اقرأ معنا

تهافت التهافت: انتصار العقل على الغموض

حين كتب ابن رشد الأندلسي كتابه «تهافت التهافت»، لم يكن يخوض معركة عابرة في تاريخ الفكر، بل كان يرفع راية العقل في وجه الظلال التي غطّت سماء الفلسفة الإسلامية بعد هجوم الغزالي في «تهافت الفلاسفة».
كان ابن رشد يرى أن العقل ليس عدوًا للدين، بل هو وسيلة لفهمه على وجهٍ أكمل.
في هذا الكتاب، نسمع صوته الصارم يقول:

“من منع النظر في الموجودات فقد منع معرفة الصانع.”

بهذه الجملة يفتح الباب أمام ثورة فكرية خافتة لكنها ممتدة، بين أروقة قرطبة ومجالس بغداد.


المعركة الفكرية الكبرى

كتب ابن رشد «تهافت التهافت» ردًا مباشرًا على الغزالي، الذي رأى أن الفلاسفة ضلّوا في مسائل تتعلق بالعقيدة.
لكن ابن رشد لم يردّ بعنف لغوي، بل بعقلانية فاحصة، وأسلوب منطقي دقيق، وكأنه يشرح للعقل الإسلامي كيف يقف على قدميه من جديد.

“إذا كانت الحقيقة واحدة فلا يمكن أن يناقضها العقل الصريح.”

هكذا أراد أن يقول: لا خصومة بين الفلسفة والشريعة، بل بين من يسيئون فهم أيٍّ منهما.


بين الشريعة والفلسفة

في صفحات الكتاب، يدافع ابن رشد عن الفلسفة باعتبارها طريقًا لفهم الوجود، لا بوابة للضلال.
يرى أن العقل هبة إلهية، وأن استخدامه واجب شرعي، فيقول:

“النظر في الحكمة واجب بالشرع، لأن الشرع دعا إلى الاعتبار بالعقل.”

هذا الموقف الجريء جعله يتقدّم على عصره بقرون، فقد كان يتحدث عن التوازن بين الإيمان والتفكير الحر، بينما كان غيره يحكم على الفلاسفة بالكفر.


أسلوب ابن رشد: عقل يكتب بالنار والهدوء

لا يمكن قراءة «تهافت التهافت» دون ملاحظة اللغة الهادئة رغم حرارة المعركة.
فهو لا يهدم فكر الغزالي ليُسقطه، بل ليبني فهمًا أوسع كأنما يردّ عليه بيدٍ تحمل القلم لا السيف.

“الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.”

جملة تُعبّر عن منهجه كله: الحق العقلي لا يمكن أن يتناقض مع الحق الديني، لأن كليهما من مصدر واحد.


تحليل فلسفي

يُظهر ابن رشد قدرة منطقية مذهلة في تفكيك حجج الغزالي واحدةً تلو الأخرى، خاصة في قضايا:

  1. قدم العالم
  2. علم الله بالجزئيات
  3. بعث الأجساد

يحلّلها بعقل الفيلسوف وورع الفقيه، فلا يكتفي بالجدل، بل يقدّم منهجًا بديلًا.

“إذا كانت النصوص تحتمل التأويل، فالعقل أولى بتوجيهها نحو ما يليق بحكمة الخالق.”

إنه بذلك يعلن أن التفسير العقلي للنص ليس خروجًا على الدين، بل بحثًا عن جوهره.


أثر الكتاب

بعد صدور «تهافت التهافت»، تغيّر مسار التفكير في الغرب الإسلامي ، صار اسم ابن رشد رمزًا للعقلانية في وجه الغيبية، ومثّل صوته جسرًا بين الإسلام وأوروبا في العصور الوسطى.

“ليس في الفلسفة ما يخالف الدين، وإنما الخلاف في التأويل.”

وقد حمل هذا الصدى حتى العصور الحديثة، حيث اعتُبر ابن رشد الأب الروحي للتنوير الأوروبي.


بين التهافتين

العجيب أن الغزالي وابن رشد، رغم التباين، كانا يهدفان إلى غاية واحدة: حماية الإيمان من الانحراف.
لكن الغزالي رأى الخطر في الفلسفة، بينما رآه ابن رشد في جمود العقل.

