اقرأ معنا

الشيطان يحكي : رحلة إلى برزخ النفس البشرية

إنّ الأدب في أعمق معانيه، هو مرآةُ الروح ومهدُ الأسرار ، وحينما يخطو أحمد خالد مصطفى بقلمه في عوالم الغموض والرعب ، فإنه لا يكتبُ مجرد قصة، بل ينسجُ كوناً كاملاً من الشكّ واليقين، التاريخ والأسطورة. روايته الأخيرة “الشيطان يحكي” ليست استثناءً؛ بل هي إعلانٌ ناضجٌ عن تطورٍ ملحوظٍ في رؤيته السردية، ومصالحةٌ فنيةٌ بين سطوة العلم المادي وهمس الماورائيات ، إنها عملٌ يحملُ في طياته ثِقلَ التجارب الإنسانية، متكئاً على كتفِ شيخٍ مُتعصّبٍ يرى في فضول الشباب مدخلاً لحكاياتٍ لا يعرفونها، حكاياتٍ تسردُها أرواحٌ عالقةٌ في برزخِ الأكاذيب.

تبدأ الرواية بديباجةٍ لا تخلو من الصلف الفكري المُتعمَّد، يضعُ فيها الراوي قواعد اللعبة: “ليس مهماً أن أرحب بكم… دعونا نتفق على ما سيحدث”. هذه البداية تُعّدُّ مفتاحاً سحرياً لاجتياز العتبة نحو عالم الرواية المتمرد ، إنها دعوةٌ صريحةٌ لترك الأحكام المسبقة خلف ظهورنا والدخول إلى فندق “بورجاتوريوم” الذي يعني “البرزخ”، حيث يجتمعُ المؤتمرُ المُحيّر، وتُكشَفُ الخفايا على ألسنة من لا يجدون مفراً من الاعتراف.

في دهاليز البرزخ

تختلف هذه الرواية عن سابقاتها التي عُرفت بالبحث التاريخي والجدل العقائدي والاعتماد المكثف على نظرية المؤامرة هنا، يعود الكاتب إلى جوهر الحكاية، مُركزاً على صراع الإنسان مع نفسه وشيطانه الداخلي ، فكرة البرزخ كفندقٍ، يلتقي فيه الأموات ليروون قصصهم الموبوءة بالشر والخطيئة، هي ابتكارٌ سرديٌّ عبقريٌّ. إنه مسرحٌ كوزميٌّ لا يُغادر فيه الممثلون خشبتهم حتى تنتهي عروضهم الأبدية.

كل حكايةٍ في الرواية هي بمثابةِ قاعةٍ مُغلقةٍ في هذا الفندق، تُضاءُ بوميضِ الذنب. هناك قصصٌ تتناولُ العلوم الغامضة، وأخرى تنكشفُ فيها أسرار التلبس وطرد الجن، وثالثة تتغلغلُ في تعقيدات الصراع النفسي بين التعاطف مع رغبات النفس ورفضها. هذه الحكايات المنفصلة لا تخدمُ نفسها وحسب، بل تتضافرُ معاً لترسمَ لوحةً كليةً لمعنى “الشيطان يحكي”. فالشيطان هنا ليس كائناً من نارٍ فقط، بل هو الصدى الباطنيّ للأفعال البشرية الخاطئة.

تقنيات السرد

اقرأ أيضا : رحلة في عالم سيهار الساحرة الزرقاء

يُظهر الكاتب في “الشيطان يحكي” نضجاً فنياً واضحاً في الكتابة. لقد تخلى نسبياً عن الاعتماد المُباشر على الحقائق التاريخية المثيرة للجدل، مُحوِّلاً وجهة بوصلته نحو النسيج الروائي بحد ذاته. التركيز على العلم المادي وعالم الماورائيات في آنٍ واحدٍ يُعدُّ تحدياً أدبياً نجح في تحقيقه.

إن الدمج بين “العلم” الذي يسعى للقياس والإثبات، و**”الماورائيات”** التي تُعنى بالخفيّ واللامحدود، يخلقُ منطقةَ تماسٍ روائيةٍ مُحرجةٍ ومُدهشة. هو يُخضِعُ الأرواح والجنّ والسحر للمساءلة الأدبية، مُجرِّداً إياها من هالتها الخرافية المطلقة، ومُلصِقاً بها لمسةً من الواقعية النفسية. هذا المزج بين التاريخ وعلم النفس وعالم الأرواح هو ما يمنحُ الرواية ثقلها وجاذبيتها.

