تتجلى في رواية “لي أنا أولاً” للكاتبة السعودية جوهرة الرمال رحلة نفسية معقدة ومؤثرة لشخصية ورد، التي تعيش في صراع داخلي مستمر بين توقعاتها لردود أفعال أهلها بعد عودة بصرها المفاجئة، والواقع المرير الذي يقابلها به التشكيك والنكران.
تنسج الرواية حبكة متشابكة تُبرز بشكل بارز عمق الصراعات النفسية والاجتماعية التي تواجهها البطلة، خصوصاً في مواجهة زواج والدها المتحفظ من صديقة طفولتها، إضافة إلى معاناتها في المصحة التي تعتبر محطة مفصلية في تطور شخصيتها.
Contents
ولادة البصر
تبدأ الرواية برسم حالة ورد التي عاشت فاقدة للبصر، لكنها لم تفقد الأمل في عودة بصيرتها التي حملتها كولادة جديدة تنير ظلام حياتها.غير أن الواقع كان أقسى مما تخيلت.
“كم هو صعب وقاس أن نتوق إلى شيء فيضربنا الواقع بطريقته المعتادة” هذه العبارة تلخص جوهر المأساة التي تواجهها ورد.
إذ كانت تتوق لردة فعل أحبائها التي تعكس فرحتهم واعترافهم بعودتها، لكنها صُدمت بردود أفعال النكران والشك والاستبعاد.
هنا يتجلى الصراع النفسي العميق، إذ تبدأ ورد في التشكيك بدورها ذاته، مترددة بين إعلان الحقيقة أو حفظ السر لتجنب الاتهام بالخداع.
الحب خذلان
هذا الصراع يعكس لحظة مأساوية تحوّل فيها “عودة البصر” إلى ولادة جديدة وفي الوقت نفسه موت صغير داخلها من هول الصدمة.
فالحب الذي كانت تنتظره من عائلتها تبدد أمامها، وحل محله شعور بالخذلان والألم، ما جعلها تغوص في دوامة من الصراعات الداخلية التي استعرضتها الرواية ببراعة.

زواج الأب
تزداد حدة الصراع حين يُعلن والدها زواجه من صديقة طفولتها، وهو الرجل المتحفظ الذي ربما لم يعبّر عن مشاعره تجاه ابنته بطريقة ملائمة بعد هذه الأحداث.
زواج الأب، بحد ذاته، شكل صدمة مضافة إلى مشاعر الخيانة والخذلان التي تعيشها ورد، فصديقتها الطفولية أصبحت زوجة والدها، وأيضاً طليقة حبيب طفولتها (فهد)، مما أضاف تعقيداً جديداً على علاقاتها العائلية، وعمّق من عزلة ورد النفسية.
هذه النقطة في الرواية لم تكن فقط مناسبة درامية، بل أيضاً تعبير رمزي عن “الفقدان” الذي يمر به الإنسان عندما يتغير عالمه العاطفي المفترض.
اقرأ أيضا : أنا قبل كل شيء رواية الصدق والصمت والتحول
المصحة النفسية
أما الفصل الذي تدور فيه أحداث المصحة، فيمثل ذروة الصراع النفسي لورد ، فهناك حيث تنكشف أبعاد المعاناة النفسية، وتتكشف شخصية ورد في مواجهتها للظروف القاسية وللذات المتمزقة.
تعكس المصحة المكان الذي يُختبر فيه الإنسان في أقسى حالاته، ويظهر الصراع بين الرغبة في النجاة والحاجة إلى التمرد على الواقع المرير.
الرواية هنا تصف بدقة تدهور الحالة النفسية لورد، والتحديات التي تواجهها في سبيل إعادة بناء ذاتها، وسط بيئة مريبة قد تعزز من إحساسها بالعزلة والرفض.
قرار المغادرة
فقررت ورد أن تغادر منزل أهلها وكانت دوامة المشاعر ما زالت تلاحقها، المتمثلة بحالة من التمزق الداخلي بين جذور الانتماء وغربة الذات، بين مألوف الألم ورغبة التحرر.
كانت كمن يقف على شفير منعرج الحياة، حيث لا يعود بالإمكان التراجع، بل ينبغي الانطلاق نحو مجهول يحمل في طياته إمكانيات الوجود الجديد، رغم مخاوفه.

البيت سجن
في تلك اللحظة، استبد بها شعورٌ عميق بأن المكان الذي كان من المفترض أن يكون ملاذاً آمناً قد تحول إلى سجنٍ نفسي، إذ صار الحائط الصامت شاهداً على الشكوك والهواجس التي نحاها أهلها من عودتها للبصر، وتربصهم بسقوطها الداخلي.
لقد أدركت أن البقاء هناك يعني استمرارية نكوص الذات وانكسارها، وأن الغربة الحقيقية ليست في المكان، بل في هذا الشعور بالخيانة من أقرب الناس.
كان قرار المغادرة إذن بمثابة فعل وجودي، قطيعة مع قيد الماضي، وتحدٍ للظروف التي تُذلّ الروح، وكأنها تعلن لنفسها قبل العالم أنها تستعيد حقها في الوجود بذاتها لا بمرآة الآخرين.
كانت تحمل في قلبها ثقل الألم وحيرة الوحدة، لكنها لم تكن تخلو من بريق أملٍ خافت ينبثق من إرادة الإنسان المتجدد، الساعي إلى أن يكون كينونة حرة في هذا الوجود المتغير.
هكذا، لم تكن مغادرتها مجرد خطوة مكانية، بل لحظة فلسفية عميقة، صراع بين الذاكرة والرجاء، بين الانكسار والتحرر، تدعونا للتأمل في طبيعة الذات وعلاقتها بالعالم وأهلها، وحتمية البحث عن الذات الحقيقية وسط ضباب التشكيك والخذلان.
الأسلوب الأدبي واللغة
أسلوب جوهرة الرمال في السرد متين وموغل في النفس، يحمل في طياته رمزية عالية، ومشاعر مكثفة تتدفق بسلاسة بين صفحات الرواية.
تستخدم الكاتبة لغة فصحى راقية ومركزة، بعيدة عن التعقيد المفرط، لكنها توصل عمق المعاناة النفسية بدقة كبيرة.
الحوار الداخلي وردود الأفعال العاطفية تمثل قلب الرواية، حيث تمكن القارئ من العيش داخل مشاعر ورد، والتأمل في تعقيدات الصراع النفسي والاجتماعي.
كما أسلوبها في سابقتها أنا قبل كل شيء .