“الجهل عدو الدين لا العلم.”

لذلك يخرج القارئ من الكتاب بإدراك أن الخلاف بينهما لم يكن على الإيمان، بل على وسيلة الوصول إليه.


القارئ المعاصر ونداء العقل

اليوم، ونحن نقرأ «تهافت التهافت» في زمن التشتت، نشعر وكأن ابن رشد يحدّثنا نحن لا الغزالي.
يذكّرنا بأن التفكير عبادة، وأن التسليم الأعمى لا يصنع حضارة.

“العقل ميزان من الله، من ألغاه فقد أبطل النور الذي به يُعرف الحق.”

فهو لا يقدّم خطابًا فلسفيًا جافًا، بل نداء إنسانيًا: فكر، ولا تخف.


جمال الحجة

رغم أن الكتاب معقّد في طابعه، إلا أن لغته تحتفظ بجمالٍ خاص.
ابن رشد لا يستعمل البلاغة لتزيين الفكرة، بل لتوضيحها، فيخلق من الجدال نصًا أدبيًا متينًا.

“البيان إذا وافق البرهان كان النور على النور.”

تأمل هذه الجملة تجدها تلخّص منهجه في الكتاب كله: أن الجمال والحق يمكن أن يلتقيا في سطر واحد.


ابن رشد

كان هذا الفيلسوف الأندلسي يعيش في زمنٍ يخاف من الأسئلة، لكنه لم يتردد في طرحها.

“من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال.”

لقد سبق عصره في الدفاع عن حرية الفكر، وجعل من العقل مرآةً يرى فيها الإنسان إيمانه لا عدوه.
كأن كلماته كانت تهيئنا لنهضة لم تولد بعد.

اقرأ أيضا : مراجعة أدبية معمقة لكتاب “على السفود”


تهافت الظلام أمام ضوء العقل

في نهاية الكتاب، نشعر بأن ابن رشد لم يكن يريد هزيمة الغزالي، بل هزيمة التوقف عن التفكير.
كتابه ليس ردًا على شخص، بل على فكرة الجمود إنه رسالة تقول لنا: لا يمكن أن نعبد الله حقًا ونحن نخاف من التفكير في خلقه.

“ليس الخطر في السؤال، بل في الصمت الذي يجهل.”

وهكذا، يبقى «تهافت التهافت» أكثر من مناظرة فلسفية؛ إنه وثيقة انتصار الإنسان على الخوف من العقل.
فيه تتجلى شجاعة المفكر الذي اختار أن يضيء الطريق ولو احترق بنوره.


فلسفة تُعانق الإنسان

حين نتأمل «تهافت التهافت» بعد قرون من كتابته، ندرك أن ابن رشد لم يكن يخوض نقاشًا أكاديميًا محضًا، بل كان يصوغ بيانًا إنسانيًا خالدًا عن معنى أن تكون إنسانًا يفكّر ويؤمن في آنٍ واحد.
لقد جعل من العقل جسرًا يربط الإنسان بخالقه، لا سورًا يعزله عنه.
كان يؤمن أن التفكير هو أعمق أشكال العبادة، لأن الإنسان حين يتأمل الوجود بعقله، إنما يعيد اكتشاف جمال الخلق في كل تفصيل.

“إن النظر في الموجودات عبادة، لأنه نظر في آثار الصنعة الإلهية.”

في زمنٍ كانت فيه الأسئلة تُخيف الناس، تجرأ ابن رشد على جعلها طريقًا إلى الطمأنينة.
فهو لا يرى العقل خصمًا للإيمان، بل يرى فيه أداة لتقوية اليقين.
وحين واجه اتهامات الغزالي للفلاسفة، لم يدافع عنهم بوصفهم طبقة من المفكرين، بل بوصفهم باحثين عن الحقيقة، يسلكون طريقًا آخر نحو الله.

اليوم، حين نقرأه في عالمٍ يموج بالتعصب والانغلاق، نشعر أن صوته ما زال حيًا بيننا.
إنه يدعونا إلى التوازن، إلى أن نؤمن بعقلٍ مفتوح لا بعينين مغمضتين، وأن ندرك أن الله لم يخلق العقل عبثًا، بل ليكون دليلنا في ظلمة الجهل.