نقاط القوة:

  • البناء السردي المُحكم: فكرة المؤتمر في فندق “بورجاتوريوم” (البرزخ) كنقطة التقاء للأرواح المعذبة هي هيكلٌ روائيٌّ ذكيٌّ.
  • النضج الفني: الابتعاد عن الجدل العقائدي والتاريخي الصريح والتركيز على الجانب الأدبي والنفسي.
  • العمق الفلسفي: تقديم مفهوم جديد ومختلف للشيطان كصدى للذنب الداخلي للإنسان.
  • اللغة والحوار: لغةٌ قويةٌ، حواراتٌ مُصاغةٌ بذكاءٍ تُصعّدُ من التوتر الدرامي.

نقاط التحفظ:

  • التشتت الموضعي: قد يشعر القارئ ببعض التشتت بسبب طبيعة الحكايات المنفصلة قبل أن تتضح الحبكة الكلية في النهاية.
  • التوقعات: قد لا تُلبي التوقعات لمن يبحث عن تكرار لأسلوب “أنتيخريستوس” القديم.

لغةٌ تخترقُ الستار

اللغة المستخدمة في الرواية هي لغةٌ مُصاغةٌ بنُضجٍ لغويٍّ، تتسمُ بالحوار الذكيّ والوصف المُرعِب الذي لا يعتمدُ على الصدمة السطحية بقدر ما يعتمدُ على خلخلة الشعور الداخلي للقارئ. الكاتب يُمسكُ بزمام اللغة ليُصعّدَ من التوتر الدراميّ، ويضعُ القارئ في حالةٍ من الترقب المُتعمَّد، خاصةً عند وصفِ اللحظاتِ الفاصلةِ في قصص الأعضاء.

إن النهايةَ الغامضةَ التي تكتشفُ فيها هويةُ أعضاء المؤتمر الحقيقية (الأموات المعذبون)، والاسم المُتعمَّد للفندق (بورجاتوريوم)؛ كلها تخدمُ بناءَ حبكةٍ قويةٍ تُبقي على عنصر المفاجأة وتجعلُ العملَ أشبه بالمنحوتة الأدبية المُتقنة التي لا تتكشفُ تفاصيلها إلا عند الدوران حولها تماماً.

اقرأ أيضا : أفاعي النار رواية العشق والخراب والهوية الممزقة


صدى الشياطين

الرسالة الرئيسية التي يُمكن استشفافها من وراء هذا المؤتمر البارزخيّ هي أن الشيطانَ الأكبرَ يسكنُ في القلبِ المُنكِرِ للخطيئة. فالأرواحُ التي تحكي قصصها في الفندق ليست ضحايا لقدرٍ محتومٍ، بل هي سجينةٌ لأكاذيبها وأفعالها الشريرة التي أصبحت جزءاً من كيانها الأبديّ.

الرواية تُبصِرُ بعمقٍ في ثنائية “الخير والشر”، وتؤكد أن الانزلاق نحو الهاوية غالباً ما يبدأ بـتأويلٍ خاطئٍ للحقائق، أو بـشهوةٍ عابرةٍ يُبرِّرها العقل حتى تُصبح واقعاً لا يُمكن التراجع عنه. هذا التركيز على الجانب النفسي والأخلاقي هو ما يُميّز “الشيطان يحكي” ويجعلها تتجاوز حدود الرواية الغامضة أو المرعبة. إنها قراءةٌ في طبيعة الإنسان المتقلبة، وكيف يُمكنُ أن يُصبحَ المرءُ شيطاناً لنفسه، ثم شيطاناً لغيره.

