اقرأ معنا

سأخون وطني صرخة ضد العبث والخذلان

حين نفتح كتاب “سأخون وطني” للشاعر والكاتب السوري محمد الماغوط، فإننا لا ندخل نصاً عادياً ولا نقرأ مجرد مجموعة مقالات ساخرة، بل نلج عالمًا تتجسد فيه خيبات الإنسان العربي، وانكساراته، وأحلامه الضائعة وسط أنظمة قمعية وبنى اجتماعية مهترئة.

الماغوط لا يكتب ليُجامل ولا ليُرضي أحداً. هو شاعر خرج من قلب الفقر، ومن تربة قاسية، ومن خيبات متكررة. لم يضعف قلمه، بل جعله حاداً كالسيف، وساخراً كابتسامة الموت، وصادقاً حدّ الألم.

كتاب “سأخون وطني” هو في جوهره سيرة جماعية للأمة العربية أكثر من كونه مجرد خواطر شخصية. الماغوط يضع إصبعه على جراحنا، يعرّي أنظمتنا، ويصرخ في وجوهنا بلا خوف:

“وطني حذاء قديم، سأخلعه متى أشاء وأضعه تحت سريري.”

بهذا الاستهلال العنيف، يبدأ الماغوط سلسلة من الاعترافات المدوية التي جعلت كتابه أيقونة في الأدب السياسي الساخر، ومرآة تعكس هشاشتنا الجمعية.

اقرأ أيضا :الطريق إلى بئر السبع الانتماء والهوية


الماغوط بين الشعر والنثر

قبل أن نغوص في تفاصيل الكتاب، لا بد من الوقوف عند شخصية محمد الماغوط نفسه. شاعر التفعيلة الحرّة، وصاحب نصوص مسرحية لا تزال تُعرض حتى اليوم. لكنه في “سأخون وطني” تخلّى عن الوزن والقافية ليتبنى نثرًا فجّاً، مباشراً، عارياً من أي زينة، كما لو أنه يريد أن يقول: “لقد سئمت من الشعر الجميل، العالم قبيح ولا يستحق إلا لغة قبيحة تكشف عوراته”.

أسلوبه هنا هجائي، ساخر، سوداوي، لكنه مشبع بروح شعرية تجعلك وأنت تقرأ تشعر أنك تلتهم قصيدة طويلة، وإن كانت بلا وزن ولا موسيقى.

اقرأ أيضا :بينما ينام العالم أبو الهيجاء وفلسطين


معنى الخيانة عند الماغوط

العنوان وحده صادم: “سأخون وطني”. الخيانة في القاموس الأخلاقي جريمة كبرى، لكن الماغوط يقلب المفهوم رأساً على عقب. هو لا يخون الوطن الحقيقي، بل يخون الوطن الزائف الذي اغتصبته الأنظمة، وسرقه تجار الشعارات، وحوّلوه إلى سجن كبير.

الخيانة عنده هي فعل مقاومة: أن تقول “لا” حين يطلبون منك الصمت. أن تفضحهم حين يريدون منك التصفيق. أن ترفض أن تكون رقماً في طابور العبودية.

فيقول:

“وطني يطلب مني أن أصفق له، أن أصفق للجلاد وهو يجلدني، أن أصفق للمشنقة وهي تُنصب لأخي، أن أصفق للجوع وهو ينهشني… لا، سأخون هذا الوطن.”

بهذا المنطق، تصبح الخيانة ولاءً للحقيقة، بينما الطاعة والخضوع خيانة للإنسان.


الأسلوب: سخرية مرة كالعَلْقم

لغة الماغوط في هذا الكتاب ليست حيادية، إنها لغة تفيض بالمرارة. يكتب كما لو أنه يضحك ويبكي في الوقت نفسه. السخرية عنده ليست للتسلية، بل أداة لفضح الكذب.

