هناك كتب لا تُقرأ، بل تُشعر. تُمسّ الروح قبل أن تلمس الذهن، وتؤلم القلب قبل أن تعلّم العقل. وكتاب “ممتلئ بالفراغ” واحد من تلك الكتب التي لا تُعطيك إجابات بقدر ما تكشف لك الأسئلة، ولا تُنهي وجعك بقدر ما تُسمّيه، وكأن التسمية أول الطريق نحو النجاة.
منذ الصفحة الأولى، يدرك القارئ أنّه لا يقرأ طبيبًا نفسيًا، بل يقرأ إنسانًا مُتعَبًا، عاش كثيرًا، وانكسر كثيرًا، وقرر أن يُنقّب داخل الظلام ليجد الكلمات.
ذلك النوع من الكتابة التي تأتي من باطن الألم، لا من سطحه، ومن صدق التجربة لا من فخّ التنظير.
الفكرة الأساسية التي يبني عليها الكاتب كتابه تبدو بسيطة في ظاهرها:
نحن ممتلئون… لكن بالفراغ.
ولكن ما أبعد المسافة بين اللفظة وما تحمله في أحشائها من أسئلة، من خسارات، من أصوات مكتومة تبحث عن معنى.
اقرأ أيضا :“أبي الذي أكره” د. عماد رشاد عثمان
Contents
ما بين الامتلاء والفراغ
يضع الكاتب إصبعه منذ البداية على جرح نعيشه جميعًا:
ذلك الشعور المتناقض بأننا محاطون بكل شيء… لكننا خاوون من الداخل.
وقد لخص هذه الحالة في أحد اقتباساته حين كتب:
“كم مرة ظننتَ أنك بخير فقط لأنك مشغول؟”
هذه الجملة وحدها تكفي لتلخيص فلسفة الكتاب.
فالبشر اليوم يهربون من داخلهم إلى الخارج، ينشغلون كي لا يفكروا، يركضون كي لا يسمعوا الصوت الوحيد الذي يخشونه: صوت الذات.
ومع أنّ الكتاب قصير الصفحات، إلا أنّه عميق المعاني.
كل فقرة فيه تُشبه طرقة خفيفة على بابٍ أغلقناه منذ زمن، باب الهشاشة التي نخاف أن نفتحها.

لغة الكتاب
أسلوب د. عماد رشاد هنا يشبه حديثًا مسائيًا طويلًا بين شخصين يعرفان بعضهما أكثر مما يجب.
لا يتكلّف، لا يجمّل، لا يختبئ خلف مصطلحات نفسية أو فخامة لغوية. بل يقول الأشياء ببساطتها الموجعة.
يكتب كما لو أنه يعتذر للعالم، وكما لو أنه يعترف لروحه، وكأن كل سطر محاولة مصالحة بين الإنسان والطبيب الذي في داخله.
يقول في أحد المقاطع المؤثرة:
“لم أكتب لأُعلّمك، بل لأخبرك أنك لست وحدك.”
هذه الجملة هي روح الكتاب.
ليست الغاية تقديم وصفات نفسية، بل خلق مساحة آمنة ليعترف كل قارئ بما يحاول أن يدفنه.
اقرأ أيضا : أحببت وغدًا .. ونجوت
رحلة داخل النفس
يمرّ الكاتب على موضوعات عدّة: الوحدة، القلق، التعلّق، العلاقات المتعبة، الاحتراق النفسي، الخسارات الصامتة، وحتى فكرة أن الإنسان قد يكون محاطًا بالناس لكنه لا يجد شخصًا واحدًا مهما قال: “أنا متعب.”
يقول:
“هناك وجع لا تستطيع أن تشاركه، لأنك تخشى أن يفسّره الناس على أنه مبالغة.”
هذا هو فراغ الإنسان المعاصر:
الفراغ الذي لا يراه أحد، ولا يلمسه أحد، ولا يسمعه أحد… لكنه يلتهم صاحبه من الداخل.
واللافت أنّ الكاتب يُصرّ في أكثر من موضع على ضرورة المصالحة مع هذا الفراغ بدلًا من محاربته.