الاقتباسات

  • “ماذا ينفعُكَ أن تعرفَ كل أسرارِ الكون، وروحكَ مُدلَّسةٌ كعملةٍ فقدتْ قيمتَها في سوقِ الحقائق؟”
  • “في كلِ كذبةٍ نُطلِقها، نبني سجناً جديداً لروحنا، وحين يأتي الحساب، سنجدُ أننا سجَّانو أنفسنا وضحايا أكاذيبنا.”
  • “نحن لا نخافُ الظلام، بل نخافُ ما نراهُ من حقيقتنا المُقنَّعة عندما تطفأُ الأنوارُ وينكشفُ السر.”
  • “أكثرُ اللحظاتِ حزناً في الحياة، هي تلك التي تُدركُ فيها أنكَ اخترتَ العذابَ بكاملِ إرادتِك، وبلا إكراه.”
  • “الندمُ ليس دمعةً، بل هو جَمرٌ يشتعلُ في داخلكَ فلا يُبقِي ولا يذرُ، يوقدُ فيكَ نارَ البرزخِ وأنتَ لا تزالُ حياً.”
  • “الحقيقةُ أشدُّ رعباً من كلِ ما كُتِبَ في قصصِ الجنّ والشياطين، لأنها تحكي عنكَ أنتَ، وتحكي عنّا نحنُ جميعاً.”
  • “في غياهبِ الروح، يبدأ صوتُ إبليس لا كصرخة، بل كهمسةٍ تُراوغُ اليقين، وتُدلّلُ على سقوطٍ وشيك.”
  • “الذاكرة هي أسوأ سجون البرزخ؛ إذ لا تستطيعُ أن تخلعَ جلدك الذي أثقلتهُ الخطيئة، ولا أن تُغمضَ عينيك عن مشهدٍ كان يجب ألا يكون.”
  • “الخوفُ ليس إلا جُبناً تمكَّن من القلبِ الضعيف، أما الشجاعةُ فهي اعترافُ الروحِ بجهلها المُلَوَّن بأوهامِ القوة.”
  • “حين تموتُ في زمنِ اليقظة، تكتشفُ أن الشياطينَ لم تكن خارجكَ يوماً، بل كانت أقربَ إليك من حبلِ الوريد.”

الرواية في الميزان الأدبي

إن “الشيطان يحكي” هي عملٌ طموحٌ يهدفُ إلى مزج العلم بالتاريخ بالماوراءيات في نسيجٍ أدبيٍّ مُحكم. يُحسَب للكاتب قدرته على خلقِ رباطٍ غير مرئيّ بين القصص، وتقديم نهايةٍ تُعيدُ ترتيبَ الأوراقِ جميعها. هو يُقدّمُ عملاً مُغايراً ومُتطوراً عن أسلوبه السابق، مُركّزاً على العمق النفسي والإنساني للحكايات بدلاً من المادة الجدلية فقط.

قد يجدُ بعضُ القراء الذين اعتادوا على إيقاع رواياته القديمة – التي كانت تُغطّي عصوراً سحيقةً – أن هذه الرواية أكثر تركيزاً على القرن الماضي وقضاياه، وهو ما يُعدُّ ميزةً وعيباً في آنٍ واحد. ميزةً في النضج الأدبي، وعيباً لمن يتوقُ إلى السرد التاريخي الملحميّ.

تتركنا رواية “الشيطان يحكي” أمام مرآة النفس البشرية، لنواجه صراعاتنا الداخلية وضعفنا أمام وساوسنا. هي رحلة عميقة بين الخير والشر، بين الحق والهوى، تجعل القارئ يتأمل ذاته ويعيد التفكير في خياراته. الرواية ليست مجرد سرد لحكايات الشيطان، بل دعوة للتفكر في أسرار النفس البشرية ومفاهيم الحرية والقدر، بأسلوب شعري مؤثر يمس القلب والعقل في آن واحد.

بشكل عام، تظلّ الروايةُ عملاً مُثيراً للاهتمام، مُعلِّماً، ومُتحدِّياً للذهن. إنها تدعو القارئ إلى الاستماع لا للسؤال، وإلى رؤية الشيطان لا ككيانٍ خارجي، بل كمُحاوِرٍ داخليٍّ خبيثٍ ينتظرُ لحظةَ الضعفِ ليحكي قصته على لساننا.

كما أعجبني فيها بعض الرسومات التي تخللت الرواية .


تقييم نهائي للرواية

  • اسم الكتاب: الشيطان يحكي
  • اسم الكاتب: أحمد خالد مصطفى
  • عدد الصفحات: 384 صفحة
  • تقييم النجوم: ⭐⭐⭐⭐⭐
  • الفئة المناسبة: للبالغين
  • اللغة: العربية
  • الموضوع: أدب فلسفي وتحليل نفسي

(عملٌ ناضجٌ ومُلهمٌ، يعيبه تفاوتُ التأثيرِ بين بعض الحكايات المنفصلة).

السابق
مراجعة أدبية معمقة لكتاب “على السفود”