اقرأ معنا

خاوية – وجع يقطر من الحروف

حين تنتهي من قراءة رواية خاوية، لا تضعها جانبًا كما تفعل مع سواها، بل تضع جزءًا منك معها، وتبقى أيامًا تتساءل: هل يمكن للألم أن يُكتب بهذا العمق؟ هل يمكن للوجع أن يُنسَج بهذا الجمال الفادح؟

رواية خاوية للكاتب الدكتور أيمن العتوم ليست فقط رحلة في دهاليز النفس البشرية، بل في أقبية السياسة والسجون والموت، وفي ظلال الحب والخذلان والتوحّد، وفي أعماق الخراب الذي يسمونه الحرب ،إنها رواية لا تُقرأ بل تُعاش، لا تُنهيها بل تنهيك.

اقرأ أيضا :رحلة ورد من الظلام إلى البوح

مثلث الألم الإنساني

عز الدين وليلياس وبدر ثلاث شخصيات، متباعدة ظاهريًا، لكنها تشترك في شيء واحد: كلها مكسورة.

عز الدين، الأستاذ الجامعي في علم النفس، رجل فاقد لكل شغف، محطم من الداخل، مطارد بذاكرة الفقد، يتعامل مع الحياة بوصفها واجبًا باردًا يجب تأديته كل يوم، بلا أمل، بلا حلم، بلا انتظار.

وليلياس، الطفلة السورية الهاربة من جحيم الحرب، لم تهرب من وطنها فقط، بل من إنسانيتها، من طفولتها، من براءتها المسلوبة على أبواب المعتقلات.

وبدر، الطفل الذي يمثل عالمًا خاصًا، منطويًا في صمته، غارقًا في نظامه الداخلي المتشظي، هؤلاء الثلاثة، بطرق مختلفة، يجسّدون الخواء الذي عنون الرواية، ويجعلونه محسوسًا في أعصاب القارئ، لا مجرد كلمة على غلاف.

التوحّد

في البداية، في القسم الأول ، كان المشهد الأكثر إنسانية، وأكثر قربًا للقلب، هو وصف الدكتور أيمن العتوم لحالة بدر، الطفل الذي يعاني من التوحّد.

كتب عنه لا كحالة طبية، بل ككائن نبيل يرى العالم بطريقة مختلفة، كروح نقيّة تستعصي على الضجيج والتوقعات الاجتماعية.

كان وصفه عميقًا، حقيقيًا، مليئًا بالحب والإدراك والدهشة.

لقد انغمست معهم لدرجة أنني تخيلتُ بدر وهو يهوي على ابن فريال بالمقص، تخيلتُ ملامح وجهه الباردة وعينيه الوادعتين، تخيلتهُ وهو قائم ليلاً ليدور في دائرة قطرها 3 أمتار، تخيلتُ الجدران البيضاء التي يرسم عليها ما يحفظ بذاكرته ،سعدتُ جداً بابتسامته الأولى وضحكته الأولى وكلماته الأولى وكأنني أمه.

أبدع الدكتور أيمن عندما وصف حالة التوحد لدى الأطفال، وكيفية التعامل معهم وكيفية تعبيرهم عن ما يريدون، أحببتُ بدراً.

لا يمكنك قراءة هذا القسم دون أن تتعاطف، دون أن تحسّ بالأمومة تجاه بدر، دون أن تشعر أن ما يفعله الطفل من صمت أو تكرار هو نداء مختلف للحياة.

الجحيم السوري

ثم، دون إنذار، تنتقل الرواية إلى قلب الجحيم،من صمت التوحّد إلى صراخ المعتقلات،من وجوه بريئة كـ بدر، إلى وجوه ملوثة بالحقد والدم، وجوه الجلادين الذين لا يرفّ لهم جفن وهم يسحقون الأطفال والنساء والرجال.

تُروى الحرب السورية هنا من الداخل، من خلايا المعتقل، من وجع الأطفال، من انهيار المدن، من الذكريات التي تحولت إلى رماد.

تعيش مع “ليلياس” تفاصيل الجحيم، كأنك هناك، كأنك تسمع الصراخ، وترى الدم، وتشتم رائحة الرطوبة والجدران التي تتنفس الخوف.

“في القسم الثاني ترميك الرواية في أقصى الجحيم، تشعر وكأنك ترى الحرب بأمّ عينيك ، مفجعة حد الموت ومؤلمة حتى الصراخ قهرًا ، كيف لبشرٍ أن يكونوا بهذا القدر من الوحشية؟ ما ذنب سورية؟ ما ذنب حنين وزياد وليلاس؟ ما ذنب ليث وشادي؟ ما ذنب تلك الصداقات القديمة؟ أكلت الحرب الحياة! صارت الحياة شبحًا يطوف حول الحرب! فالحرب هي سيدة الموقف!

الحرب، كما صوّرها العتوم، لم تكن فقط دمارًا خارجيًا، بل دمارًا داخليًا،حتى من نجا، لم ينجُ حقًا،حتى من خرج من السجن، خرج منه جسدًا، وبقيت روحه خلف القضبان.

وتُظهر الرواية كيف أن الطبع الإنساني يعود رغم كل شيء ،زياد مثلًا، الجلاد، في لحظة ضعف، يُدرك ما فعله، فينتحر، لا هربًا من العدالة، بل عقابًا لذاته التي لم تعد تتحمل مرآتها.

