التكية السليمانية واحدة من أبرز المعالم التاريخية في دمشق، والتي تمثل فن العمارة العثمانية في أبهى صورها، تقع التكية في وسط مدينة دمشق بالقرب من منطقة البرامكة، بالقرب من نهر بردى مما أضاف لجمالها وجعلها وأحدة من أبرز معالم المدينة، فهي ليست مجرد مكان أثري بل رمز للتاريخ الإسلامي والثقافة الإنسانية، وشُيدت التكية في القرن السادس عشر بأمر من السلطان العثماني سليمان القانوني، لتحمل اسمه وتبقى شاهدة على ازدهار الحضارة العثمانية في المنطقة، حيث كان السلطان سليمان مهتماً بشكل خاص بدعم المشاريع الدينية والتعليمية في مختلف أنحاء الإمبراطورية العثمانية، فبنى العديد من المساجد، المدارس والجوامع بالإضافة إلى التكايا.
Contents
تاريخ وبناء التكية السليمانية
تم بناء التكية السليمانية في عهد الوالي خضر باشا بين عامي 1554 و1559م في الموضع الذي كان يقوم عليه قصر الظاهر بيبرس المعروف بقصر الأبلق والذي سمي بذلك نسبة إلى الوان الأحجار السوداء والصفراء التي بنى منها والتي تم إحضارها من حلب ودرعا، وبنيت التكية تحت إشراف المهندس المعماري الشهير معمار سنان، الذي يُعتبر من أعظم مهندسي العصر العثماني، وأشرف على بنائها المهندس ملا آغا واستغرق بنائها 6 أعوام، وصُممت التكية لتضم مجمعًا متكاملًا يحوي مطبخ كبير لإعداد الطعام لإطعام وإيواء الفقراء والمسافرين، بالإضافة إلى احتضانها مسجدًا للتعبد وقاعات إقامة وساحة واسعة تحيط بها أروقة ومدرسة للعلم تم بنائهل في عهد الوالي لالا مصطفى باشا عام 1566 وذلك في نفس العام الذي توفي فيه السلطان العثماني سليم، وقد كانت التكية جزءًا من النظام الاجتماعي الذي اهتم بالفقراء والمحتاجين في الإمبراطورية العثمانية.
وكان أول من تولى إمامة المسجد الشيخ زين الدين بن سلطان وكان يخطب بالناس العلامة عبد الرحمن بن قاضي القضاة ابن الفرفور.
وظلت التكية السليمانية مكانًا لتأدية الفروض الدينية واستراحة للحجاج وملجأ للفقراء إلا أن دخل المستعمر الفرنسي إلى البلاد عام 1920م، حيث اتخذ الجنزال غورو وقواته من التكية مسكنًا، ثم تم تحويلها إلى دار للمعلمين ومع خروج فرنسا من سوريا وبحلول عام 1948م عادت المدرسة الشرعية في التكية إلى عقد الحلقات التعليمية وحلقات تحفيظ القرآن، كما استضافت عددًا من الأسر الفلسطينية النازحة إلى دمشق إثر النكبة بأمر من رئيس الجمهورية شكري القوتلي، وتلاها في سبعينيات القرن الماضي بدأت التكية باحتضان عشرات المحال والحرف اليدوية الدمشقية العريقة

