تُعد مجموعة “حالات نادرة” للكاتب الكويتي عبد الوهاب السيد الرفاعي علامة فارقة في المشهد الثقافي والأدبي العربي، لا سيما في أدب ما وراء الطبيعة والغموض النفسي. هذه ليست مجرد مجموعة قصصية عابرة، بل هي رحلة استقصائية شاقة ومخيفة أحيانًا، يخوضها الكاتب بصفته طبيبًا نفسيًا يواجه حالات تجاوزت في غرابتها كل ما هو مألوف ومُدون في قواميس الطب النفسي الكلاسيكي. إنها ليست رواية متسلسلة الأحداث، بل هي متوالية قصصية، كل قصة منها بمثابة نافذة تُفتح فجأة على دهاليز النفس البشرية المظلمة، أو على شقوق في جدار الواقع الصلب تسمح بمرور ومضات من عالم آخر.
يؤسس الرفاعي عالمه الروائي على دعامة صلبة هي المنطق العلمي المتمثل في شخصية الطبيب المعالج، لكنه لا يلبث أن يهز هذه الدعامة بعنف مع كل حالة جديدة، ليطرح سؤالًا جوهريًا ومؤرقًا: هل كل ما نراه أو نسمعه أو نشعر به يمكن تفسيره بالمنطق المادي والعقلي البحت؟ هذا التوتر بين العلم والغيبيات هو جوهر الجاذبية في هذه المجموعة.

Contents
المحور الأول: بنية النص وفلسفة الغموض
1. بنية المتوالية القصصية
يعتمد الرفاعي في “حالات نادرة” أسلوب المتوالية القصصية، حيث تُروى القصص بشكل منفصل لكن يجمعها خيط سردي واحد هو صوت الراوي/الطبيب النفسي. هذا الأسلوب له مزايا جمة:
أولًا: يمنح القارئ إحساسًا بالواقعية والتوثيق، فالطبيب هنا ليس مجرد شخصية أدبية، بل هو شاهد عيان ومُحقق يحاول فك شفرات الظواهر الغريبة. هذا التوظيف لـ “راوي موثوق به” – وهو طبيب نفسي يفترض فيه العقلانية – ثم زعزعة موثوقيته تدريجيًا أمام الحالات، يخلق تشويقًا مضاعفًا. القارئ يثق بالطبيب، والطبيب يبدأ بفقدان ثقته بعلمه، فينتقل القارئ إلى حالة شك عميقة.
ثانيًا: يتيح التنوع القصصي. كل قصة تشكل مغامرة قائمة بذاتها، تختلف في ثيمتها الأساسية، مما يمنع الملل ويحافظ على حماس القارئ. قد نجد قصة تتناول التقمص ، وأخرى تتعمق في فكرة الاضطراب النفسي الناتج عن الصدمات الاجتماعية، وثالثة تتحدث عن التواصل المفترض مع عالم الجن أو الموتى. هذا التنوع هو ما جعل المجموعة تحظى بهذا الانتشار.
2. فلسفة الشك واللايقين
أعظم إنجاز حققه الرفاعي في هذه المجموعة ليس في تقديم قصص مرعبة، بل في غرس بذرة الشك في ذهن القارئ. كثير من الحالات تبدأ بتشخيص طبي واضح (كالهلوسة، أو الفصام)، لكن مع تتابع الأدلة التي يسردها الراوي، يتحول التشخيص إلى لغز مفتوح.
الكاتب لا يقدم إجابات حاسمة؛ وهذا هو سر قوته. إنه لا يقول “هذا جن” أو “هذه هلوسة”، بل يضع الأدلة المادية (كالأصوات المسجلة، أو الشهادات المتطابقة) والأدلة النفسية (كتحليل الأحلام والاضطرابات)، ثم يترك الحكم النهائي معلقًا. هذه الـ “منطقة رمادية” هي ملعب الرفاعي المفضل، وهي التي تجعل القارئ يعيش حالة من التوتر المعرفي بين ما يؤمن به وما يُعرض عليه من ظواهر تتحدى المنطق. هذا اللاحسم يرفع المجموعة من مجرد قصص رعب إلى أدب وجودي يطرح أسئلة عن طبيعة الواقع ذاته.
المحور الثاني: الأبعاد النفسية والاجتماعية
على الرغم من ميل القصص إلى الغيبيات، فإن جذورها تظل عميقة في الواقع الاجتماعي الكويتي وتفاصيل الحياة النفسية للمراهقات والشباب.