“من أطفأ مصباح العقل، فلا يلومنّ إلا نفسه إن سار في العتمة.”

بهذا المعنى، يتحوّل كتاب «تهافت التهافت» إلى دعوة أخلاقية عميقة بقدر ما هو عمل فلسفي.
فهو يذكّر الإنسان بأنه لا يُختبر بإيمانه وحده، بل بكيفية تفكيره أيضًا، وأن الطريق إلى الله لا يُغلق أمام من يسأل، بل يُفتح لكل من يجرؤ على أن يفهم.
وهكذا تصبح الفلسفة في فكر ابن رشد صلاةً أخرى، صلاةً يؤديها العقل بخشوعٍ صامت أمام الحقيقة.

اقرأ أيضا : الشيطان يحكي : رحلة إلى برزخ النفس البشرية


يخرج القارئ من «تهافت التهافت» وهو يشعر أنّ ابن رشد ما يزال يعيش بيننا.
كلما ازدادت الأصوات التي ترفض التفكير، نسمع همسه القديم يقول:

“العقل ضوء الله في الإنسان.”

في زمن تتكاثر فيه الشكوك والمسلّمات الزائفة، يعود هذا الكتاب كنبضٍ يعيد ترتيب العلاقة بين القلب والفكر.
إنه ليس مجرّد مناقشة فلسفية، بل رحلة روحية بين الإيمان والعقل، بين الصمت والسؤال.
يذكّرنا أن الدين الذي يخاف من العلم يفقد صفاءه، وأن الفلسفة التي تنسى الإيمان تفقد معناها.
وبين الاثنين، يقف ابن رشد كجسرٍ مضيء، يربط الأرض بالسماء عبر طريق التفكير.
لهذا، يبقى «تهافت التهافت» ليس فقط كتابًا من الماضي، بل دعوة مفتوحة لكل العقول التي تؤمن أن التفكر عبادة، وأن النور لا يُخاف منه، بل يُتبع.


التقييم النهائي

كتاب “تهافت التهافت” هو عمل فلسفي عظيم للعلامة أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي، يقع في نحو ستمئة صفحة بحسب الطبعة، ويُعد من أهم المؤلفات التي دافعت عن العقل والفلسفة في وجه الجمود الديني.
كتبه ابن رشد باللغة العربية الفصحى في القرن السادس الهجري، ليكون ردًا على كتاب “تهافت الفلاسفة” للإمام الغزالي، فحوّله إلى مناظرة فكرية خالدة تجمع بين المنطق والروح.

ينتمي الكتاب إلى أدب الفلسفة الإسلامية، ويُوجَّه بشكل خاص إلى الدارسين والمهتمين بالفكر النقدي، والعقلانية، والعلاقة بين الدين والعلم.
وفيه تتجلّى عقلانية ابن رشد وعمق حجّته، وقدرته على أن يجعل من العقل عبادة ومن التفكير طريقًا إلى الإيمان.

من حيث القيمة الفكرية، يُعتبر هذا الكتاب منارة فكرية لا تخبو، إذ وضع الأساس لمنهج نقدي لا يخاف السؤال، وفتح الباب أمام التنوير في الفكر الإسلامي والإنساني معًا.
لغته متينة، وأسلوبه منطقي لكنه يفيض بهدوء الحكيم لا صخب المناظر.

إنه كتابٌ يحتاج إلى قارئٍ صبورٍ ومفكرٍ، لا مجرد متلقٍ، لأنه يعلّم القارئ كيف يُفكّر لا كيف يُسلِّم.
ولهذا أراه كتابًا لا يُقرأ مرة واحدة، بل يعود إليه كل من يريد أن يصالح بين الإيمان والعقل، بين الروح والفكر.

تقييمي له: خمس نجوم من خمس (⭐⭐⭐⭐⭐)
لأنه لا يزال بعد قرون، يُذكّرنا أن نور العقل هو الطريق الأقرب إلى الله، وأن الحقيقة لا تهاب السؤال، بل تتبع .

السابق
كنيسة أبي سرجة مسار العائلة المقدسة في مصر
التالي
مذكرات قبو: صرخة الإنسان المكسور