اقرأ معنا

أرني أنظر إليك رحلة روح تخترق الجدران

وسط عالمٍ تتنازعه الصور النمطية، ويتكئ على إرثٍ ثقيل من الكراهية والخوف، تخرج رواية “أرني أنظر إليك” كصرخة هادئة، تتسلل إلى أعماق الروح، لا لتفرض رأيًا، بل لتفتح نافذة.

نافذة تُطل منها الروح على الحقيقة، لا كما يرسمها الإعلام أو يرثها الجسد من العائلة، بل كما تراها القلوب الصادقة حين تتجرأ على النظر.

الرواية، التي نسجتها خولة حمدي بأسلوبها المعروف المرهف، ليست مجرد قصة دينية عن فتاة تهتدي، وليست سردية عن تحوّل فكري أو انقلاب عقدي بل هي، في جوهرها، تجربة وجودية عميقة، تخوضها نفس أنهكها التناقض، وأرهقها الخوف، وبحثت عن يقين يعيد ترتيب العالم من حولها.

إنها ليست رواية، بل شهادة؛ ليست قصة عن الآخر، بل عن الذات حين تبدأ أخيرًا في النظر.

من الظلمة إلى النور

منذ الصفحات الأولى، تشعر القارئة أنها أمام نص مختلف ،نص لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل. لا يصف العالم كما هو، بل كما يُشعَر به.

تُولد البطلة في بيئة متزمتة، يغلب عليها الحذر، وتنشأ على فكرة أن الآخر، هو تهديد دائم، وشيء ينبغي تجنبه ،لكن شيئًا ما داخلها، يرفض هذا الجدار الذي رُفع أمام عينيها، ويبدأ في التساؤل:

“هل ما نُعلَّم صغارنا أن يخافوه… هو في الحقيقة ما يجب أن نخشاه؟ أم أن الخوف ذاته هو السجن؟”

من هنا يبدأ التشقق الأول في جدار الهوية الموروثة،ومن هنا تبدأ الرواية ليس بوصف البيئة، بل بإثارة السؤال،وخولة حمدي، كالعادة، تجعل من الأسئلة المفاتيح الكبرى للعمل، لا من الأجوبة.

التقاء العوالم

تنتقل البطلة من عالم مغلق، إلى فضاء جديد حين تبدأ دراستها الجامعية.

هناك، تلتقي بأشخاص لا يشبهون الصورة التي رسمتها لهم ذاكرتها الطفولية،مسلمون، وعرب، ونساء محجبات، لكنها لا تجد فيهم الكراهية التي حُفرت في وعيها، بل تواضعًا، واحترامًا، وطمأنينة.

“كانت تنظر إليهم كما ينظر طفل إلى ضوء غريب في ظلمة مألوفة… لا يعرف إن كان سيحترق أم يُبصر.”

الرواية في هذا المقطع تحديدًا، تسير بين الحذر والاكتشاف، وتنجح الكاتبة في رسم مراحل الانتقال النفسي بخفة، دون إقحام أو مباشرة.

الجميل أن خولة لا تهاجم البيئة الأولى، ولا تمجد الثانية، بل تُظهر التناقض بين القناعات الموروثة والواقع الحي،وتضع القارئ في قلب معركة: بين ما تَعلَّم وما شَهِد.

رحلة الأسئلة

الرواية تستند إلى خيط داخلي رقيق هو “صوت النفس”، ذلك الصوت الهامس المتسائل، الرافض لأن يُسجن داخل الموروث،صوت يتكرر بحدة وهدوء، شكًا ويقينًا، قلقًا وسلامًا.

“كنت أبحث عن الله، لا كما رووه لي، بل كما أشعر به حين أسكت العالم من حولي.”

إن الرواية هنا تتحول إلى تأملات فلسفية، لا توعظية، حيث يكون التحول نتيجة نضوج لا تأثير،وهذا ما يُميز العمل: أنه لا يدعو إلى الإسلام، بل يُظهر كيف يصل الإنسان إليه، رغم كل شيء.

اقرأ أيضا : حين بكت الجبال ورددت الصدى

دهشة القلب

في لحظة ما، تقرر البطلة أن تقرأ القرآن،لا قراءة جدلية، ولا بحثًا عن ثغرات، بل بدافع إنساني، خالص.

“كنت أقرأ فأبكي دون أن أفهم… ثم أفهم فأبكي أكثر.”

وهنا تكتسب الرواية لحظة سحرية،ليست لحظة تحول، بل لحظة كشف،حيث لا ينطق النص القرآني بالحروف، بل باليقين.

تتحدث الكاتبة عن هذا التحول بلغة شاعرية مفعمة بالصدق،ولا تكتفي بإبراز الإسلام كدين، بل كملاذ، كدفء، كمكان في الروح لا تُجاريه أرض.

من الفهم إلى القرار

بعد مراحل من التفكير، والصراع الداخلي، تبدأ البطلة في اتخاذ خطوات نحو التغيير،حجاب، صلاة، قراءة مكثفة، حوارات متعددة.

“كل شيء كنت أخشاه، بات الآن الشيء الوحيد الذي يمنحني الأمان.”

هذا التحول لا يأتي مرة واحدة، بل عبر مراحل متراكبة من الرغبة والخذلان، من النور والخوف ،وهنا تتجلى براعة الكاتبة في عدم التسرع، وفي احترام بطئ التحول النفسي.

البيت سجنًا

عندما تشعر البطلة بسلام داخلي، تبدأ الصراعات الخارجية،البيت لم يعد موطنًا، بل جدارًا جديدًا يُعاد بناؤه أمامها.”

لم يغضبوا لأنني كفرت، بل لأنني خرجت عن السطر،عن السطر الذي رسموه بخوف، وحبسوني داخله حبًا.”