1. المرأة في مرمى النقد والتحليل
يلاحظ أن غالبية الحالات “النادرة” المعروضة تركز على المريضات من الإناث، خاصة في مرحلة المراهقة أو الشباب المبكر. هذا التركيز ليس مصادفة. غالبًا ما تكون المرأة في السياق الاجتماعي المحافظ هدفًا لضغوط نفسية واجتماعية مكثفة، مما يجعلها عرضة لاضطرابات معقدة قد تتخذ أشكالًا غريبة. يتناول الرفاعي قضايا اجتماعية حقيقية مغلفة بغلاف الغموض، مثل:
- الخوف من المجهول والمستقبل: خاصة في القصص التي تتحدث عن قراءة الطالع أو التنبؤ بالأحداث.
- الصراع بين التقاليد والحداثة: ويظهر ذلك في تداخل المعتقدات الشعبية (السحر، الحسد) مع التفسيرات العلمية.
- الضغوط الأسرية والصدمات العاطفية: التي تُفجر الاضطراب النفسي وتجعل الفتاة تلجأ إلى عوالم بديلة، سواء في خيالها أو كما يُزعم في الواقع.
بهذا المعنى، فإن “حالات نادرة” ليست هروبًا من الواقع، بل هي قراءة مشفرة لآلام وكبت طبقة معينة في المجتمع الخليجي.
2. التفسير المزدوج
من أكثر الجوانب إثراءً في المجموعة هو التفسير المزدوج الذي يقدمه الراوي لكل حالة. في نهاية كل قصة تقريبًا، نجد الطبيب يقدم تفسيرين محتملين:
- التفسير النفسي/العلمي: محاولة لربط الظاهرة بمرض نفسي معروف (الهستيريا، الاضطراب التحويلي، الفصام).
- التفسير الغيبي/الماورائي: الإقرار بأن الأدلة تتجاوز حدود العلم، وأن ما حدث قد يكون تدخلًا من عالم آخر.
هذا التوازن يمنع الكتاب من السقوط في فخ التخويف الرخيص (Cheap Horror) أو الوعظ الجاف. الكاتب يمارس الاحترام تجاه عقل القارئ، ويدعوه لاستخدام ملكة التحليل النقدي لاتخاذ موقفه الخاص. إنه لا يفرض الإيمان بالخوارق، لكنه يفرض على القارئ مواجهة احتمال وجودها.
اقرأ أيضا : السحر… حين يتحوّل الامتنان إلى طاقة
المحور الثالث: الأسلوب السردي والتأثير الأدبي
الأسلوب هو ما جعل هذه المجموعة تحقق مبيعات قياسية. عبد الوهاب السيد الرفاعي يمتلك أدوات سردية محكمة تُمكنه من السيطرة على إيقاع القصة وعواطف القارئ.
1. الاقتصاد في اللغة
يتميز أسلوبه بـ الاقتصاد اللغوي؛ فهو لا يغرق في الوصف الطويل أو الاستعارات المعقدة. لغته واضحة، مباشرة، وعملية، تشبه لغة التقرير الطبي، لكنها مع ذلك تحمل شحنة عاطفية هائلة. هذا الوضوح يساهم في سرعة القراءة والانجذاب إليها. القارئ لا يضيع وقتًا في البحث عن المعنى، بل ينغمس مباشرة في تفاصيل الحالات. هذا النوع من الكتابة هو “كتابة الإثارة” (Pulp Fiction) بأفضل صورها، حيث الهدف الأساسي هو التشويق.
2. التلاعب بالزمن والإيقاع
يعتمد الرفاعي على بناء إيقاع سردي متصاعد. تبدأ القصة عادةً بهدوء، كأي استشارة طبية عادية، ثم يبدأ الكاتب في إدخال تفاصيل غريبة بشكل تدريجي (مثل صوت غريب في الهاتف، أو كتابة تظهر فجأة على الجدار). يصل التشويق إلى الذروة غالبًا في اللحظة التي يقرر فيها الطبيب أن يواجه الظاهرة بنفسه (كالذهاب إلى منزل المريضة أو محاولة التسجيل)، ثم تأتي الصدمة النهائية (The Climax/Plot Twist) التي تقلب التفسير رأسًا على عقب. هذا التحكم الدقيق في إيقاع السرد هو علامة على حرفية الكاتب.