ففي نظره، مواجهة الفراغ خطوة أولى لملئه بما يستحق، لا بما يشتّت.

العلاقات البشرية كما يراها الكاتب
من أعمق أجزاء الكتاب تلك التي يتناول فيها العلاقات.
فهو لا يزوّق الحقيقة، بل يقولها كما هي:
“ليس كل من أحببناه قادرًا على منحنا الأمان. وليس كل من منحناه قلوبنا قادرًا على حفظها.”
يُظهر الكاتب فهمًا نفسيًا وواقعيًا للعلاقات البشرية، كأنه يذكّر القارئ بأنّ الحب وحده لا يكفي، وأن الأمان العاطفي قيمة لا تُكتسب بسهولة.
ويتناول أيضًا فكرة التعلّق المرضي، وكيف يظن الإنسان أنّ وجود الآخر هو الحل، بينما الحقيقة أن:
“أكثر العلاقات إنهاكًا هي تلك التي تتعلق فيها بآخر لتنجو من نفسك.”
بهذه الفلسفة، يمشي الكتاب على حافة دقيقة بين النصيحة والتجربة الشخصية، بين النقد والمواساة، وبين التحليل والاعتراف.
الأسئلة الكبرى: لماذا نشعر بهذا الفراغ؟
يطرح الكاتب أسئلة كثيرة دون أن يدّعي امتلاك الحل.
لماذا نشعر بفراغ رغم الإنجازات؟
لماذا يستنزفنا العطاء؟
لماذا تؤلمنا الذكريات أكثر مما يجب؟
لماذا نصمت حين نحتاج للكلام؟
ولماذا نخسر أنفسنا ونحن نحاول الحفاظ على الآخرين؟
هذه الأسئلة ليست فلسفية فقط، بل نفسية وإنسانية، ومع ذلك يختار الكاتب أن يتعامل معها كأنها جروح يجب لمسها لا تحليلها فقط.
ويقول:
“أحيانًا يكون الفراغ علامة على أنك لم تعُد تشبه حياتك.”
وهنا تكمن قوة الكتاب:
هو لا يعرض الفراغ كمشكلة… بل كجرس إنذار.
كعلامة على ضرورة التغيير.
كتذكير بأن الإنسان لا يمكنه الاستمرار في العيش بلا معنى مهما بدا مشغولًا.
متلازمة الانهيار الصامت
يتطرّق الكاتب لجانب مهم من علم النفس المعاصر: الانهيار الذي لا يراه أحد.
الإنسان الذي يضحك مع الجميع لكنه يبكي حين يعود.
الذي يبدو قويًا من الخارج لكنه ينهار في داخله في اللحظات التي لا يراه فيها أحد.
يقول في أحد أعمق المقاطع:
“أصعب أنواع التعب هو ذلك الذي لا تستطيع أن تشرح سببه.”
هذه الجملة وحدها تكفي لتفسير آلاف الانهيارات التي تحدث خلف الأبواب المغلقة.
كتاب “ممتلئ بالفراغ” يقدّم وصفًا شبه دقيق لهذه الظاهرة، دون أن يسقط في الوعظ، بل يتعامل معها باحترام عاطفي كبير.

حب الذات
يؤكد الكاتب مرارًا أن الاهتمام بالذات ليس أنانية، وأن التعبير عن الضعف ليس سلبية، وأن طلب المساعدة ليس عيبًا.
ويكتب:
“أن تقول لا… شكل من أشكال النجاة.”
هذه الفكرة – رغم بساطتها – تُعتبر مفتاحًا مهمًا لفهم الكتاب.
فالفراغ الداخلي في نظره كثيرًا ما يأتي من تجاهل الاحتياجات، ومن الانحناء المتكرر لإرضاء الآخرين، ومن الاستهلاك النفسي الذي نمارسه دون وعي.
وهو يعترف بصدق في موضع آخر:
“لم أتعافَ حين فهمت الآخرين… بل حين فهمت نفسي.”
الكتابة كنجاة
ما يجعل الكتاب قريبًا من القارئ أن الكاتب لا يقدّم نفسه كخبير فوق البشر، بل كإنسان يحاول أن يتعافى من حياته.
