لطالما كان الأدب هو المجهر الذي يسلط الضوء على الزوايا المظلمة في الروح البشرية، وفي رواية “الاختباء في عجلة هامستر”، يقرر عصام الزيات أن يضعنا أمام مواجهة مباشرة مع ذواتنا ، العنوان في حد ذاته ليس مجرد استعارة، بل هو صرخة احتجاج ضد النمطية التي تغلف حياتنا المعاصرة ، الهامستر يركض في عجلته ظناً منه أنه يقطع مسافات، بينما هو في الحقيقة يستهلك طاقته ليبقى في مكانه ، هكذا يرى الزيات الإنسان المعاصر: كائناً يركض خلف أوهام النجاح، الاستقرار، والقبول الاجتماعي، بينما هو يغرق في “عدمية” لا مفر منها.
Contents
فلسفة العنوان ورمزية الـ “عجلة”
تبدأ المراجعة من العتبة الأولى للرواية وهي العنوان كلمة “الاختباء” توحي بوجود خطر خارجي، أو ربما هروب من مواجهة الذات أما “عجلة الهامستر” فهي الرمز الكوني للروتين القاتل في الرواية، لا يطرح الزيات “العجلة” كشيء مفروض علينا بالكامل، بل يلمح إلى أننا أحياناً نختار “الاختباء” داخل هذا الروتين هرباً من الأسئلة الوجودية الكبرى ، إن الركض يلهينا عن التفكير في “لماذا نعيش؟”، وهذا هو المطب النفسي الذي يسقط فيه أبطال الرواية.
” الموت يسبحُ في البحر تحت العبّارة، ويتمشّى في الهواء على سطحها، وفي أنفاس رُكابّه”
الشخصيات
عصام الزيات كاتب لا يهتم بالحدث الخارجي بقدر اهتمامه بالارتداد النفسي لهذا الحدث ،الشخصيات في الرواية ليست مجرد أسماء، بل هي حالات شعورية متجسدة.
- بطل الرواية (المثقل بالأسئلة): نجد شخصية البطل تعاني من “وعي حاد” وهو الوعي الذي وصفه ديستويفسكي يوماً بأنه مرض هذا الوعي هو ما يجعله يرى العجلة بوضوح بينما يراها الآخرون “حياة طبيعية” الصراع هنا ليس مع عدو خارجي، بل مع “التكيف”.
- الشخصيات الثانوية (التروس في الآلة): يبرع الزيات في رسم الشخصيات المحيطة التي تمثل المجتمع هم “التروس” التي تدفع البطل للبقاء داخل العجلة يجسدون الضغط العائلي، متطلبات الوظيفة، والنظرة المجتمعية التي تحكم على “النجاح” بمقاييس مادية بحتة.
” كلنا نحمل همومًا، ولا نريد أن نكون أعباءً على غيرنا . “
الثيمات الأساسية
1. الاغتراب في الزمان والمكان
يشعر القارئ خلال صفحات الرواية بجو خانق، وهو جو مقصود فنياً الاغتراب هنا ليس مكانيًا (أي الغربة عن الوطن)، بل هو “اغتراب داخلي” البطل يشعر بغربة وسط أهله، وفي مكتبه، وحتى وهو ينظر في المرآة هذا النوع من الاغتراب هو السمة السائدة في أدب الحداثة وما بعد الحداثة، حيث يفقد الإنسان صبغه الفردي ويصبح مجرد “رقم” في كشف المرتبات أو “مستهلك” في سوق كبير.
2. وهم الاختيار
يطرح الزيات تساؤلاً جوهرياً: هل نحن من اخترنا الركض في هذه العجلة؟ أم أن النظام العالمي (الاجتماعي والمالي) قد صممها لنا بحيث لا نجد مخرجاً غيرها؟ الرواية تلمس بذكاء فكرة “العبودية الطوعية”، حيث يتنافس الناس على من يركض أسرع في عجلته الخاصة، ظانين أن السرعة هي دليل التميز، بينما الجميع في النهاية ثابتون في أماكنهم.