الموضوعات
بجانب الصراعات النفسية، تستعرض الرواية أيضاً موضوعات حساسة مثل:
1.التشكيك في النوايا
2.الغربة داخل العائلة
3.الحاجة إلى الاستقلال النفسي
ما يجعلها عملاً ذا بعد إنساني عميق يعكس معاناة العديد ممن عانوا من فهم المجتمع المحيط لهم بشكل غير عادل.
التأمل في الإنسان والعلاقات
في النهاية، تقدم رواية “لي أنا أولاً” لوحة إنسانية مأساوية، لكنها في الوقت نفسه مشجعة على التأمل في طبيعة العلاقات الإنسانية، والحدود الدقيقة بين الحب، الخيانة، والتفهم.
كما تطرح تساؤلات عميقة حول مفهوم الحقيقة في حياة الفرد، ومدى قدرة الإنسان على تجاوز الأزمات النفسية التي تفرضها عليه الظروف الخارجية والعائلية.
هذه الرواية ليست مجرد سرد لحكاية فقدان البصر وعودته، بل دراسة نفسية دقيقة لصراع الإنسان مع ذاته ومع من حوله،رحلة مؤلمة ومشحونة بالأمل في ذات الوقت، تجعل القارئ يغوص في أعماق النفس البشرية ويعيد النظر في مفاهيم الحب والولاء والهوية.
الاقتباسات المختارة
1. 📌 “كم هو صعب وقاس أن نتوق إلى شيء، فيضربنا الواقع بطريقته المعتادة، فتتحول أحلامنا إلى رماد، ونقف وحيدين بين أطلال انتظارنا.”
2. 📌 “كانت عودة بصري ولادة جديدة، لكنها كانت في الوقت ذاته موتًا صغيرًا داخليًا، حين واجهت صدمة التشكيك والنكران من أقرب الناس.”
3. 📌 “الشك الذي طالني من أحبائي كان أشد وقعًا من ظلام فقدان البصر، فكيف لأمل أن يزهر وسط ركام النكران؟”
4. 📌 “حين قررت الرحيل، لم يكن هروبًا من المكان، بل انتصارًا للذات التي أرادت أن تستعيد كرامتها وسط عالم مكسور.”
5. 📌 “الغربة ليست في بعد المكان، بل في أن يكون القلب غريبًا بين من يفترض أن يكونوا الوطن.”
الآراء الثقافية والنقدية
تُعد رواية “لي أنا أولاً” انعكاسًا صادقًا لتحولات الحساسية الفردية في الأدب الخليجي المعاصر، لا سيما في ما يتعلق بصوت المرأة وتجربتها الداخلية.
الكاتبة جوهرة الرمال تمثل تيارًا أدبيًا يذهب بعيدًا في فضح الصمت الاجتماعي، وكشف التناقضات التي تعيشها الشخصيات الأنثوية بين ما يُتوقع منهن وما يشعرن به فعليًا.
ورد ليست بطلة مثالية، بل شخصية مركبة، مكسورة، ومتمردة، تُجسد صراع الإنسان الخليجي مع السلطة الأبوية، والتدين الشكلي، والمفاهيم الموروثة عن الطاعة والولاء الأسري.
الرواية تنتمي إلى الأدب النفسي العاطفي، لكنها تحمل في طياتها نزعة وجودية واضحة، حيث تدور التساؤلات الكبرى حول الهوية، الحقيقة، والخلاص الذاتي.
كما تلامس الرواية مشكلات الصحة النفسية وتسلط الضوء على كيف يُساء فهم المعاناة العقلية والعاطفية في المجتمعات المحافظة، فتُستبدل المساندة بالتشكيك، والرحمة بالرقابة، والاحتواء بالإقصاء.
من هذا المنظور، تسهم الرواية في كسر الصور النمطية حول الفتاة الخليجية، وتُقدّم صوتًا نسائيًا جريئًا، حساسًا، ومحمّلًا بتجربة إنسانية جديرة بالتأمل.
⭐ التقييم النهائي للرواية:
✨ اسم الرواية: لي أنا أولاً
✍️ الكاتبة: جوهرة الرمال
📄 عدد الصفحات: 207 صفحة📚
النوع الأدبي: رواية نفسية نسوية
🧠 موضوع الرواية: صراع داخلي، خذلان عائلي، استقلال نفسي
👩🦰 الفئة المناسبة: +16، لكل من يهتم بالأدب النفسي والاجتماعي
⭐ التقييم العام: 4.5 من 5 ⭐⭐⭐⭐✩