في الجنوب السوري، حيث تمتد جذور التاريخ، وتتشابك حضارات الماضي بالحاضر، يقف الجامع العمري في درعا شامخًا، كأحد أقدم وأهم المعالم الإسلامية في بلاد الشام، بل وأول مسجد أُقيم فيها بعد الفتح الإسلامي.
فلا يمكن لأي زائر أن يتجول في درعا دون أن تجذبه مئذنته البازلتية، أو أن يُدهش بعبق التاريخ المنبعث من جدرانه السوداء، أكمل معنا هذا المقال لتتعرف أكثر على هذا الجامع المميز.
Contents
الموقع الجغرافي
يقع الجامع العمري في درعا في المدينة القديمة من درعا البلد، على ضفاف وادي الزيدي، أحد روافد نهر اليرموك، وتحيط به بقايا الأسوار القديمة والبيوت الحجرية التقليدية، ويُعتبر قلب المدينة القديمة النابض، حيث جعله موقعه الحيوي مركزًا دينيًا وثقافيًا واجتماعيًا منذ العصور الإسلامية الأولى وحتى اليوم، وتُظهر الإحداثيات الجغرافية للمسجد العمري أنه على خط طول 36.101° شرقًا وخط عرض 32.6123° شمالًا.

اقرأ أكثر عن: أقدم كنيسة في العالم… كنيسة حنانيا شاهد على ألفي عام من التاريخ
التأسيس والتاريخ
بُني الجامع العمري في درعا في العصر الراشدي عام 14 هـ / 635م، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد دخول المسلمين إلى درعا ضمن فتوح الشام، وأشرف على بنائه عدد من الصحابة الكرام، منهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل.
ومن هنا جاءت تسميته بـ”العمري” نسبة إلى عمر بن الخطاب، تمامًا كما سُمي عدد من المساجد في مدن أخرى دخلها الإسلام في عهده.
ويُعتقد أن بناءه الأولي جاء فوق أنقاض كنيسة بيزنطية، وهو أمر شائع في بدايات العمارة الإسلامية، حيث تم استثمار الأماكن الدينية القديمة وتحويلها إلى مساجد معمارية ذات طابع جديد، وقد استُخدمت في بنائه الحجارة البازلتية السوداء المعروفة في منطقة حوران، واتسم تصميمه بالبساطة والتقشف، بما يعكس القيم الإسلامية الأولى التي سادت في تلك المرحلة.

اقرأ أكثر عن: الجامع الأموي في دمشق… جوهرة التراث الإسلامي
مراحل البناء والتطور
مرّ الجامع العمري في درعا عبر تاريخه الطويل بعدة مراحل من التطوير والترميم، تعكس تعاقب العصور والأحداث التي شهدتها المدينة. فيما يلي عرض دقيق لمراحل تطوره.
التوسعة في العصور الأموية والعباسية
مع تحوّل درعا إلى مدينة ذات مكانة حضرية متقدمة، خضع الجامع العمري لعدة توسعات خلال العهدين الأموي والعباسي، حيث جرى تعزيز بنائه بإضافة عناصر معمارية مثل الأروقة والمحراب، لتلبية تزايد أعداد المصلين ومتطلبات الحياة الدينية، كمل تم إضافة المئذنة الشهيرة، ويُعتقد أنها من أقدم المآذن في بلاد الشام، وتتميز بتصميم مربع وقاعدة عريضة، ورغم هذه الإضافات حافظ المسجد على بساطته المعمارية التي ميّزته منذ تأسيسه، وظلّ وفيًا لروحه الأصيلة.
الترميمات في العصور الأيوبية والمملوكية
شهد الجامع العمري في درعا خلال العصور الأيوبية والمملوكية اهتمامًا لافتًا بأعمال الترميم والتعزيز البنيوي، حيث أُعيد تأهيل الأجزاء المتضررة، مع تدعيم الأساسات وتحديث بعض العناصر الإنشائية، كما أُضيفت لمسات زخرفية بسيطة تنسجم مع روح المكان، في حين خضعت المئذنة لتقوية ورفع، ما أضفى عليها حضورًا معماريًا أكثر بروزًا، وعزّز من شخصية المسجد التاريخية وفرادته في المشهد العمراني الإسلامي.
الترميمات في العصر العثماني (القرن السادس عشر الميلادي)
خضع جامع العمري في درعا لأعمال صيانة وترميم دورية في العصر العثماني، وتم إدخال بعض التعديلات المعمارية التي تعكس الطراز العثماني، كما جرى توسعة في السقف والأعمدة.

اقرأ أكثر عن: مقام السيدة زينب في ريف دمشق
عمارة وتصميم الجامع العمري في درعا
يمتاز الجامع العمري في درعا بفرادة معمارية تنبع من انسجام الطرازين الروماني والإسلامي في بنيانه، إذ شُيّد فوق بقايا معبد أو كما يُقال كنيسة رومانية قديمة، مانحًا إياه هوية عمرانية تجمع بين عبق التاريخ وقدسية المكان.
ويتكوّن الجامع من صحن مفتوح في قلبه، تحيط به أربعة أروقة تنسج مشهدًا معماريًا متناغمًا، يبرز بينها الرواق الجنوبي كأوسعها وأهمها، إذ يحتضن إيوان الصلاة الرئيسي ويمتد شرقًا وغربًا ليشمل إيوان الصلاة والحرم والمحراب، ويُفضي الجامع العمري إلى محيطه من خلال ثلاثة أبواب رئيسية وهي، الباب الشمالي المؤدي إلى الأروقة الداخلية، والبابان الشرقي والغربي اللذان يفتحان على ساحات خارجية، مما يعزز الترابط بين الداخل والخارج بانسيابية معمارية لافتة.
أما سقف المسجد فيعكس الطابع المعماري التقليدي لأبنية درعا القديمة، إذ يعتمد على القناطر الحجرية التي ترتكز عليها الحوامل البارزة من جميع الجهات، تليها عوارض بارزة بشكل أكبر لربط الحوامل وتغطية الفراغات، وتوجد فوق العوارض طبقة من القطع الحجرية الصغيرة المنحوتة التي يتم خلطها بالكلس، تليها طبقة سميكة من التراب.
كما يحتوي الجامع العمري في درعا على نقوش وزخارف تاريخية مهمة تعكس تطور العمارة الإسلامية في المنطقة، ففي الرواق الشرقي للجامع العمري، تم العثور على نقش كتابي فريد يعود إلى فترة الخلافة الأموية، يعكس بوضوح الاهتمام الكبير بالزخرفة الكتابية في تلك الحقبة.
وتزين واجهة الرواق الجنوبي زخارف نباتية محفورة على الجص، حيث تمثل الطراز الفني السائد في العصر الأموي وتضفي طابعًا جماليًا خاصًا، أمّا داخل الجامع فتتوزع الزخارف الجصية الرائعة التي تعد من أبرز المعالم الفنية فيه، مما يُظهر تطور الفن الزخرفي في العصور الإسلامية ويمنح المكان لمسة من الأصالة والبهاء.

ختامًا، سيظل الجامع العمري في درعا رمزًا للأصالة والتاريخ العريق، شاهدًا على تلاقي الماضي والحاضر، وبين جدرانه، تنبض الحياة بالعلم والدعاء، ليظل نقطة إشعاع روحي وثقافي في قلب المدينة.