا القول أنه يقع في الجهة الشمالية الغربية من سور دمشق، ويمكن الوصول إليه عبر حي الصالحية، الذي كان في الماضي موطنًا لبيوت الصوفية التي استخدمت كأماكن راحة للحجاج، وعُرفت حينها باسم “الخانات”، كانت هذه البيوت المعروفة بالخانات تقدم المأوى للحجاج العابرين في طريقهم إلى مكة، ويستمر الطريق بعد حي الصالحية باتجاه ساحة شمدين، ومن هناك يمكن الصعود نحو قمة الجبل باتباع أدراج معبدة تصل نهايتها إلى سلسلة كهوف ومسجد.

اقرأ أيضًا: قلعة شيزر
الأهمية التاريخية
لجبل قاسيون مكانة خاصة في وجدان الدمشقيين، فهو ليس مجرد جبل صخري بل هو موقع يرتبط بالعديد من القصص الدينية والتاريخية، فيروي ابن عساكر في كتابه “أخبار دمشق” أن النبي إبراهيم عليه السلام وُلد عند سفح جبل قاسيون في منطقة برزة، حيث يوجد غار ضيق يُعتقد أنه المكان الذي شهد تأمل إبراهيم في مظاهر الكون، عندما رأى الكوكب ثم القمر ثم الشمس، كما ورد في قوله تعالى في سورة الأنعام (76-78):{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي…}.
وبُني فوق هذا الغار مسجد يحتوي على عدة غرف، يُقال إن خلفه يقع مقام النبي إبراهيم، بينما يوجد شمال المسجد مدفن يضم سبعين ألف شهيد وسبعمئة نبي، وفق بعض الروايات، بينما تشير روايات أخرى إلى وجود سبعين نبيًا في هذا الموقع.
وتشير الروايات التاريخية التي وثّقها ابن جبير خلال زيارته لدمشق إلى أن منطقة النيرب، الواقعة بالقرب من الربوة عند السفح الغربي لجبل قاسيون، كانت موطنًا للعديد من الشخصيات الدينية الهامة، حيث يُقال إن حنّة والدة السيدة مريم العذراء أقامت في تلك المنطقة، كما عاش فيها النبي يحيى بن زكريا عليه السلام مع والدته لمدة أربعين عامًا، مختبئًا في أحد كهوفها طلبًا للأمان من بطش قومه، وتتوافق هذه الروايات مع ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة المؤمنون (50):{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}، وقد ذهب كثيرون إلى أن هذه الربوة المذكورة هي تلة قاسيون، حيث أقام النبي عيسى عليه السلام ووالدته مريم لفترة من الزمن.
وتحمل هذه المنطقة أيضًا إرثًا روحيًا مميزًا، حيث يقال إن حواريو عيسى عليه السلام الذين كانوا أربعين شخصًا، مروا بهذا المكان وبنوا فيه مسجدًا يضم أربعين محرابًا، تعبيرًا عن ارتباطهم بالمكان وقدسيته، كما تكرّس الاعتقاد الشعبي بأن منطقة قاسيون تحتضن مقامات العديد من الأنبياء، حيث يُقال في الموروث الدمشقي: “بين برزة وأَرْزَة أربعون ألف نبي”، في إشارة إلى عظمة المكان ومكانته الدينية.
ولعل أكثر الأحداث التي مر بها جبل قاسيون شهرة هي قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، فتُشير الروايات التاريخية والموروثات الشعبية إلى أن موقع الحادثة كان على سفح جبل قاسيون في دمشق وتحديدًا في مغارة الدم، التي ما زالت موجودة حتى اليوم، ويُقال إن هذه المغارة شهدت وقوع أول جريمة قتل في التاريخ، عندما دفع الحقد والحسد قابيل إلى قتل أخيه هابيل بعد أن قُبل قربان هابيل ورفض قربان قابيل، وبعد ارتكاب الجريمة وقف قابيل حائرًا لا يعرف كيف يُخفي جثة أخيه، فبعث الله غرابًا يُعلّمه كيفية دفن الموتى، كما ورد في القرآن الكريم:{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ…} (المائدة: 31). وهكذا تعلم قابيل دفن الموتى وقام بدفن جثة هابيل في الأرض.
وفي فترة الفتح الإسلامي، كان جبل قاسيون بمثابة نقطة مراقبة واستراتيجية استخدمها المسلمون أثناء فتح دمشق، حيث تمركزت جيوش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد في تلك المنطقة قبل اقتحام المدينة.