حين يكتب عن الشعارات التي يرفعها الحكام العرب، يبدو كمن يُطلق نكاتاً، لكنها نكات مُرّة تُشعل في القارئ غضباً أكثر مما تُثير ضحكاً.

“في الوطن العربي، كل شيء مؤجل إلى أجل غير مسمى: الحرية، الديمقراطية، الوحدة، العدالة… وحدها القمع والضرائب تُفرض فوراً.”

إنه يختزل واقعاً طويلاً في جملة واحدة، كأنه يصفعنا بها لنفيق من سباتنا.


نقد الواقع السياسي

الكتاب في معظمه بيان سياسي ساخر. الماغوط لا يترك شيئاً إلا هاجمه:

الأنظمة العسكرية التي حولت الوطن إلى ثكنة.

الأحزاب السياسية التي تتاجر بالشعارات.

المثقفون المزيّفون الذين يبيعون أقلامهم للحاكم.

الإنسان العربي المقهور الذي لا يملك سوى التذمر في الخفاء.

يقول:

“في الوطن العربي، المواطن لا يملك من حقوقه إلا حق الموت، وحتى هذا الحق قد يُسحب منه أحياناً.”

هنا تتجلى جرأة الماغوط في مواجهة الاستبداد. هو لا يجامل ولا يلتف، بل يضع الحقيقة على الطاولة، مهما كانت مرعبة.


الماغوط والإنسان العربي

رغم كل شيء، يظل الماغوط مشغولاً بالإنسان البسيط: الفلاح، العامل، العاطل عن العمل. يرى فيهم صورة نفسه. هو لا يكتب من برج عاجي، بل من خيمة فقيرة مبللة بالمطر.

“أنا لا أملك شيئاً، حتى أحزاني مستأجرة.”

بهذه العبارة، يلخص الماغوط تجربة ملايين العرب الذين سحقهم الفقر. وهو إذ يفضح الأنظمة، فإنه في الوقت نفسه يصرخ باسم هؤلاء المساكين الذين لا صوت لهم.


جرأة لا حدود لها

أحد أسباب خلود “سأخون وطني” هو جرأة الماغوط المطلقة. لم يخف من اتهامات “الخيانة”، ولم يساوم على كلمته. كتب كما لو أنه يكتب وصيته الأخيرة.

القارئ حين يتنقل بين صفحاته، يشعر وكأنه يسمع رجلًا يقف على حافة الهاوية ويصرخ بكل ما لديه، غير آبه بالعواقب.

هذه الصرخة الحرة هي ما جعلت الكتاب محبوباً عند جيل الشباب، ومكروهاً عند الأنظمة في آن واحد.


بين العبث والأمل

قد يبدو الكتاب كله سوداويًا، لكن بين السطور يلمع أمل صغير. أمل في أن نكف عن الاستسلام. أمل في أن يدرك الإنسان العربي أن الصمت هو موت بطيء.

الماغوط يائس نعم، لكنه يأسٌ يستفز القارئ لينهض. هو أشبه بجرس إنذار، أو بصفعة توقظ من سبات طويل.


اقتباسات مختارة

✦ “الوطن العربي يشبه خزانة ملابس قديمة: كل شيء فيه عتيق إلا المشانق فهي جديدة.”
✦ “حين أفكر في وطني، أمدد قدميّ وأنام.”
✦ “إنني أتنفس تحت الماء منذ أن عرفت نفسي، فهل يلومني أحد إذا غرقت؟”
✦ “أنا حزين لأنني لم أولد كلباً في بلاد أجنبية.”


تقييم نقدي

“سأخون وطني” ليس كتاباً تقليدياً. لا يُمكن أن نضعه في خانة المقالات السياسية الباردة، ولا في خانة الأدب النثري الخالص. هو مزيج فريد من النقد السياسي، السخرية السوداء، الشعر الممزق، واليأس الصارخ.