اقرأ أيضًا: سوق المدينة… كل الطرق تؤدي إلى حلب
التصميم والعمارة
تبلغ مساحة التكية السليمانية حوالي 11 ألف متر مربع إلى قسمين رئيسيين وهما:
- التكية الكبرى: وهي الجزء الذي يضم المسجد والميضأة (مكان الوضوء)، وتتميز التكية الكبرى بمئذنتيها الرشيقتين النحيلتان اللتان تشبهان المسلة، كما وتتميز بقبتها الكبيرة المغطاة بالرصاص، كما أن المسجد واسع ومضاء بنوافذ كبيرة تسمح بدخول الضوء الطبيعي، مما يخلق جوًا من الهدوء والسكينة.
- التكية الصغرى: مخصصة لإطعام وإيواء المحتاجين والمسافرين، وتحتوي على باحة واسعة تحيط بها أروقة وأقواس رائعة تعكس طراز العمارة العثمانية، إلى جانب غرف صغيرة كانت تُستخدم كمساكن ومخازن، كما تحوي أيضًا المدرسة وتقع شرقي مبنى التكية الأساسي وللمدرسة ثلاث أبواب ثانوية وباب رئيسي واحد في الجهة الشمالية يؤدي إلى صحن المدرسة والذي يتوسطه بحيرة تشبه بحيرة مبنى التكية، ويحيط بالتكية حدائق جميلة تضفي عليها طابعًا مميزًا، حيث كانت هذه المساحات الخضراء توفر مكانًا للاسترخاء والراحة لزوار التكية، وتضم التكية الصغرى اليوم المسجد الحربي السوري وسوق الصناعات الشعبية.
وتحيط بالتكيتين أسوار منخفضة نسبيًا وتخترقها ثلاثة أبواب بابان رئيسيان في المحور الشرقي والغربي ذلك تبعًا لطريق الحجاج ومجرى نهر بردى أما الباب الثالث فهو صغير يتقدمه رواق وتعلوه قبة مطلة على نهر بردى من الشمال، في حين تتوسطها بركتان مستطيلتان تغذيهما بالماء نوافير عمودية كانتا تستخدمان للوضوء، كما كان يحتوي المبنى على مكتبة كبيرة تضم العديد من المخطوطات والكتب العلمية والدينية، وكان يُنظر إليها كمصدر مهم للمعرفة في دمشق والعالم الإسلامي بشكل عام، ومن الجدير بالذكر أنه في الجهة الجنوبية من التكية السليمانية وعلى طرفي المسجد الرئيسي يوجد مقبرة تحوي مدافن بعض السلاطين العثمانيين وعوائلهم، ولا تزال هذه المقبرة قائمة حتى اليوم ومن بين السلاطين المدفونين فيها السلطان محمد وحيد الدين آخر سلاطين الدولة العثمانية الذي توفي في إيطاليا وكانت وصيته أن يدفن في دمشق.
وتتميز التكية السليمانية بتصميمها وطرازها المعماري الفريد الذي يجمع بين البساطة والجمال والفخامة، والذي يعكس الطراز العثماني الكلاسيكي في فترة ازدهاره، مع رموز ودلالات ذات معان دينية وثقافية، وتحوي التكية على أنواع عديدة من الزخارف التي تحمل معاني رمزية ترتبط بالوظيفة الروحية والاجتماعية للمكان.

أنواع الزخارف وتصميمها
من أنواع الزخارف الموجودة في التكية السليمانية ما يلي:
- الزخارف النباتية: تضمنت الزخارف أشكالًا نباتية كالأزهار والأوراق والأغصان المتداخلة، وترمز هذه الزخارف إلى الحياة والنمو والتجدد، وتعبّر عن ارتباط الإنسان بالطبيعة التي خلقها الله، وكانت هذه التصاميم شائعة في العمارة الإسلامية لأنها لا تحتوي على تصوير مباشر للكائنات الحية، تماشيًا مع الشريعة الإسلامية.
- الزخارف الهندسية: وهي عبارة عن أشكال هندسية متداخلة ومنسقة بدقة عالية، مثل النجوم والخطوط المتشابكة، وترمز هذه الزخارف إلى النظام والتوازن في الكون، مما يعكس التوحيد والتناغم في العقيدة الإسلامية.
- النصوص القرآنية: زُينت بعض الأجزاء من التكية بآيات قرآنية مكتوبة بالخط العربي الجميل مثل الخط الكوفي أو الثلث، وكانت النصوص تركز على الآيات التي تدعو إلى الرحمة والخير والتقوى، وهو ما يعكس هدف التكية كمكان لخدمة الفقراء والمسافرين.
- نقوش القباب والمآذن: القباب مزيّنة بزخارف بسيطة متناسقة تشير إلى السماء وما وراءها، مما يرمز إلى المآذن ذات تصميم أسطواني رشيق مع زخارف دقيقة تعكس التفاني في العمل والتقرب من الله.
- الأرابيسك (التوريق): استخدم الأرابيسك بكثرة في الأبواب والنوافذ والممرات، حيب يرمز إلى اللانهاية مما يعكس فكرة الأبدية الإلهية.