اقرأ أيضًا: قصر العظم في دمشق
التسمية
تتعدد الروايات حول سبب تسمية جبل قاسيون بهذا الاسم، إلا أن الرواية الأرجح والأكثر تداولًا تشير إلى أن اسم “قاسيون” مشتق من كلمة “القساوة” نسبة إلى طبيعة صخور الجبل القاسية والجافة، وصعوبة صناعة الكفار منها الأصنام زمن النبي إبراهيم عليه السلام.
وفي رواية أخرى، يُقال إن الاسم له أصول سريانية أو آرامية قديمة، حيث كان الجبل يُعرف باسم قريب من “قاسيون” ويعني “المكان المرتفع أو الحصين”، نظرًا لموقعه الذي يشرف على المدينة ويوفر حماية طبيعية لها.
ويُعرف جبل قاسيون أيضًا بـ”الجبل المقدس” لما يحمله من مكانة دينية وتاريخية، حيث ارتبطت به العديد من الروايات والأساطير كما ذكرنا في الأعلى، حيث يُروى إضافة لما ذُكر أن الملائكة جاءت لتعزي آدم في كهف جبريل والذي يقع في الجبل، فارتبط قاسيون بزيارة الأنبياء والرسل عبر العصور ما زاد من قدسيته في الوجدان الشعبي والتاريخي، وبقي شاهدًا على أحداث ذكرتها الكتب السماوية والتاريخ الإسلامي.
كما يُعرف جبل قاسيون بعدة أسماء أخرى، منها “جبل دمشق”، “جبل الأنبياء”، و”حارس دمشق”، وقد ورد في الآرامية القديمة باسم “قيصون”، بمعنى “النهائي” أو “الأقصى”، وذكر المؤرخ قتيبة الشهابي أن اسم “قاسيون” بدأ يُستخدم في المصادر العربية منذ القرن الأول الهجري، بينما أشارت بعض المصادر إليه بأسماء مثل “قيسون” أو “قايسون”، كما تغنى الشعراء بدمشق قديمًا ولقبوها بـ “بنت قيسون”، تأكيدًا لارتباط المدينة الوثيق بالجبل الذي يحتضنها.

اقرأ أيضًا: مقام الأربعين… شاهدًا على التاريخ وحاضنًا للروحانيات
قاسيون في الأدب والفن
لم يغب جبل قاسيون عن ذاكرة الشعراء والأدباء الذين تغنوا به ووصفوه في قصائدهم، حيث تغنّوا بخضرة قاسيون بحضور بارز في قصائدهم، وأطلقوا على دمشق قديمًا لقب “بنت قيسون” كما ذكرنا، تعبيرًا عن العلاقة الحميمة بين المدينة والجبل الذي يحتضنها، ومن أشهر من تغنوا به، المتنبي الذي مدح دمشق وقال:
إذا غدرت حسناءُ فُضِّلتَ عندها… بُعيدك عن دارِ الهوى وقاسيونُ
أمّا في الأدب الحديث فاستلهم الأدباء السوريون من قاسيون رمزية تتجاوز الجغرافيا، حيث جسّد في أعمالهم صمود دمشق وعراقتها، ففي روايات نزار قباني الشعرية غالبًا ما يتكرر ذكر قاسيون كحارس المدينة، حيث قال في إحدى قصائده:
دمشقُ، يا كنزَ أحلامي ومروحتي… على جبينِكِ حطّتْ غيمةُ التعبِ
أما بدوي الجبل فقد جعل قاسيون في شعره رمزًا لصمود دمشق في وجه الغزاة والمحن، وإذا أردنا أن نعد فلا يمكننا إحصاء الشعراء الذين تغنوا بقاسيون.
وكذلك في الفن التشكيلي حيث جسد الفنانون السوريون جبل قاسيون في لوحاتهم ليعكسوا جمال دمشق وروعتها، فظهرت ملامحه في أعمال كبار الفنانين مثل، لؤي كيالي وفاتح المدرس، حيث مزجا في لوحاتهما بين قاسيون والمدينة القديمة، لتعكس التمازج بين الطبيعة والتاريخ، كما رسمه الفنان ناظم الجعفري في مشاهد تعكس الحياة الدمشقية اليومية مع الخلفية المهيبة للجبل.
لنأتي كذلك إلى التلفاز فكذلك حضر قاسيون في العديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية السورية، حيث كان الإطار الطبيعي لقصص دمشقية تُجسد واقع الحياة الاجتماعية والبيئة الشامية، وظهرت إطلالة قاسيون في مسلسلات مثل “باب الحارة” و”الخوالي” لتعكس الحنين إلى الزمن القديم وتفاصيل الحياة الدمشقية، كما ظهر جبل قاسيون في أفلام مثل “الليل” للمخرج محمد ملص، حيث كان شاهداً على تقلبات الحياة في المدينة.

وفي ختام مقالنا، وسواء في الشعر أو الرسم أو الموسيقى، ظل جبل قاسيون حاضرًا في الوجدان الدمشقي كرمز للأزلية والجمال، وصورة تعكس عراقة المدينة وتاريخها العميق، ما جعله يتجاوز كونه مجرد معلم جغرافي ليصبح أسطورة ثقافية وفنية تحاكي وجدان أهل الشام وتروي حكاياتهم للأجيال القادمة.