3. الصمت والضجيج
هناك مفارقة في الرواية بين الصمت الداخلي للبطل والضجيج الخارجي للعالم ، الكاتب استخدم الحوارات الداخلية (المونولوج) ببراعة ليعكس الهوة بين ما نفكر فيه وما نضطر لقوله لكي تستمر الحياة.
” اللكنة الصعيدية التي امتزجت بها كلمات القاهرة ومصطلحات الخليج جعلت لسانه ثقيلًا.. كأنما يحتار عقله عند نطق الكلمات بأي لهجة سيتحدث، وأي مفردة تعبّر عن المعنى”
الأسلوب الفني والتقنيات الروائية
1. اللغة السردية
لغة عصام الزيات لغة “مقطرة” لا يوجد حشو زائد الجمل قصيرة، محملة بالدلالات، وتميل إلى الكثافة الشعرية في مواضع التأمل، والحدة الواقعية في مواضع المواجهة ، إنه يستخدم لغة قادرة على نقل “الرتابة” دون أن يشعر القارئ بالملل، وهذا توازن صعب جداً في الكتابة.
2. الزمان والمكان
المكان في الرواية قد يكون أي مدينة حديثة، والزمان هو “الآن المستمر” هذا التجريد يجعل الرواية عابرة للحدود؛ فالموظف في القاهرة، أو المحاسب في نيويورك، أو الشاب في دبي، سيجدون أنفسهم في هذه الرواية المكان ضيق، يشبه العجلة، حتى الشوارع والبيوت تشعر القارئ بنوع من الحصار.
3. الإيقاع في الاختباء
إيقاع الرواية يشبه حركة الهامستر؛ سريع، متوتر، ثم يخبو فجأة لينتقل إلى لحظة تأمل ساكنة ، هذا التنقل يمنع القارئ من الهروب، ويجعله شريكاً في حالة التوتر النفسي التي يعيشها البطل.
اقرأ أيضا : الخريف في بالم تاون
الأبعاد الفلسفية
تتقاطع الرواية مع فلسفات عديدة، أبرزها:
- الوجودية: في بحث الإنسان عن معنى في عالم يبدو بلا معنى.
- السيثيفية (أسطورة سيزيف): الركض في العجلة هو النسخة المعاصرة من حمل الصخرة إلى قمة الجبل ثم رؤيتها تسقط مجدداً لكن الزيات يضيف لمسة معاصرة: سيزيف كان يعرف عقابه، أما نحن فنعتقد أن العجلة هي “طريق السعادة”.
التشريح الاجتماعي وسلطة “القطيع”
في هذا الجزء من الرواية، يتجاوز عصام الزيات كونه راوياً لقصة فردية، ليصبح “محللاً اجتماعياً” يضع المجتمع بكامله تحت المجهر إن “الاختباء في عجلة هامستر” لا يتحدث فقط عن أزمة فرد، بل عن أزمة “مجتمع العجلة” يبرز الكاتب ببراعة كيف يتحول المجتمع إلى حارس للسجن؛ فكلما حاول البطل التباطؤ في ركضه، أو حاول التحديق خارج القضبان الحديدية للعجلة، واجه “هجوماً مضاداً” من المحيطين به، هذا الهجوم لا يأتي دائماً في شكل عنف، بل في شكل “نصائح مغلفة بالخوف”، أو تساؤلات تثير الذنب (لماذا لا تكون مثل فلان؟ لماذا لا تحافظ على استقرارك؟).
هنا، تتحول العجلة من مجرد أداة للركض إلى “إطار أخلاقي”؛ فالذي يركض هو الشخص “الصالح والمثابر”، والذي يتوقف هو “الفاشل أو المعتل نفسياً”.
يستعرض الزيات بذكاء شديد فكرة “النمذجة الجسدية والنفسية”؛ كيف تفرض علينا الحداثة شكلاً معيناً لليوم، وساعات محددة للنوم، وطريقة معينة للاستمتاع بالإجازات، لدرجة أن “الترفيه” نفسه يتحول إلى عجلة هامستر أخرى (مثل الركض خلف التريندات أو التباهي بالاستهلاك). البطل في الرواية يدرك أن “الاختباء” داخل العجلة هو في الحقيقة نوع من “التلاشي”؛ أن تصبح غير مرئي لكي لا يهاجمك الآخرون.
