في كتابه الجريء “مهزلة العقل البشري”، يشنّ المفكر العراقي الراحل الدكتور علي الوردي هجومًا صريحًا على العقل العربي، لا لينال منه، بل لإنقاذه من مستنقعات الجمود والتناقض والازدواجية.
إنه كتاب لا يهادن، لا يجمّل الواقع، ولا يراعي مشاعر أولئك المتعلقين بقداسة الفكر الموروث ، هو بمثابة صفعة فكرية توقظ النائم، وتربك اليقين الكسول، وتجبر القارئ على النظر في المرآة بجرأة لم يعهدها من قبل.
“مهزلة العقل البشري” كتاب لا يُقرأ لتُسجّل بعده اقتباسات فقط، بل لتخوض معه معركة فكرية، تخرج منها إما مكسورًا أو متحولًا… لا مجال للحياد.
Contents
السياق التاريخي
لفهم أهمية هذا العمل، لا بدّ من العودة إلى السياق الذي كُتب فيه ، ففي خمسينيات القرن العشرين، كانت المجتمعات العربية والإسلامية تتخبط بين ماضٍ مقدّس ومستقبل غامض، بين خطاب ديني محافظ، وصعود لحركات التحديث القومي والاشتراكي.
وسط هذه الفوضى، ظهر الوردي ليقول بكل صراحة:
“نحن نعيش انفصامًا في الشخصية الحضارية: نقدّس الماضي ونعيش الحاضر بتناقضاته.”
الوردي لم يكن مفكرًا نظريًا فقط، بل كان ابن بيئته العراقية بكل ما فيها من طائفية وصراعات طبقية وفكرية.
فقد عاش في النجف، المدينة الدينية، وتعلم في أمريكا، معقل العلمانية والعقلانية، فكانت كتاباته دائمًا مرآة لصراع داخلي بين التقليد والتجديد.

محور الكتاب
يبدأ الوردي بنقض فكرة مركزية جدًا في الفكر العربي والإسلامي: تقديس العقل البشري.
فالعقل، بحسب الخطاب التقليدي، قادر على إدراك كل شيء، وفهم كل شيء، والتمييز المطلق بين الخير والشر.
لكن الوردي يعارض هذا التمجيد، ويعتبره مهزلة، لأن العقل نفسه محدود ومتحيّز ومحكوم بالبيئة والمصلحة.
“إن العقل البشري لا يعمل في فراغ، بل في بيئة مليئة بالتناقضات والمصالح ،وكلما ظنّ الإنسان أنه يفكر بحرية، كان في الحقيقة أسيرًا لقيود غير مرئية.”
هذه الفكرة تقلب الطاولة على دعاة “العقلانية المطلقة”، وتجعلنا نعيد التفكير في مصادر أفكارنا ومعتقداتنا وسلوكنا.

الازدواجية النفسية
ربما يكون المفهوم الأهم الذي أدخله الوردي إلى الساحة الفكرية العربية هو الازدواجية النفسية ، هذه الظاهرة التي يعاني منها الفرد العربي، حيث يعيش بقيمتين متناقضتين: واحدة يُعلنها في العلن، والأخرى يُمارسها في السر.
يحب العدالة لكنه يظلم، يمجّد الزهد وهو مهووس بالمظاهر، يتحدث عن الشرف وهو يغش ويكذب.
“نحن نمجّد قيم السماء، لكننا نعيش بثقافة السوق.”
ويعتبر الوردي أن هذه الازدواجية ليست خللًا أخلاقيًا بقدر ما هي خلل في البنية الثقافية والاجتماعية ، هي نتيجة لقرون من التناقض بين الخطاب الديني المثالي، والواقع الاجتماعي الفاسد.
نقد البلاغة والخطاب الفارغ
من أكثر فصول الكتاب إثارة للانتباه، ذلك الذي يهاجم فيه الوردي الخطاب البلاغي العربي، فالمجتمع، في رأيه، مفتون بالكلمات الرنانة والشعارات، بينما يحتقر الفكر التحليلي والعلمي.
وهكذا أصبحت المنابر أداة تخدير، وليست وسيلة وعي.
“الخطيب الذي يصيح: الله أكبر، يُصفّق له الناس، حتى لو كان كلامه فارغًا من أي معنى. أما الباحث الذي يطرح سؤالًا صعبًا، فيُتّهم بالكفر والزندقة.”
هنا نجد نقدًا واضحًا لنمط التفكير الجمعي الذي يرفض النقد ويعشق التمجيد، والذي ينتهي عادة إلى تأليه الأشخاص بدل مناقشة أفكارهم.
الوردي ومعاوية
من الجرأة اللافتة في الكتاب، أن الوردي يتناول شخصيات تاريخية بحسّ تحليلي سوسيولوجي، لا انفعالي ،فيتحدث عن علي بن أبي طالب كرمز للمبدأ، في مقابل معاوية كرجل سياسة.
ويطرح سؤالًا شائكًا:”من الذي كانت تحتاجه الأمة حينها: رجل مبادئ يواجه التاريخ بصدقه؟ أم رجل دهاء يساير الزمن بمكره؟”
إن الوردي لا يُنقص من قدر أيّ من الشخصيتين، لكنه يدعو إلى تحليل الأحداث بمعايير اجتماعية وسياسية واقعية، لا بمعايير تقديسية عاطفية،وهو في هذا يفتح بابًا لفهم التاريخ كديناميكية بشرية، لا كحكاية طوباوية.