وهنا تتفجر واحدة من أعمق ثيمات الرواية:أن الحب، حين يُمسخ إلى سيطرة، يُصبح قيدًا،الرواية تتعامل مع العائلة ليس كخصم، بل كأرواح مأزومة، خائفة، وعاجزة عن الفهم ،وتُظهر أن التغيير لا يهدد الآخرين، بقدر ما يهدد ما ظنوه يقينًا.

الوجه الآخر للانتماء

حتى بعد دخولها الإسلام، لا تجد البطلة في كل مكان صدرًا رحبًا،بل تصطدم بنظرات الشك من بعض المسلمين، الذين لم يعتادوا رؤية “الآخر” قادمًا إليهم.

“كنت بينهم، لكنهم ظلّوا ينظرون إليّ كأنني ضيفة مؤقتة.”

هذا التوتر الثنائي — الرفض من الأصل، والريبة من الحاضر — يجعل من البطلة جسرًا، لا وطنًا.

وتقول في إحدى اللحظات:”كنت أشبه الجسر، لا أنتمي إلى ضفتيه… ولا أملك أن أعود.”

الرواية بذلك تتجاوز حدود الدين، إلى سؤال الهوية نفسه،من أكون حين لا يُقبلني أحد؟ومن أنا، حين لا يبقى لي إلا الله؟

فلسطين

من المحطات المفصلية في الرواية، لحظة إدراكها لحقيقة ما يحدث في فلسطي،بعد أن نشأت على السردية الغربية التي تُشيطن الفلسطيني، تبدأ شيئًا فشيئًا في كشف الحقائق عبر مصادر عربية.

“كل شيء في التاريخ بدا لي وكأنه رواية حُذف منها نصف الفصول.”

تدرك البطلة أن المأساة ليست فقط في الكراهية، بل في تشويه الحقيقة،وأن المظلومية الكبرى ليست دينية فقط، بل إنسانية أيضًا،وتصبح فلسطين رمزًا للمظلومية المزدوجة: تلك التي حرّكت إنسانيتها قبل أن تُحرّك عقيدتها.

الانفصال في أرني أنظر إليك

مع التحوّل الديني، تأتي القطيعة،بيت الطفولة يُغلق، والأصدقاء يبتعدون، وتصبح الوحدة واقعًا لا خيارًا.

“لم يكن الوداع مشهدًا واحدًا، بل ألف مشهد موزع على أعينهم كلما رأوني.”

الكاتبة لا تُجمل هذه المرحلة،بل تُظهر ألم الفقد كما هو،والبطلة لا تُنكر وجع الانكسار، لكنها تقبل به كثمن لحقيقة لا يمكن الرجوع عنها.

اقرأ أيضا :في قلبي أنثى عبرية رواية إيمان يتنفس وجع

لحظة الوصول

النهاية لا تُبنى على مشهد بطولي،لا خطاب، ولا معجزة،بل مجرد نظرة هادئة في مرآة.

“حين أنظر الآن إلى وجهي في المرآة، أرى ذاتي، لا مرآة والديّ.”

بهذه العبارة، تُغلق الرواية، ويبدأ الإدراك،أن كل ما سبق، كان عبورًا نحو الذات.

اقرأ أيضا :استمتع بحياتك لأن الحياة لا تنتظرك

لغة الرواية

لغة خولة حمدي هي بطلة خفية،جميلة، شفافة، تتنفس بهدوء، لكنها قادرة على الطعن في العمق.

لا خطابة، لا إقحام، بل همس يستقر في القلب.

تقول:”بعض الصمت أبلغ من ألف كتاب، وبعض الدموع لا تُفهم إلا حين تُقرأ من العين مباشرة.”

هذا المزج بين الرهافة والوضوح، يجعل النص نابضًا بالحياة، قابلًا للتصديق، وقريبًا من القلب.

اقتباسات

1. “كنت أبحث عن الله، لا كما رووه لي، بل كما أشعر به حين أسكت العالم من حولي.”

2. “لم يغضبوا لأنني كفرت، بل لأنني خرجت عن السطر… عن السطر الذي رسموه بخوف، وحبسوني داخله حبًا.”

3. “كنت أقرأ فأبكي دون أن أفهم… ثم أفهم فأبكي أكثر.”

4. “كنت أشبه الجسر، لا أنتمي إلى ضفتيه… ولا أملك أن أعود.”

5. “حين أنظر الآن إلى وجهي في المرآة، أرى ذاتي، لا مرآة والديّ.”

6. “كل شيء في التاريخ بدا لي وكأنه رواية حُذف منها نصف الفصول.”

7. “بعض الصمت أبلغ من ألف كتاب، وبعض الدموع لا تُفهم إلا حين تُقرأ من العين مباشرة.”

8. “كنت أظن أنني سأجد الله في الكتب، فوجدته في قلبي.”

9. “الناس لا يكرهونك لأنك تغيرت، بل لأنك كشفت أنهم لم يتغيروا.”

10. “الحق لا يحتاج إلى جيش، يكفيه أن يُرى.”

التقييم النهائي

اسم الرواية: أرني أنظر إليك

اسم الكاتبة: د. خولة حمدي

عدد الصفحات: 398 صفحة

الفئة المناسبة: الشباب والراشدون، خاصة المهتمين بالهوية والدين

الموضوع: رحلة تحول ديني وفكري، صراع داخلي، كشف للصور النمطية، سرد واقعي عاطفي

تقييم النجوم: ⭐⭐⭐⭐⭐ (5 من 5)

السابق
حين بكت الجبال ورددت الصدى
التالي
البيوت الدمشقية القديمة: من دروب الأزمنة إلى فنادق ومقاهٍ تنبض بالحياة