أهمية التكية
لعبت التكية السليمانية دورًا اجتماعيًا وثقافيًا كبيرًا في فترة الحكم العثماني، فلم تكن مجرد معلم معماري بل كانت مؤسسة اجتماعية وإنسانية بامتياز، حيث قدمت الطعام المجاني للمحتاجين وعابري السبيل ووفرت مأوى للغرباء، مما جعلها ملاذًا للضعفاء في المجتمع، كما كانت مركزًا دينيًا وتعليميًا، حيث درّس العلماء فيها العلوم الشرعية واللغوية، مما ساهم في تعزيز الحياة الثقافية في دمشق، كما كان يتم تنظيم الكثير من الاحتفالات الدينية في التكية، بما في ذلك الاحتفالات بمناسبات دينية هامة مثل شهر رمضان والأعياد الإسلامية.

التكية السليمانية اليوم
تُعتبر التكية السليمانية معلمًا سياحيًا بارزًا، حيث تجذب الزوار بسبب عمارتها التاريخية وأهميتها الثقافية، فهي واحدة من أهم الوجهات السياحية في دمشق، وتُستخدم بعض أجزائها كمتحف يعرض التراث الثقافي والفني السوري، بينما تحولت أجزاء أخرى إلى سوق تقليدي يمتد من أقصى شرق التكية إلى أقصى غربها على طول 85 متر، وكان مخصصًا سابقًا لقوافل الحجاج ثم تحول ليعرض منتجات الحرف اليدوية من أبرز هذه الحرف:
- النجارة والزخرفة الخشبية: والتي تشمل صناعة التحف الخشبية، النقوش العربية والأثاث المزخرف.
- النحاسيات: مثل صناعة الأواني والأطباق النحاسية المزخرفة بنقوش يدوية.
- الزجاج المعشق والفخار: كصناعة الأواني والمشغولات الزجاجية بألوان وأنماط هندسية فنية بالإضافة إلى الخزف وصناعة الفخار.
- النسيج اليدوي: مثل الأقمشة المطرزة، السجاد الشرقي، والعباءات التقليدية، والتطريز اليدوي على الأقمشة بألوان وتصاميم تعكس التراث السوري.
- صناعة العطور والصابون: كصابون الغار والعطور الشرقية التقليدية.
- الفضيات والمجوهرات: قطع فضية يدوية، مثل الخواتم والسلاسل التي تحمل الطابع الدمشقي التقليدي.
وكانت هذه الحرف تمثل جزءًا كبيرًا من هوية التكية الثقافية، حيث كان الحرفيون يعرضون منتجاتهم مباشرة للزوار والسياح، لكن ومؤخرًا قامت وزارة السياحة في الحكومة السابقة بإغلاق عدة غرف في التكية ومنها غرف تؤدي إلى قبر السلطان العثماني محمد السادس، كما تم إنذار شيوخ الكار من الحرفيين في السوق بضرورة إخلاء محالهم قبل حلول عام 2023 لغرض الترميم.

ختامًا، تظل التكية السليمانية شاهدًا حيًا على روعة العمارة العثمانية وعمق القيم الإنسانية للحضارة الإسلامية، كما إن زيارتها ليست فقط فرصة لاستكشاف التاريخ، بل هي أيضًا دعوة للتأمل في القيم التي جمعت بين الإبداع والخدمة الإنسانية، إنها بحق جوهرة من جواهر دمشق وكنز ثقافي يستحق الحفظ والاعتزاز.