العقل الديني والأيدولوجيا
في حديثه عن الفكر الديني، لا يسعى الوردي إلى هدمه، بل إلى تنقيته من الأيدولوجيا والتوظيف السياسي ،فهو يرى أن الأديان في جوهرها جاءت لتحرير الإنسان، لكنّ رجال الدين، عبر العصور، جعلوا منها أداة للضبط الاجتماعي والسياسي.
“الدين بدأ ثورة، لكنه انتهى إلى مؤسسة تقمع كل ثورة.”
هنا تتجلّى رؤية الوردي لمهمة المفكر: أن يفكك الخطاب السائد، ويعيد الإنسان إلى التفكير الحرّ.
مقارنة بين “مهزلة العقل البشري” و”وعاظ السلاطين”
يرتبط “مهزلة العقل البشري” بشكل وثيق بكتاب آخر للوردي هو “وعاظ السلاطين”.
وإذا كان الثاني يركّز على دور رجال الدين في تثبيت الظلم باسم الفضيلة، فإن الأول يحلّل المنظومة العقلية التي أنتجت هذا القبول الشعبي للاستبداد.
في “مهزلة العقل البشري”، يتحدث الوردي عن كيف يتم تلقين الناس قبول التناقضات، أما في “وعاظ السلاطين”، فهو يحلّل الآليات الدينية التي تستغل هذا القبول لصالح الحاكم.
إنهما كتابان متكاملان، الأول يشرّح العقل، والثاني يفضح الخطاب.

اقرأ أيضا :ورد… لي أنا أولا !
البيئة العراقية
ما يجعل كتابات الوردي مختلفة عن التنظيرات العربية الأخرى، أنها متجذرة في الواقع العراقي، فقد عاش الوردي تحولات المجتمع من الإقطاع إلى الدولة الحديثة، ومن الطائفية إلى القومية.
وكان يرى الصراع الطبقي والديني والمذهبي ليس مجرد خلافات، بل تجلّيات لعقل مأزوم.
“العراقي ليس طائفيًا لأنه يكره الآخر، بل لأنه لم يجد في النظام ما يضمن له العدالة، فاحتمى بالهوية الضيقة.”
من هنا، فإن كل أفكار الوردي تنبع من معايشة حقيقية للمعاناة اليومية للناس، لا من التنظير الأكاديمي فقط.
الوردي والحداثة
رغم تأثره بالمدارس الغربية، فإن الوردي لم يكن مجرد مقلّد للفكر الغربي بل دعا إلى تحديث داخلي نابع من احتياجات الواقع العربي.
لم يدعُ لقطيعة مع التراث، بل لنقده وإعادة قراءته.
“نحن لا نحتاج إلى التغريب، بل إلى تحرير عقولنا من أصنامها.”
وهذا ما يجعل أفكاره مقبولة لدى طيف واسع من الناس، حتى من لم يتفق معه في كل شيء.
اقرأ أيضا :خاوية – وجع يقطر من الحروف
ردود الفعل على الكتاب
لا يمكن الحديث عن الكتاب دون التطرق إلى الجدل الذي أثاره ،فقد اتُهم الوردي بالكفر، بالعداء للدين، وبالخروج على “ثوابت الأمة”.
لكن في المقابل، وجد فيه كثيرون مفكرًا صادقًا يحترق لينير الطريق،وحتى اليوم، لا تزال مقاطع من الكتاب تُتداول بكثرة، ويتحول اسمه إلى هاشتاغ للتمرّد العقلي والفكري.

هل تغيّر شيء منذ “المهزلة”
السؤال المؤلم الذي يطرحه القارئ بعد الانتهاء من هذا الكتاب هو: هل تغيّر شيء؟للأسف، كثير من مظاهر الازدواجية والتناقض والتقديس الأعمى لا تزال حاضرة.
بل لعلها تفاقمت بفعل الإعلام والتكنولوجيا، حيث ازدادت الشعارات وقلّ الوعي. وكأن الوردي ما زال يكتب لنا من قبره.
“ما أكثر الذين يعبدون الأصنام وهم يظنون أنهم أحرار.”
اللغة والأسلوب
يمزج الوردي في لغته بين التحليل العلمي والسخرية اللاذعة، مما يجعل القراءة ممتعة وموجعة في آن، أسلوبه بسيط لكنه لا يُجامل، مباشر لكنه غير فظّ ،إنه يكتب كما يتنفس، بلا أقنعة.
“المأساة الحقيقية ليست في الجهل، بل في من يظن نفسه عارفًا وهو غارق في الأوهام.”

“مهزلة العقل البشري” ليس مجرد كتاب، بل رحلة فكرية محفوفة بالخطر ،من يقرؤه لا يخرج كما دخل، قد ينقلب على نفسه، أو على مجتمعه، أو على تاريخه.
لكنه حتمًا سيبدأ في طرح الأسئلة الصعبة ،هو كتاب لا يعطيك أجوبة نهائية، بل يفتح جراحًا تحتاج إلى تفكير طويل وشجاع.
في زمن تتكاثر فيه الشعارات، وتُستهلك فيه الكلمات، يظل علي الوردي صادقًا مع قارئه، كما كان صادقًا مع نفسه… فهل نملك شجاعة الصدق مثله؟
التقييم النهائي
📘 اسم الكتاب: مهزلة العقل البشري
✍️ الكاتب: د. علي الوردي📄 عدد الصفحات: 330 تقريبًا
🌟 التقييم : ⭐⭐⭐⭐⭐ (5/5)
🎯الفئة المستهدفة: القراء البالغين، المهتمين بالنقد الاجتماعي والفكر العربي
📚 نوع الكتاب: فكر اجتماعي، تحليل نفسي ثقافي
✅ موصى به: نعم، وبقوة، خاصة للباحثين عن فهم عميق لمجتمعاتنا العربية 🔍💭