إنها محاولة للذوبان في المجموع هرباً من مسؤولية أن تكون “نفسك” هذا الجزء من العمل يمس القارئ في مقتل، لأنه يواجهه بالحقيقة المرة: أننا في كثير من الأحيان لا نركض لأننا نريد الوصول، بل نركض لأننا نخشى نظرات الآخرين إذا ما قررنا الجلوس بسلام على جانب الطريق.
أما عن خواتيم الرواية ودلالاتها، فإن الزيات لا يمنحنا “صك الغفران” أو مفتاح الخروج السهل، النهاية في الرواية تفتح جرحاً ولا تضمد آخراً؛ فهي تطرح تساؤلاً مرعباً: هل هناك حياة خارج العجلة أصلاً؟ أم أننا إذا خرجنا من عجلة الوظيفة، سنقع في عجلة الندم، وإذا خرجنا من عجلة المجتمع، سنقع في عجلة الوحدة؟ الرواية تنتهي تاركةً صدىً فلسفياً يشير إلى أن “الحرية” ليست في كسر العجلة فحسب، بل في الوعي بوجودها.
إن مجرد إدراك البطل (والقارئ من خلفه) بأنه يركض في دائرة مفرغة، هو بداية “التحرر الذهني”، حتى وإن ظل الجسد حبيس الروتين ، هذا النوع من الأدب هو ما يسمى “أدب الاستيقاظ”، الذي لا يغير واقعك الخارجي بقدر ما يغير طريقة رؤيتك لهذا الواقع، مما يجعل “الاختباء في عجلة هامستر” عملاً مؤسساً في نقد الحياة المعاصرة، يستحق أن يُقرأ بتمهل، ليس كقصة، بل كدليل استرشادي لفهم كيفية استعادة إنسانيتنا المسلوبة وسط ضجيج الماكينات والمهام اليومية التي لا تنتهي.
” أنا ميتٌ يتحرك، عيناي باتَتا كفراغَين أسودين مِثل فراغَي جُمجمة الموت. “
نقد وتقييم
إذا أردنا النظر إلى العمل بعين نقدية موضوعية، نجد أن:
- نقاط القوة: التمكن من الأدوات النفسية للشخصيات، القدرة على تحويل الروتين الممل إلى مادة أدبية مشوقة، والصدق الشديد في تعرية التزييف الاجتماعي.
- ما قد يؤخذ عليها: السوداوية العالية ،الرواية لا تقدم “حلولاً” أو “بصيص أمل” تقليدي، وهذا قد يكون محبطاً للقارئ الذي يبحث عن الخلاص في الأدب. لكن، في المقابل، قد يرى البعض أن وظيفة الأدب هي تسليط الضوء على الجرح لا علاجه.
لماذا يجب أن تقرأ هذه الرواية؟
رواية “الاختباء في عجلة هامستر” هي دعوة للتوقف. التوقف عن الركض قليلاً للنظر إلى العجلة نفسها. هل نحن بداخلها؟ هل يمكننا الخروج؟ عصام الزيات لم يكتب رواية للتسلية، بل كتب “وثيقة إدانة” لنمط الحياة الحديث الذي يسرق من الإنسان جوهره ويحوله إلى كائن ميكانيكي.
إنها عمل أدبي ينتمي إلى أدب “المكاشفة”، وهي ضرورية لكل من يشعر أنه غريب في هذا العالم، ولكل من سأل نفسه يوماً وهو في ذروة انشغاله: “إلى أين أذهب بكل هذا الركض؟”.
عصام الزيات في هذا العمل أثبت أن الرواية العربية قادرة على الخروج من جلباب التاريخ والسياسة المباشرة لتغوص في “السياسة النفسية” للفرد، وهي المنطقة الأكثر تعقيداً وتشابكاً. إن “الاختباء في عجلة هامستر” هي مرآة مشروخة، تعكس وجوهنا المتعبة، لكنها في ذات الوقت تمنحنا الاعتراف الذي نحتاجه: “نحن لسنا وحدنا من نشعر بهذا التعب”.