3. استخدام “الهامش” كأداة تحليلية
من العناصر الفريدة في الكتاب هو لجوء الكاتب إلى وضع هوامش سفلية (Footnotes). هذه الهوامش لا تُستخدم فقط لشرح مصطلح طبي أو غيبي، بل تُستخدم أحيانًا لتقديم رأي شخصي إضافي للكاتب أو تحليل عابر يُعلق فيه على الموقف بعد فترة زمنية. هذا الهامش يكسر جدار الفصل بين الكاتب والشخصية والقارئ، ويجعل النص أشبه بـ مذكرات شخصية تُراجع باستمرار.
اقرأ أيضا : كتاب السر : سرّ القوة الداخلية

التقييم النهائي
لقد قرأت “حالات نادرة” ووجدت فيها متعة جديدة، ليس بسبب الخوف، بل بسبب متعة التحليل.
من وجهة نظري، فإن مجموعة “حالات نادرة” لا تُقاس بمعايير الرواية الكلاسيكية، بل تُقاس بمعايير الأدب الجماهيري الرفيع . الكاتب لم يكن يسعى لخلق عمل خالد في فلسفة الأدب، بل كان يسعى لخلق تجربة قراءة مسيطرة ومخيفة وذكية، وقد نجح في ذلك ببراعة.
الكتاب يمثل جسرًا مهمًا بين الأدب الشعبي المتداول الذي يهتم بقصص الجن والسحر (التي غالبًا ما تفتقر للحبكة) والأدب النفسي العميق (الذي يفتقر أحيانًا للتشويق). الرفاعي أخذ التشويق العالي من الأدب الشعبي، وصبه في قالب التحليل النفسي العميق.
إنه كتاب لا يُمل أبدًا، ويوصى به بشدة لكل قارئ يبحث عن الإثارة الذهنية، وللتجربة الفريدة في كيفية تداخل التشخيص النفسي مع احتمالية الخوارق. يُعاب عليه فقط التفاوت البسيط في قوة بعض القصص، لكن القصص البارزة فيه كافية لجعله تحفة في أدب الغموض العربي. إنه دليل على أن الأدب العربي قادر على المنافسة بقوة في مجال أدب التشويق الفكري (Intellectual Thriller).
في نهاية هذه الرحلة العميقة مع مجموعة “حالات نادرة” لعبد الوهاب السيد الرفاعي، نخرج بحقيقة واحدة لا تقبل الجدل: إن قيمة هذا العمل تتجاوز بكثير مجرد كونه قصصًا مخيفة تُروى للتسلية. لقد نجح الرفاعي ببراعة استثنائية في تقديم نموذج أدبي فريد يمزج فيه ببراعة بين برودة التحليل الطبي وحرارة الخوارق الغيبية. إنه يقدم لنا مرآة لا تعكس فقط الاضطرابات النفسية التي تعيشها المراهقات في مجتمع معاصر، بل تُظهر لنا أيضًا هشاشة حدود الواقع الذي نأمن به.
إن المنطقة الرمادية التي يجيد الكاتب العزف عليها هي الإرث الحقيقي لهذه المجموعة. إنه لا يسعى إلى إقناعنا بوجود الأشباح أو الجن بقدر ما يسعى إلى إقناعنا بأن عالمنا المنطقي المادي ليس هو الكون الوحيد. يترك لنا الطبيب النفسي ملفات الحالات مفتوحة، دون تشخيص نهائي، وكأنه يقول: “علمي قاصر أمام هذا الكم من الغرابة، والآن، حان دوركم لتصدروا الحكم”.
لهذا السبب تحديدًا، تبقى “حالات نادرة” واحدة من أهم وأكثر التجارب قراءةً في الأدب العربي المعاصر. إنها ليست مجرد قراءة، بل هي دعوة للتساؤل عن حدود إدراكنا، وعن حقيقة ما نعتقد أنه جنون، وما نعتقد أنه واقع. إنها تذكرة دائمة بأن أكثر الأماكن رعبًا في الكون قد تكون ببساطة داخل عقولنا.
اسم الكتاب: حالات نادرة
اسم الكاتب: عبد الوهاب السيد الرفاعي
عدد الصفحات: حوالي 280 صفحة (يختلف قليلًا بين الطبعات)
التقييم بالنجوم: ⭐⭐⭐⭐☆ 4 من 5
الفئة المناسبة: محبي الرعب النفسي – التشويق – قصص المراهقات – التجارب النفسية الغريبة
اللغة: العربية
الموضوع: حالات نفسية غير مألوفة لفتيات مراهقات، خليط بين الطب النفسي والخيال والغموض، تُروى بأسلوب الطبيب المعالج بشكل قصصي مشوّق.