قوته تكمن في:

  1. جرأته الفريدة في فضح الاستبداد.
  2. أسلوبه الساخر الذي يجمع بين الضحك والبكاء.
  3. عمقه الإنساني، إذ لا يتحدث عن السياسة فقط، بل عن الإنسان المطحون.

أما نقاط الضعف فهي:

تشاؤمه المفرط الذي قد يدفع بعض القراء إلى الإحباط بدل التمرد.

تكرار بعض الأفكار، إذ يعود دائماً إلى نفس المحاور (القمع، الفقر، الشعارات الزائفة).

لكن هذه المآخذ لا تقلل من قيمة الكتاب، بل ربما تضيف إلى صدقه، لأنه يُكتب من قلبٍ موجوع، لا من عقلٍ بارد.

الماغوط والسخرية العربية المعاصرة

حين نتأمل أسلوب محمد الماغوط في “سأخون وطني”، نجد أنه ينتمي إلى تقليد طويل من الأدب الساخر في العالم العربي. لكن الفارق أن الماغوط لم يستخدم السخرية كزينة لغوية أو كأداة للضحك فقط، بل جعلها سلاحاً لفضح القمع والاستبداد.

مقارنةً به، نجد الشاعر العراقي أحمد مطر قد كتب هو الآخر هجاءً سياسياً لاذعاً، لكنه اعتمد القصيدة الشعرية الموجزة كسلاح، بينما الماغوط لجأ إلى النثر الحر والمقالة الساخرة الممتدة. أحمد مطر يصرخ في بيتين أو ثلاثة، أما الماغوط فينسج مشهداً كاملاً، مليئاً بالسخرية السوداء.

أما الكاتب المصري جلال عامر، فقد عُرف بسخريته السياسية في الصحافة، لكنه ظل في إطار المقالة الصحفية اليومية، حيث يكتفي بلمزات ذكية. بينما الماغوط ذهب أبعد، إذ جعل كتابه مانيفستو كاملاً للخذلان العربي، لا مجرد تعليق سريع على حدث عابر.

هذه الفوارق تبرز أن الماغوط لم يكن كاتباً ساخراً فحسب، بل كان صوتاً وجودياً يرى في السخرية خلاصاً من العبث، وفي التهكم وسيلة للبقاء. لقد حوّل الكتابة إلى شكل من أشكال المقاومة، وجعل القارئ يضحك بحزن، ويبتسم بمرارة، ويشعر أن النص ليس مجرد أدب بل قدر أمة كاملة مكتوب بالحبر الأسود.


يبقى كتاب “سأخون وطني” علامة فارقة في الأدب العربي الحديث. نصوصه تظل صالحة لكل زمان، لأننا للأسف ما زلنا نعيش ذات المآسي التي وصفها الماغوط قبل عقود.

هو كتاب يجب أن يُقرأ لا لمجرد الاستمتاع، بل كصفعة توقظ الضمير. فالماغوط لم يكتب ليُضحكنا، بل ليُحرضنا على مواجهة حقيقتنا المؤلمة.

إنه كتاب مؤلم، لكنه ضروري. صادم، لكنه صادق. وربما هذه الصدق هو ما يجعلنا نعود إليه مراراً، لنجد فيه أنفسنا، رغم كل المرارة.


التقييم النهائي 📖

اسم الكتاب: سأخون وطني

الكاتب: محمد الماغوط

عدد الصفحات: حوالي 230 صفحة

التقييم: ⭐⭐⭐⭐✰ (4.5 من 5)

الفئة المناسبة: كل قارئ يبحث عن الحقيقة العارية، محبي الأدب السياسي الساخر، الشباب الباحثين عن وعي مختلف.

اللغة: عربية سلسة، ممتزجة بسخرية سوداء.

الموضوع: نقد سياسي/أدب ساخر/صرخة ضد الاستبداد.

السابق
مدينة سرجيلا الميتة: شاهد على حضارة سورية عريقة
التالي
كتاب “نادي الخامسة صباحًا” – روبن شارما