“فالحرب تُغير الطباع ربما، لكن في وقت ما، وإن لم يكن قد فات الأوان، قد تغلب الطباع الإنسانية التي نُجبل عليها بالفطرة الطباع التي ولدتها الحرب، وهذا ما حصل مع زياد، فآلت حاله إلى الانتحار، عقابًا لنفسه وربما لكي يتخلص من عذاب ضميره!”

الزعتري

ثم يأتي القسم الثالث، الذي يدمج كل ما سبق، ويرسم مشهدًا كليًا لما تفعله الحرب في الأجساد والعقول والمصائر.

من خلال ليلاس، نعرف معاناة النساء في المخيمات، نقرأ عن تفاصيل النزوح، عن الغربة التي لا تقتصر على الوطن، بل تمتد إلى الجسد والعقل والهوية.

للحظة ما تخيلتُ أن الرواية من وحي الخيال، تمنيت لو أنها ليست من واقعنا المشؤوم ، كيف لبشرٍ مثلنا مثلهم… لا، ليس مثلنا! بل هم كذلك بشر! كيف لهم أن يفعلوا ذلك؟ أن يُرملوا النساء ويقتلوا الأطفال ويغتصبوا الفتيات؟ ما بال البشر؟ أين العالم عن هذا الواقع؟ الحالُ مبكي وأكبر من أن يُوصف، وأكرر: أتمنى وأتمنى لو أن ما ذُكر في خاوية من محض الخيال!

إن هذا الجزء من الرواية، لا يُبقي شيئًا فيك على حاله ، هو شهادة إنسانية مؤلمة، على حرب لن تُنسى، وعلى أرواح لن تُشفى، وعلى عالم اختار أن يغمض عينيه عن الحقيقة.

اقرأ أيضا :أول مرة أصلي وكان للصلاة طعم آخر

لغة الرواية

ما يجعل “خاوية” متفردة هو أسلوب العتوم الذي يمزج بين شاعرية اللغة وقسوة المضمون ،لا أحد يكتب الألم كما يكتبه هو، ولا أحد يُجيد جعل الجملة تنزف بهذا الصدق.

اللغة هنا ليست وسيلة، بل شريك في الحكاية، لغة لا تقول فقط، بل تصرخ، وتبكي، وتُصلّي.

اقتباسات

1. “ليس كل من نجا من الحرب حيًّا.”

2. “الحرية التي تأتي متأخرة.. لا تأتي.”

3. “الوطن ليس خريطة، بل حضن لم يعد موجودًا.”

4. “الموت أحيانًا يكون أرحم من أن تظل حيًّا وأنت تموت كل يوم.”

5. “الذكريات لا تموت، بل تلبس وجوهنا الجديدة.”

6. “نحن الذين خُلقنا كي لا نُشفى.”

7. “الخوف لا ينتهي بخروجك من المعتقل.. بل يبدأ.”

8. “الخراب لا يحتاج إلى جيش.. يكفي أن يسكت العقل.”

9. “حين يموت أحدهم، لا تنتهي الحكاية.. بل تبدأ.”

10. “ضحايا الحرب النساء والأطفال.. وضحايا الرواية نحن!”

الرسائل العميقة

رغم أن الرواية لا تُقدم نهاية سعيدة، ولا وعودًا بالشفاء، إلا أنها تقول شيئًا مهمًا:الحقيقة يجب أن تُروى الموتى لا يملكون صوتًا ،لكن الكاتب أعطاهم هذا الصوت والقارئ، ما دام يقرأ، يشارك في هذا النُبل.

ما يجعل خاوية رواية متفرّدة هو أنها لا تمنحك متعة القراءة فقط، بل تمنحك مرآة ترى فيها هشاشتك وضعفك ومواساتك للآخر.

إنها ليست حكاية أشخاص بعيدي المدى، بل مرآة لعالمنا العربي الذي صار معتقلًا كبيرًا ،لا تقرأ خاوية لتُسلي وقتك، بل لتتعلم كيف يشعر المهمّشون، كيف يفكر الأطفال الذين لا يعرفون من الحياة سوى الخوف، كيف ينجو من فقدوا كل شيء إلا ذكرياتهم.

هذه رواية تسكنك، تعيد تعريف الإنسانية داخلك، وتهمس لك: تذكّر، لا تكن حياديًا أمام الألم ،هذه خاوية، فكن ممتلئًا بالرحمة.

رواية خاوية ليست مجرد عمل أدبي، بل وثيقة حياة ،تجعلك تحب بدر وتحتضن سلمى وتبكي على ليلاس وتفهم عز الدين.

تجعلك ترى العالم كما هو، لا كما نتمناه.وتجعلك تتمنى من قلبك، لو أن ما قرأته مجرد رواية، لا واقعًا نعيشه وننزف منه كل يوم.

التقييم النهائي

📚 اسم الرواية: خاوية

✍️ الكاتب: د. أيمن العتوم

📄 عدد الصفحات: 348 صفحة

👥 الفئة المناسبة: الكبار (لفهم عمق المعاناة النفسية والسياسية والاجتماعية)

📖 النوع: رواية نفسية اجتماعية سياسية إنسانية

⭐ التقييم: ⭐⭐⭐⭐⭐ (5/5) 🌟🔥💔

السابق
الجامع الأموي الكبير في حلب: صرح تاريخي ومعماري عبر العصور
التالي
البروكار الدمشقي: نسيج من الذهب والتاريخ