في زقاقٍ من أزقة دمشق القديمة، حيث تختلط رائحة التاريخ بعطر الياسمين، تقف شامخةً كنيسةٌ يُشار إليها بأنها أقدم كنيسة في العالم، وهي كنيسة حنانيا.
هنا، في هذا الصرح التاريخي، لا يتوقف الزمن، بل يظل ينبض بأصوات المؤمنين الذين عبروا من خلاله نحو النور الروحي، وفي هذا المقال، سنكشف لك عن تاريخ الكنيسة، كيف صمدت أمام التحديات، ولماذا تستحق أن تُلقب بـ”أقدم كنيسة في العالم”.
Contents
من هو القديس حنانيا؟
القديس حنانيا هو أحد تلاميذ المسيح في مدينة دمشق، وقد ارتبط اسمه بحادثة شهيرة تتعلق بتحويل شاؤول (الذي أصبح فيما بعد بولس الرسول).
بحسب الرواية، كان شاؤول في طريقه إلى دمشق قادمًا من فلسطين بهدف القبض على المسيحيين وتقديمهم إلى السجون بأوامر من عظيم الأحبار، بينما كان يسير على الطريق بالقرب من تلّ كوكب (حوالي 15 كم جنوب دمشق)، أُضيئت السماء فجأة وسمع شاؤول صوتًا يقول له: “شاول شاول لماذا تضطهدني؟”، فسأله قائلاً: “من أنت؟”، فأجابه الصوت: “أنا يسوع الذي تضطهده، فقم وادخل المدينة، فيُقال لك ما يجب عليك أن تفعل”.
تفاجأ رفاق شاؤول، حيث سمعوا الصوت ولكنهم لم يروا أحدًا، وعندما نهض شاؤول من الأرض، اكتشف أنه فقد بصره رغم أن عينيه كانتا مفتوحتين، فاقتادوه إلى دمشق حيث مكث ثلاثة أيام وهو لا يرى، لا يأكل ولا يشرب.
في هذه الأثناء، كان هناك تلميذ في دمشق اسمه حنانيا، فظهر له المسيح في رؤيا وقال له: “يا حنانيا، قم واذهب إلى الزقاق المستقيم، واسأل في بيت يهوذا عن رجل من طرسوس اسمه شاؤول، فإنه الآن يصلي وقد رأى في رؤياه رجلًا اسمه حنانيا يدخل ويضع يديه عليه فيبصر”.
ووفقا للكتاب المقدس كان حنانيا الشخص الذي عَمّد بولس الرسول في مدينة دمشق، بعد أن فقد بصره، ومنه جاءت تسمية كنسية حنانيا “أقدم كنيسة في العالم”، حيث يُعتقد أن حنانيا كان يعيش في الموقع الذي شُيدت عليه الكنيسة، وقد ارتبط هذا الحدث التاريخي الكبير بالكنيسة، مما جعلها تحتفظ بهذا الاسم على مر العصور.

اقرأ أيضًا: كاتدرائية الأربعين شهيد حلب… جدران تحكي قصة إيمان وصمود
موقع الكنيسة وسبب التسمية
تقع كنيسة حنانيا أقدم كنيسة في العالم في حي باب توما داخل المدينة القديمة في دمشق، وتحديدًا تقع الكنيسة في حارة حنانيا، بين باب توما وباب شرقي بالقرب من الشارع المستقيم (مدحت باشا).
تتميز الكنيسة بأنها عبارة عن مغارة تحت الأرض، يمكن الوصول إليها عبر درج حجري مكون من 21 درجة، مما يعكس عمقها التاريخي نتيجة تراكم طبقات الأرض عبر الزمن.

