الحياة ليست قصة نرويها ونختار أبطالها، ونكتب لها نهاية سعيدة أو عادلة… كل شيء يحدث لسبب.”
بهذه العبارات المكثفة والعميقة تفتتح الكاتبة السعودية جوهرة الرمال روايتها الإنسانية البديعة “أنا قبل كل شيء”.
رواية اختارت أن تلامس العمق لا السطح، وأن تخاطب بصيرة القارئ قبل بصره، من خلال تجربة بطلتها “ورد” أو “عفيفة”، فتاة عاشت تسع سنوات في ظلام البصر، ولكن الرواية تكشف لنا أنها أيضًا كانت تسير في دهاليز ظلام آخر: ظلام النفس، ظلام الخوف، وظلام الصمت.
Contents
بنية سردية
تقوم رواية “أنا قبل كل شيء” على هيكل سردي متين، يبدأ من الطفولة لينتقل تدريجيًا إلى الوعي الناضج، من فقدان البصر إلى عودته، ومن الظلام الحسي إلى صراع بصري داخلي أكثر تعقيدًا.
.تفقد “ورد” بصرها وهي لا تزال طفلة، بعد أن كانت تنتظر مرور بائع الحلوى، وهو مشهد بسيط جدًا لكنه يرمز إلى الفقد الطفولي الأول: الفقد الذي يسلب الإنسان براءته قبل أن يدركها.
هنا لا نواجه فقدانًا جسديًا فقط، بل أيضًا تحولًا في مسار الحياة؛ تصبح “ورد” فجأة في عزلة داخلية، غير قادرة على التواصل مع العالم الخارجي إلا من خلال السمع والتخيل.
الهوية
تبدأ “ورد” رحلة التأقلم القاسي مع واقعها الجديد، وهنا تسلط الرواية الضوء على الهوية التي يعاد تشكيلها قسرًا.
تصبح البطلة “عفيفة” في نظر والدها، فتاة يجب أن تكون قوية ومتماسكة رغم ضعفها، ويتبلور الصراع بين ذاتها الحقيقية وذاتها المتوقعة من الآخرين.
الحدث المفصلي في الرواية ليس فقدان البصر بل عودته المفاجئة حين تسقط ورد على الدرج وهي تهرع هاربة من مشهد زواج حبيب طفولتها (فهد) من صديقتها المقربة.
هنا تنقلب المعادلة؛ فبدلًا من أن تتحرر البطلة من الظلام، تقع في أسر صراع داخلي أكثر تعقيدًا.

صراع الاعتراف
هل تعلن عن شفاءها؟ هل ستظل في صمت؟هذا ليس مجرد تساؤل ساذج، بل هو جوهر الرواية.
ورد تخشى أن ينهار الحب الذي بُني على رعايتهم لها وهي كفيفة، تخشى أن تُعامَل ببرود أو شك، تخشى أن تُفهم على أنها كانت تخدعهم ،يأخذنا هذا الصراع إلى أعمق مستويات الرواية: الصدق والخوف، الحماية والانكشاف، الحاجة إلى الحنان والخوف من فقدانه.
هذا الصراع الأخلاقي-العاطفي هو ما يرفع الرواية من مجرد قصة شخصية إلى عمل إنساني شامل.
تحليل الشخصيات الرئيسية
ورد / عفيفة
شخصية متكاملة، غنية بالتناقضات، تنمو أمام أعيننا من طفلة خائفة إلى امرأة تقف على مفترق طرق،ورد هي نموذج لإنسانة عادية تمر بظروف استثنائية، ولا تُقدَّم كضحية نمطية بل ككيان واعٍ يخوض معاركه الداخلية وحده.
قوتها الحقيقية لا تكمن في عودة بصرها، بل في قدرتها على رؤية ما لا يُرى: نوايا الناس، هشاشة العلاقات، وحدود الحب المشروط.
فهد
حب الطفولة الذي لم يثمر، شخصية حاضرة غائبة في الرواية، يمثل الحنين، لكنه أيضًا يمثل الخذلان،زواجه من صديقة ورد يقود إلى نقطة الانفجار الداخلي للبطلة، وهنا تكمن عبقرية الكاتبة في جعل الحب نفسه محفزًا للتحول، لا النهاية السعيدة.
والدها
يناديها بـ “عفيفة” كناية عن الطهر والبراءة، لكنه يحمل مسؤولية غير مقصودة في تشكيل عبء “الابنة التي يجب أن تصبر”،فيصبح رمزًا للتوقعات العائلية التي تثقل كاهل الأبناء وتفرض عليهم صورًا نمطية من الاحتمال والقوة الزائفة.
الرمزية العميقة
الرواية مفعمة بالرموز، بداية من العمى نفسه، الذي لا يُطرح كإعاقة بل كحالة وجودية:
العمى الجسدي = عجز عن رؤية العالم.
العمى النفسي = عجز عن مواجهة الذات.
عودة البصر = اختبار للصراحة، لا نهاية سعيدة.
الصمت = شكل من أشكال الدفاع عن الذات.
“موجع أن تكون تمثالًا… وعيناك تبصران!”
رمزية التمثال هنا تعني الجمود، قسوة المظهر رغم الغليان الداخلي.