يلمح القارئ وراء الكلمات إنسانًا مرهقًا، يحاول أن يفهم نفسه كما يفهم الآخرين.
ولأن الكتاب قصير، فهو يشبه رسالة طويلة كتبها شخص متعب لشخص متعب، محاولًا أن يقول له:
“أعرف هذا الوجع… لأنني مررت به.”
يقول:
“نم جدًّا، وابكِ حين تحتاج، وابتعد حين تتأذّى. لا شيء أهم من سلامك.”
بناء الكتاب
يتميز الكتاب ببناء بسيط:
– فقرات قصيرة.
– موضوعات متفرقة.
– أفكار سريعة لكنها موجعة.
– جمل قليلة لكنها مشبعة بالمعنى.
هذا البناء يجعل القراءة سهلة، لكنه يجعل التأثير أشد.فكل فقرة تُشبه صفعة لطيفة، وكل جملة تبدو كأنها كُتبت بعد معركة طويلة بين القلب والعقل.
من هو القارئ المناسب لهذا الكتاب؟
هذا الكتاب مناسب لكل شخص:
- يبحث عن معنى.
- يشعر بالتشتت.
- يعاني من علاقة مرهقة.
- يشعر بأن إنجازه لا يشبهه.
- يحاول أن يتعافى لكنه لا يعرف من أين يبدأ.
- يهرب من نفسه إلى العالم.
ليس كتابًا علاجيًا رسميًا، ولا دليلًا نفسيًا، بل رفيق روح رفيق يمشي معك خطوة، يربّت على كتفك، ويقول لك بهدوء:
“أنا أيضًا أعرف هذا المكان المظلم… وستخرج منه.”
هناك كتب تُقرأ ثم تُنسى، وهناك كتب تُقرأ ثم تبقى تسكن فينا بصمت. و”ممتلئ بالفراغ” من النوع الثاني؛ كتاب صغير بحجمه، عميق بوجعه، يشبه مرآة ليست جميلة، لكنها صادقة. وهذا وحده يكفي كي نتوقف طويلًا عندها.
ما يجعل هذا الكتاب مختلفًا ليس لغته، ولا أسلوبه السهل، ولا كثافة معانيه، بل صدقه. ذلك الصدق الذي يجعل القارئ يشعر كأنه يسمع نفسه بين السطور. كأن الكاتب كتب ما لم يستطع هو قوله، وسمّى ما لم يستطع هو الاعتراف به.
الكتاب ليس محاولة تفسير بقدر ما هو محاولة مواساة. ليس درسًا في علم النفس، بل درسًا في الإنسان.
وحين تطوي صفحته الأخيرة، تشعر بشيء غريب:
الفراغ لم يختفِ… لكنه أصبح مفهومًا.
الوجع لم يزُل… لكنه أصبح مُسمّى.
والضياع لم يختفِ… لكنه صار طريقًا يبدأ منه شيء جديد.
ربما هذا هو جوهر الكتاب:
أن التفهّم أحيانًا أعمق من الحل.
وأن الاعتراف بالهشاشة قد يكون أول أبواب القوة.
وأن الإنسان – مهما بدا قويًا – يحتاج لكلمة، لحضن، لصمت، لصفحة، تعيد ترتيب روحه وتقول له:
“لا بأس… أنت تُحاول. وهذا يكفي.”
التقييم النهائي
- اسم الكتاب: ممتلئ بالفراغ
- اسم الكاتب: د. عماد رشاد عثمان
- عدد الصفحات: 128 صفحة
- التقييم: ⭐⭐⭐⭐☆ (4/5)
- الفئة المناسبة: القراء المهتمون بالنفس البشرية، التطور الذاتي، فهم العلاقات، وكل من يعيش حالة تعب داخلي أو فراغ عاطفي/وجودي.
- اللغة: العربية
- الموضوع: كتاب تأملي نفسي يتناول الهشاشة الإنسانية، الفراغ الداخلي، العلاقات المتعبة، واكتشاف الذات.