اقرأ أيضًا: كنيسة أم الزنار… واحدة من أقدم كنائس العالم
الطراز المعمار لكنيسة حنانيا
تم بناء كنيسة حنايا أقدم كنيسة في العالم في مكان كان يضم معبدًا وثنيًا قديمًا وتشير المراجع أنها من الكنائس التي أعطاها الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك للمسحيين بدلًا عن كنيسة القديس يوحنا المعمدان، والتي تحولت فيما بعد إلى الجامع الأموي.
وحسب المصادر التاريخية فإنه وفي عام 1820 استملك الرهبان الفرنسيسكان بيت القديس حنانيا وبنوه ليصبح مكانًا للعبادة، لكنه تعرض للدمار في عام 1860 ليُعاد بناؤه، وكمحطة مميزة في تاريخه تم إدراج البيت عام 1979م على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي كجزء من دمشق القديمة.
تتميز كنيسة حنانيا أقدم كنيسة في العالم بتصميمها المعماري البسيط ولكن العميق من حيث الرمزية الدينية والتاريخية، حيث تم بناء الكنيسة باستخدام الحجر البازلت الأسود، وهو من المواد التقليدية المستخدمة في بناء المعالم التاريخية في المنطقة، حيث يُعطي هذا الحجر الكنيسة طابعًا قديمًا وصلبًا، مما يعكس التاريخ العميق لهذا المكان المقدس، كما تم الحفاظ على الطراز الدمشقي الأرثوذكسي التقليدي، حيث تُزين الأرضية بالبلاط المجزع مع فواصل سوداء، مما يعطي المكان طابعًا خاصًا.
عند دخولك من الباب إلى حرم الكنيسة، تجد نفسك في ساحة سماوية بسيطة تشبه البيوت الدمشقية التقليدية، حيث يتكون مدخل الكنيسة الخارجي من باحة صغيرة في صدرها تمثالان، الأول يُجسد حادثة تعميد حنانيا لشاؤول، بينما يظهر الثاني السيدة العذراء، وبين التمثالين يوجد باب منه يمكن النزول إلى الكنيسة التي نُحتت في الصخر وهي بالفعل عبارة عن كهف طبيعي.
وتحتوي أقدم كنيسة في العالم على قاعتين الأولى بشكل طولي تتجه شمالًا وجنوبًا أما الثانية فصغيرى وتقع في الزاوية الشمالية الغربية من القاعة الأولى، ويوجد على جانبيها مجموعة من اللوحات التي تروي قصة بولس الرسول ورحلاته التبشيرية الأربعة التي قام بها بين عامي 46 و62 ميلادي، حيث أخذته هذه الرحلات من القدس إلى أنطاكية، مرورًا بـ قبرص، واليونان، وكريت، حتى وصل إلى روما حيث اختتم مسيرته التبشيرية، ليلقى حتفه على يد سياف نيرون.
وتدعم الغرف في كنيسة حنانيا أقدم كنيسة في العالم أعمدة مربعة الشكل وتتكئ عليها الشعيرية، وفي الداخل فيوجد أيقونسطاس خشبي بسيط غير محفور، يتضمن ثلاثة أبواب ملوكية، وفوقه، تحت السقف مباشرة تم تعليق رايتين روسيتين؛ واحدة للسيد المسيح والأخرى للسيدة العذراء، أما السقف فيحاكي سقوف البيوت الدمشقية التقليدية، التي تعلوها أشجار الحور والصفصاف، ما يضيف لمسة محلية مميزة، ووسط كنيسة حنانيا تنتشر مقاعد الزوار كما يوطد صف من المقاعد الجدارية الخشبية على محيط الكنيسة، بالإضافة إلى عرشين أحدهما بطريركي والثاني أسقفي.
أما عن العرش البطريركي فهو مميز وجميل ومرصع بالصدف، ونُقش عليه عبارة تثبت أنه مُهدى من كنيسة السيدة بطريركي للروم الكاثوليك.
ومن الجدير ذكره، أن كنيسة حنانيا أقدم كنيسة في العالم لا تتضمن زخارف معقدة أو تفاصيل فنية متقنة، حيث أن التصميمات داخلها بسيطة وتركز على الجوانب الروحية والتاريخية أكثر من الجماليات البصرية، وتتميز الكنيسة بجو من البساطة الذي يعكس طابعها كموقع ديني أولاً، بعيدًا عن التركيز على الجانب الفني.
وإذا أردنا شرح أقسام أقدم كنيسة في العالم بالتفصيل، فيمكننا توصيف ذلك على الشكل التالي:
الجهة الشرقية والغربية
- تضم كل جهة غرفتين أرضيتين وأخريين في الطابق العلوي.
- كانت بعض هذه الغرف تُستخدم سابقًا لأغراض إدارية أو تعليمية.
الطبقة الأرضية
- تُشكل المساحة الأساسية للمصلين، وتحتوي على مقاعد خشبية بسيطة ومذبح الكنيسة.
- تتميز ببناء حجري قديم وأرضية مبلطة بشكل تقليدي.
القبة المربعة
- تعلو منتصف الكنيسة، وتوفر إنارة طبيعية وتهوية للمكان.
- تعكس بساطة العمارة الروحية في الكنائس الدمشقية القديمة.
الفناء الجنوبي والشمالي
- فناءان صغيران محيطان بجانبي الكنيسة، يسمحان بمرور الضوء والهواء.
- كانا يُستخدمان للجلوس والتأمل أو للأنشطة الكنسية البسيطة.
الدهليز الغربي
- دهليز مسقوف يتسع قليلاً، يؤدي إلى درج الشعرية.
- يتصل بمرافق الكنيسة الجانبية، ويُستخدم كممر رئيسي داخلي.
بئر الجرسية وبرج الجرس
يقع بجوار درج الشعرية، يحتوي على برج جرس إسمنتي بُني عام 1983، بعد استبدال البرج الخشبي القديم الذي تهالك مع الزمن.
الأبواب الثلاثة
تقع تحت الأروقة، وهي أبواب خشبية محفورة يدويًا بتصميم دمشقي تقليدي، ومُحاطة بزخارف حجرية جميلة، أما الباب الغربي فيتميز بنقوش حجرية تعتبر الأصل بين الأبواب الثلاثة، تعلوه رخامة طليت أثناء الترميم.
الصالون الشمالي
يقع عند نهاية الدهليز في الجهة الشمالية، وكان يُستخدم سابقًا كمكتب إدارة مدرسة حنانيا الرسول الأرثوذكسية، كما تعلوه غرفة إضافية يُصعد إليها من الشعرية.
وبالإضافة إلى ما سبق، تُعرض داخل كنيسة حنانيا أقدم كنيسة في العالم ثلاث لوحات تجسد لحظات تاريخية هامة؛ الأولى تروي حادثة فقدان بصر شاؤول، بينما تُظهر الثانية حنانيا وهو يضع يده على شاؤول ليُعيد إليه بصره. أما اللوحة الثالثة، فتصور بولس وهو ينزل في سلة من على سور دمشق، هروبًا من الموت بعد أن تم الوشاية به.

وفي الختام، تبقى كنيسة حنانيا شاهدة على صفحات مشرقة من التاريخ الديني والروحي لمدينة دمشق، فمن خلال جدرانها القديمة وأيقوناتها البسيطة، تحكي الكنيسة قصة بدايات المسيحية في الشرق.
ولا عجب أن تُعدّ بحق أقدم كنيسة في العالم ما زالت قائمة حتى اليوم، محتفظة بقدسيتها وأصالتها، تستقبل الزوار من كل مكان لتروي لهم حكاية إيمان بدأت من قلب الزقاق المستقيم وما زالت تنبض بالحياة.