أسلوب الكاتبة
الكاتبة تمتلك قدرة فريدة على الجمع بين الأسلوب البسيط والرسائل الفلسفية،اللغة في الرواية ليست شعرية زائدة، لكنها شفافة، تسمح للقارئ أن يرى من خلالها مشاعر البطلة دون تكلف.
الأسلوب يجمع بين السرد الداخلي والمونولوج النفسي، مع لحظات من الحوار الحي، مما يمنح النص مرونة في التنقل بين الأحداث والمشاعر.
اقتباسات
١.”الأعمى ليس من فقد بصره… كم من مبصر حسبه الناس أعمى.”
تضعنا في مواجهة قاسية مع ما يعنيه الوعي والجهل.
٢.”يا الله، هب لي جنودًا من الصبر لأنبش قلبي من جديد!”
دعاء يحمل روحًا من المقاومة، والبحث عن النقاء رغم التشظي.
٣.”كل شيء يحدث لسبب… وحدها هي الأسباب من تجعلنا ننمو بطريقة مختلفة.”
تلخيص لرؤية الرواية حول الألم كطريق للنضج.
أسئلة بلا إجابات
الرواية لا تنتهي بإعلان ورد لشفائها، بل تتركنا أمام أسئلة مفتوحة:متى يجب أن نبوح بالحقيقة؟هل الحب قادر على تجاوز الصدمة؟هل حماية النفس بالصمت خيانة أم نوع من الحكمة؟وهل يُمكن للإنسان أن يختار نفسه دون أن يُدان من الآخرين؟
في هذا السياق، تتحول الرواية إلى مساحة تأملية تطرح قيمة الصدق الداخلي، لا كواجب أخلاقي، بل كحاجة وجودية.

البُعد الاجتماعي والثقافي
يمكن قراءة الرواية أيضًا على ضوء البُعد الاجتماعي والطبقي، وإن لم يكن ذلك بارزًا بشكل مباشر، إلا أن الظلال حاضرة:ورد تنتمي لعائلة محافظة، تتعامل مع الإعاقة بمنطق العيب والخوف والتكتم، ما يعكس أن بعض أشكال الظلام لا تأتي من العمى وحده،بل من الثقافة التي تُحاصر المختلف وتُلزمه بالتخفي.
وهذا ما يجعل من الصمت الذي اختارته البطلة شكلاً من أشكال المقاومة الخفية،في مجتمع يرى الاعتراف ضعفًا، والاختلاف تهديدًا.
واقعية مؤلمة
رواية “أنا قبل كل شيء” لا تقدم حلولًا جاهزة، ولا تَعِدُ قارئها بانتصارات براقة،بل تغوص في مناطق رمادية، حيث الخير والشر، الضعف والقوة، الحنان والقسوة، كلها تتقاطع في قلب الإنسان نفسه.
ولعلّ جمالها يكمن في هذه الواقعية المؤلمة، وفي جرأتها على قول ما لا يُقال:أن الإنسان قد يُحب من لا يستطيع أن يكون صادقًا معه،وأن الكذب أحيانًا لا يكون جريمة، بل غريزة نجاة.
قراءة تترك أثراً لا يُمحى
حين تُغلق الصفحة الأخيرة من “أنا قبل كل شيء”، لا تخرج منها كما دخلت ، هي رواية تنسلُّ بهدوء إلى أعماقك، تضع يدها على أماكن هشّة فيك لم تكن تعرف بوجودها، ثم تتركك تتأمل.
لا تقدم لك أجوبة، بل تمنحك المرآة، وتتركك في حوار داخلي طويل مع ذاتك: من أنت؟ ومتى تكون صادقًا؟ وما الذي تخفيه خلف صمتك؟ قليل من الروايات تُجبر القارئ على مواجهة نفسه، وهذه واحدة منها.
تجربة لا تُنسى، لأنها لا تُشبه إلا القارئ نفسه في لحظة ضعف أو صحوة.

ضمن هذا الإطار، تبرز جوهرة الرمال كصوت نسوي خليجي لا يبحث عن الصراخ أو المواجهة المباشرة،بل يشتغل على التغيير من الداخل، من خلال الحفر في المشاعر، وفي المناطق المهملة من التجربة النسائية اليومية.
وهذا ما يجعل “أنا قبل كل شيء” أكثر من رواية عن فتاة عمياء؛إنها مرآة لقارئ يبحث عن ذاته في صمت الآخرين.
تستحق هذه الرواية أن تُقرأ ببطء، وأن تُناقش، وتُعاد قراءتها.فهي ليست فقط رواية أحداث، بل رواية مشاعر وأسئلة.
التقييم النهائي
📖 اسم الرواية: أنا قبل كل شيء
✍️ اسم الكاتبة: جوهرة الرمال
📚 عدد الصفحات: 240 صفحة (تقريبًا)
🌟 تقييم النجوم: ★★★★☆ (4.5 من 5)
👥 الفئة المناسبة: اليافعون، محبو الأدب النفسي والاجتماعي
💡 الموضوع: فقدان البصر، الصدق، الهوية، الحب، الصمت، القوة الداخلية
اقرأ أيضا :حين بكت الجبال ورددت الصدى
اقرأ أيضا :أول مرة أصلي وكان للصلاة طعم آخر